سوريا وأرمينيا وشراكة التاريخ بين العرب والأرمن

SarkssianAssad_03بعد الزيارة التاريخية الناجحة التي قام بها السيد الرئيس بشار الأسد برفقة عقيلته إلى أرمينيا في حزيران 2008 تأتي زيارة الرئيس الأرمني السيد سيرج سركسيان والسيدة عقيلته إلى سورية.

زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى أرمينيا فتحت صفحة مشرقة ومتجددة في العلاقات بين سوريا وأرمينيا كبلدين أولاً وكشعبين يرتبطان بعلاقات قديمة وعريقة وتعود لألف وثلاثمائة عام وليس فقط لمائة عام كما هو سائد لدى الكثيرون، وهذا ما سأوضحه لاحقاً في هذا المقال.

تلك الزيارة كانت الأولى لرئيس سورية لجمهورية أرمينيا الثالثة التي استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي منذ عام 1991، وقد سبق للقائد الخالد حافظ الأسد أن زار جمهورية أرمينيا عام 1979 عندما كانت إحدى الجمهوريات السوفيتية ويطلق الأرمن على تلك الحقبة الممتدة من عام 1920- 1991 جمهورية أرمينيا الثانية أما جمهورية أرمينيا الأولى فتشكلت من عام 1918 وحتى عام 1920 حين دخلتها القوات البلشفية وتحولت إلى جمهورية سوفيتية إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي.

بعد زيارة السيد الرئيس بشار الأسد والتطلع بالارتقاء بالعلاقات مع أرمينيا في كافة المجالات جرى تبادلا لزيارات العديد من الوفود وتم التوقيع على العديد من الاتفاقات والبروتوكولات ومذكرات التفاهم، لايتسع المجال حالياً للتطرق إليها.

فزيارة السيد الرئيس لأرمينيا ومن ثم زيارته اللاحقة إلى جمهورية أذربيجان أسست لمكانة مستقبلية لسورية في منطقة جنوب القوقاز، هذه المنطقة الحيوية والهامة الواقعة على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا، والتي يطلق عليها (أوروآسيا) أو آسيا الأوروبية، وتنحصر بين البحر الأسود وبحر قزوين وقد أعطاها موقعها عبر التاريخ أهمية جيوسياسية خاصة جعلها موضع تنافس للسيطرة عليها من قبل الإمبراطوريات المتعاقبة كالفارسية والاغريقية والرومانية والبيزنطية والروسية والعثمانية، هذه المنطقة قريبة من منطقة الشرق الأوسط، بل أن بلداناً شرق أوسطية هامة تتشاطر معها بحدود مشتركة تمتد لمئات الكيلومترات، حتى أنه يمكننا القول نسبياً أن الجزء الجنوبي الغربي من أرمينيا يقع ضمن جغرافية الشرق الأوسط، فضلاً عن أن شعوب هذه المنطقة امتزجت بالعنصر العربي منذ بدايات العصر العباسي الأولأ، ومن هنا يأتي اهتمام سورية بتطوير العلاقات مع هذه المنطقة ومتابعة التطورات بين بلدانها والسعي للعب دور إيجابي في كل ذلك فشجعت بروتوكولي تطبيع العلاقات بين أرمينيا وتركيا لإقامة علاقات دبلوماسية وفتح الحدود المغلقة منذ عام 1993، إثر النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناكورنو كاراباخ، وإيجاد حل سلمي لهذه المشكلة.

فسورية لها مصلحة في فتح هذه الحدود لأن هذا سيشجع حركة النقل والترانزيت من سورية إلى أرمينيا ومناطق أخرى في جنوب القوقاز وتنشيط حركة التجارة. فضلاً عن ذلك فقد تصبح أرمينيا جزءاً من الرؤية الاستراتيجية للسيد الرئيس بشار الأسد في ربط البحار الأربعة أي: المتوسط والخليج العربي وبحر قزوين والبحر الأسود.

أما زيارة الرئيس الأرمني السيد سيرج سركسيان لسورية فهي الزيارة الثانية لرئيس أرمينيا بعد تشكل الجمهورية الثالثة، إذ سبق وزار الرئيس بتروسيان، وهو أول رئيس للجمهورية الثالثة، سورية عام 1992.

وأعود لأتحدث باقتضاب عن تاريخ العلاقات بين الشعبين العربي والأرمني، فالأرمن عريقون في التاريخ وقد تحدث الطبري في كتابه /تاريخ الأمم والملوك/ عن الأرمن كما تحدث عنهم ياقوت الحموي في كتابه /معجم البلدان/.

وفي أيام الفتوحات العربية وصلت جيوش العرب إلى أرمينيا مع بدايات العصر العباسي الأول الممتد ما بين 734م وحتى 1258م تاريخ سقوط بغداد والدولة العباسية على يد ملك التتار (المغول) هولاكو.

وبعد انهزام البيزنطيين أمام العرب في أرمينيا نشأت علاقات وطيدة بين العرب والأرمن واحترم هؤلاء خصوصية الأرمن ودينهم ومعتقداتهم وأمرائهم وكان الأرمني يعيش حسب تقاليده وعاداته وثقافته المتوارثة دون أي تدخل من العنصر العربي في هذا الشأن، ولهذا كانت فترات التوتر أو النزاعات بين العرب والأرمن لا تقاس بشيء أمام سنوات التعاون والانسجام والاندماج والتسامح والأخوة والسلام. وقد لمع في أرمينيا العديد من أسماء العلماء العرب، بحسب ما يذكر ياقوت الحموي في كتابه /معجم البلدان/، من أمثال: الأرجيشي، والقالي، والدبيلي، والأخلاطي (وهذا كما يروي التاريخ هرب من التتار ورحل مع أهله إلى مصر وهناك استقر في أحد الأحياء الذي مايزال يطلق عليه “حي الخلاطيين”.

فضلاً عن ذلك كان هناك تفاعلاً وتلاقحاً بين الثقافتين العربية والأرمنية نجم عنها تطوراً في ميادين عديدة ومنها ميدان طب الأعشاب، وهذا ما حصل بين العرب وكافة شعوب البلدان التي وصلوا إليها إذ حصل التفاعل والتأثر بين هذه الثقافات والعلوم والمعارف جميعها. ومن هنا يمكننا القول أن خلاصة الحضارة البشرية هي نتيجة تفاعل كافة أممها وشعوبها وثقافاتها.

وقد شارك العديد من الأرمن بشكل جاد وفعال في مجالات خدمة الدولة العربية في الحكومة والجيش والدبلوماسية من أمثال القائد العسكري الأرمني البارز علي بن يحيى الأرمني الذي قام بدور مهم في الحروب ضد الجيوش البيزنطية في القرن التاسع الميلادي، وكان حاكماً على “أرمينيا” التي كانت تشمل في ذاك الزمن أرمينيا وجورجيا وحران وداغستان. وهناك أيضاً قائد الأسطول البارز الذي ينحدر من أصول أرمنية حسام الدين لؤلؤ.

كما شغل الأرمن مناصب مرموقة في عهد الدولة الفاطمية في مصر، ومن بين هؤلاء “بدر الجمالي” الأرمني الأصل، وكان بداية قائداً لدمشق ثم والياً على عكا وقائداً عاماً للبحرية المصرية.

هذا بإيجاز شديد يلقي إضاءة على التواصل والتفاعل بين الأرمن والعرب من عمق التاريخ، أما إذا ما انتقلنا للتاريخ الحديث فنجد أن العديد من الأرمن شاركوا في حقبة النهضة العربية أمثال: حنا أبخاريوس وهوفسيب باكوس ورزق الله حسون (حاسونيان) وأديب اسحق (واسمه الأرمني أديب زالماتيان).

والأرمن جميعاً يشيرون الى دور سورية الكبير سورية وابنائها بما قدموه لهم من ملجأ ومأوى وملبس ومسكن ورعاية واهتمام إثر ما ألم بهم من مآسىٍ مع بدايات الحرب العالمية الأولى في أواخر زمن الدولة العثمانية، وهم كما كافة الشعوب العريقة يحفظون الود لمن وقف إلى جانبهم أيام المحن والشدائد، ولهذا تبقى سورية واسم سورية وشعب سورية بالنسبة لهم رمزاً في التاريخ يستحق كل العرفان والاحترام والتقدير.

وبمبادرة من بعض الأرمن السوريين يُشاد على طرف بحيرة يريفان نصباً تذكارياً تقديراً ووفاء لما قدمه العرب للأرمن.

وتأسيساً على كل ما تقدم يمكننا القول أن الاهتمام بتطوير العلاقات مع أرمينيا ومع الأرمن عموماً هي بعث لروح التاريخ وإحياء للروابط والوشائج التاريخية المشتركة ومن هنا تأتي رؤية السيد الرئيس بشار الأسد في ضرورة الارتقاء بالعلاقات مع أرمينيا في كافة المجالات وضرورة تبادل الزيارات على كافة المستويات.

عبد الحميد سلوم
وزير مفوض- قائم بأعمال السفارة السورية في أرمينيا

Share This