كارنيك جورج ميناسيان القاص الأرمني من البصرة وصحفي البحرين

ترددت طويلا -على غير العادة – في أختيار  عنوان لهذه المادة البحثية الطريفة عن القاص البصري الارمني كارنيك جورج، فحياته غريبة غرابة هربه من البصرة الى البحرين، وتأسيسه لجريدة ثقافية اسبوعية هناك، ثم اختفاء أثره بعد عام 1958. الوثائق التي لدي قليلة ولكنها غنية تكشف عن إصرار هذا المبدع على العطاء تحت أي ظرف ومكان، لكنه يذوب، يغادر لوحة العمل ولاندري أين اختفى بعد هذا ولنبدأ الحكاية من أولها:

يكتب الباحث الراحل د. عبد الآله أحمد في كتابه الوثائقي (فهرست القصة العراقية) أن كارنيك جورج نشر أول قصة قصيرة له تحت عنوان (الضحية) في جريدة بريد الجمعة في 5 كانون الاول 1947، وبذلك فهو قد نشر أول نص له بعد القاص البصري الرائد محمد روزنامجي بسنتين أذ نشر روزنامجي أولى قصصه في جريدة الهاتف بعنوان (راقصة) في 13 تموز 1945، والهاتف جريدة ثقافية ذات وزن معروف، لكن كارنيك جورج يبدأ النشر -ولا نقول الكتابة – قبل القاص البصري الرائد محمود عبد الوهاب بأربع سنوات كاملة، اذ نشر عبد الوهاب أولى قصصه في جريدة اليقظة (تحت أعمدة النور) في 13 نيسان 1957، والمعروف عن (وسوسة) عبد الوهاب في أتقاء النشرفي مقتبل حياته الادبية كثير، وهي (وسوسة) عرف بها صديقه الشاعر الكبير محمود البريكان أيضا، لكن كارنيك كان الاكثر جرأة ومغامرة.

نشر كارنيك قصته الثانية (أحلام) بعد عدة أشهر في مجلة (الدليل) النجفية لصاحبها موسى الاسدي، ولكنه تقدم خطوة ألى أمام عندما نشر قصته الثالثة في (الهاتف) في مايس  1949وهي مطبوعة مزكاة ثقافيا كان النشر فيها عند الادباء مثل النشر -بعد ذلك-في الاديب والآداب البروتيتين و(الأقلام) العراقية جواز مرور لاعتماد الثقة ثقافيا والشهرة المتممة للثقة والاعتراف بأدب الاديب.

انطلق كارنيك جورج الى مساحة العالم العربي لينشر قصصه في مجلتي (الدنيا) الدمشقية و(الرسالة) المصرية بين الاعوام 1949-1953، وكان قد نشر واحدة من قصصه في (الدنيا) عام 1952 تحت توقيع لم يستخدمه من قبل وهو (كارنيك جورج ميناسيان) دلالة على أصوله الأرمنية.

أصدر كارنيك جورج في العراق ثلاثة اعمال قصصية، أولها مجموعة قصص تحت عنوان (سهاد البريئة) طبعت في مطبعة الرشيد ببغداد عام 1948، ثم أصدر مجموعة قصصية ثانية في نفس المطبعة بمقدمة كتبها الاديب المصري أبراهيم أبو الفتوح مؤرخة في الاول من ك2 1949 حسب عبدألآله أحمد،ثم أصدر قصة طويلة تحت عنوان (نورية) دون تاريخ عن مطبعة الرابطة ببغداد، ولعل هذه القصة الطويلة كانت سببا في هجرة كارنيك جورج السريعة الى البحرين.

يقول كارنيك جورج في مقدمة كتبها لهذه القصة انه اختصر احداثها ليستطيع نشرها في صحيفة العراق اليوم (انتهى كلامه) لكنه لم ينشرها الا في كتيب مستقل سبب له المشكلة التي دفعته للرحيل استجابة لدعوة تلقاها من أبن عمه المقيم في البحرين ليعمل مساعدا له في مؤسسته التجارية. وليصدر صحيفة (الخميلة) الاسبوعية كأول صحيفة ثقافية في الخليج العربي في الاول من تشرين الاول 1952 حيث قدم لها بأفتتاحية قال فيها: (أن ظروفا خاصة كانت تحتم علي ترك وطني الاول العراق)!

لايذكر كارنيك الذي كان مصورا فوتوغرافيا ناجحا في البصرة سبب الرحيل لكن تفاصيل قصة (نورية) التي تعرض كارنيك جورج بسببها الى المحاكمة والتهديد هي التي تشي بالسبب. يقول الناقد د. شجاع العاني في كتابه (المرأة في القصة العراقية) ص90 س72 -بغداد عن هذه القصة ملخصا حيثياتها: (احمد بطل القصة يحجم عن الزواج وهو يحلم بالزواج من امرأة مثقفة تقرأ وتطالع الكتب كما تفعل الاوربيات، إلا أنه يضطر للزواج من الطالبة نورية بسبب الحاح والديه عليه، ونورية هذه طالبة أنهت مرحلة الدراسة الأبتدائية فقط وما يلبث احمد أن يشعر بالوهن والضعف بعد ثلاثة اشهر من زواجه منها) ويصف كارنيك نورية بأنها منهومة لا تشبع ولا ترتوي، ويستشير طبيبا لاينفع علاجه الفلسفي فينصرف الى الخمرة والملاهي ليعود ليلة ليجد نورية في أحضان سواه، وهي نهاية يجدها الاستاذ العاني مفاجئة ومن دون تمهيد، ولا أجدها كذلك فقد مهد لها القاص منذ ليلة الزوجين الاولى. وكانت هذه القصة سببا رئيسا من اسباب مغادرة كارنيك جورج البصرة الى البحرين لتعرضه للتشهير والمحاكمة بسببها والتهديد بالتصفية من قبل أقارب (نورية) الحقيقية اللذين تنادوا لأيذاء القا ص بسبب من (الفضيحة) التي طالتهم.

إن متابعة واعية لصحف البصرة أيامها مثل (الناس) و(الثغر) تكشف عن جوانب من المحاكمة والتهديد، وهما أمران تعرض لهما كارنيك دون أن يفصح عنهما في أفتتاحية العدد الاول من (الخميلة). في الفصل الثالث من كتابه وعنوانه (المرأة والعلاقات غير الشرعية) يحلل العاني قصصا لمحمود السيد (نكتة العمامة) ولكارنيك جورج (المنديل) و(الضحية) ليجد في النماذج لونا من تسرع الرجال في قتل بناتهم بتهم باطلة لا تستند الى حقيقة وليجد في أداء كارنيك جورج فنيا في ( الضحية) نوعا من الوعي والتنوع في العمل عندما يستفيق الاب في السجن الى هول الجريمة التي أرتكبها بحق ابنته البريئة. ويلاحظ د. العاني ص132 (أن معظم القصص باستثناء (الضحية) قد تناولت مشكلة الزنا والقتل غسلا للعار بصورة جامدة بعيدة عن جوهر الفن فعمد الى تصوير الواقع تصويرا حرفيا) وهو أمر يزكي تجربة كارنيك جورج المتفردة التي لا يشير اليها د.  عبد الاله أحمد بسطر واحد في دراساته عن القصة في العراق، وهو أمر أجده غريبا من باحث ثبت مثله ناقد اسبق بالكتابة عن تجربة كارنيك جورج هو الاستاذ عبد القادر حسن أمين في كتابه (القصص في الادب العراقي الحديث) ط1955 يجد في تجربة جورج الكثير من المبالغات واصطناع المصادفات والحديث عن الجنس المحرم.

والواضح هنا أن كارنيك جورج كان قد ترك اصدار المجاميع القصصية راحلا عن البصرة الى البحرين، مستمرا في مراسلة مجلة (الدنيا) الدمشقية حتى عام 1953، وكان قبل ذلك قد بدأ بإصدار (الخميلة) كأول مطبوع ثقافي في البحرين يقول عنه خالد البسام أنه كان مطبوعا حرك الجو الثقافي في البحرين وجمع شباب الادب اليه. ، بل أن كارنيك جورج كان عنصرا فاعلا في النقاشات العامة وخصوصا عند تأسيس (نادي سيدات البحرين) وافتتاحه في السادس من ك2 سنة 1953 برعاية الليدي بلجريف زوجة المستشار البريطاني لحكومة البحرين، حيث وقفت جمعيات محافظة ضد النادي واهدافه الاجتماعية، ووقف ادباء وساسة ومفكرون مع النادي، وكان من الغريب أن يقف القاص والصحفي اللبراري كارنيك جورج ضد تأسيس النادي ويكتب في (الخميلة) ما يؤكد هذا الموقف الذي يبدو غريبا لأول وهلة ولكني أجده متناسبا مع محنة كارنيك الاولى في وطنه وخشيته من تكرار فراره لو تظاهر بغيرما أعلن، في (الخميلة).

خصص خالد البسام في كتابه الذي صدر عام 2007 تحت عنوان (رجال في جزائر اللؤلؤ) فصلا عن كارنيك تحت عنوان (الخواجة جورج ميناسيان. ….عبد الناصر يغتال الخميلة في البحرين) تحدث فيه عن جهد القاص العراقي المقيم في البحرين في التنشيط الثقافي عبر جريدته الاسبوعية الثقافية (الخميلة) التي صدرت عن مطبعة المؤيد في اول تشرين أول 1952 حيث وصف تبويب الجريدة بصفحاتها الادبية والفنية والاخبار السياسية العامة التي لابد منها، وأقبال الكتاب والقراء عليها حتى طغى الحدث السياسي العربي على التفاصيل وظهر عبد الناصر كقوة كاريزمية لايستهان بها حيث زار البحرين زيارة قصيرة عام 1953 أضعفت أهتمام الشباب بالعمل الثقافي وأغلق القاص البصري مجلته مضطرا بعد أن أحاقت به الخسائر.

الاستاذ علي سيار مدير مطبعة المؤيد (جريدة الوطن 4 يناير 2013) وفي تحقيق اجراه الشاعر علي الشرقاوي مع الشخصية الاجتماعية محمود المردي يقول المردي فيها أن سيارا أخبره ان عراقيا دخل عليه يوما وهو يحمل ماكيت (الخميلة) وترخيصا بنشرها، وأنه فتح مطبعته أمام كارنيك جورج ميناسيان ليصدر (الخميلة) منذ عام 1952 حتى اغلاقها.  اسئلة كثيرة تفتح بعد كل هذه الوقائع اهمها: اين هو كارنيك جورج اليوم؟ لاجواب واضح سوى انه رحل الى الدار الآخرة في (صلاح الدين). متى؟ وكيف؟ الصورة غير واضحة.

السؤال الآخر هو ما عمر كارنيك جورج وهو في البحرين عام 1953 ؟ الصورة التي نشرها خالد البسام في كتابه تعطي دليلا أنه بين 35 -40 وعاما، ولو امتد به العمر حتى اليوم لكان في المئة وهو أمر نادر كما نظن. وبعد فالاسئلة مفتوحة لا تنتهي حول كارنيك وسواه فنحن لانوثق بشكل جيد وتلك آفة أفقدتنا الكثير، والامل معقود على باحث آخر يعين ويستجلي ما أختفى حتى اليوم من تاريخ القصة العراقية وأهلها.

باسم عبد الحميد حمودي

الزمن – بغداد

Share This