باراجانوف من خلف القضبان (2): تحت مجهر الكي جي بي!

علي كامل 

ايلاف

“إن الشيء الأكثر رعباً هو حين تُسحب بهدوء من قدميك ليلاً وأنت نائم. هذا يعني أنهم يوقظونك لتنقل إلى معسكر سجن آخر”  (س. باراجانوف)

لندن: كانت حياة الفنان في الحقبة السوفييتية مهددة ومعرضة للسجن أو الموت في أية لحظة، فقد قاسى الكثير منهم من الاضطهاد والقمع والملاحقة وأودع البعض في معسكرات الاعتقال فيما هرب القسم الآخر إلى خارج البلاد. وليس ثمة مثال أقرب وأكثر جلاءاً وشجناً من مصير المخرج السينمائي سيرغي باراجانوف الذي أثار سجنه المتكرر غضب واحتجاج الكثير من مثقفي العالم خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. باراجانوف في واقع الأمر ليس شخصاً منشقاً أو معارضاً سياسياً، إنما هو مجرد فنان حالم ومتمرد، وموقفه شبيهاً بموقف معاصره الشاعر الروسي الكبير جوزيف برودسكي الذي قال مرة: “السياسة أشبه بغابة مظلمة. الحياة والموت كلاهما فيها قاتم وممل”.

لقد استهل باراجانوف مشاكساته مع السلطات منذ عام ١٩٤٧ إثر توقيعه على عريضة تستنكر ملاحقة الأجهزة الأمنية للفنانين الأوكرانييين وتنتقد أسلوبهم البربري في التعامل معهم، السبب الذي دفع بتلك الأجهزة إلى اعتقاله وسجنه لأسباب ملفقة كالمثلية وإثارة المشاعر القومية في البلاد وسواها. وهكذا ومنذ تلك اللحظة وضع باراجانوف تحت مجهر أجهزة المخابرات السوفييتية وهو لم يزل بعد طالباً في معهد موسكو السينمائي، ليصبح فيما بعد زبوناً دائم لسجونهم الرهيبة طوال حياته. يومها كتب صديقه الأقرب أندريه تاركوفسكي:  “في بلد مثل الإتحاد السوفييتي لا يمكنك مطلقاً أن تتفادى الرعب والتهديد والموت، ومع ذلك فقد أخفقوا جميعاً في اسكات صوت باراجانوف وسحق ارادته وتوقه إلى الحرية. باراجانوف ربما هو الشخص الوحيد في جميع أنحاء البلاد من جّسد القول المأثور: “إذا أردت أن تكون حراً، فكن حراً “.

إن محاولات التضييق والحصار وفرض الحظر على نشاطاته ومشاريع أفلامه ابتدأت منذ عام ١٩٦٥ من قبل إدارات السينما السوفييتية، المحلية (في كييف ويريفان) والإتحادية (لجنة الدولة لصناعة السينما) على حد سواء، دون تسويغ أو نقاش تقريباً. وقد توج كل ذلك بالقاء القبض عليه في أواخر عام ١٩٧٣ بعد أن الصقت به تهم ملفقة عديدة كانتهاكه للأعراف الإجتماعية والثقافية وإثارة النعرات القومية ومحاولته الهرب من البلاد ثم الرشوة والسرقة وأخيراً تهمة اغتصابه أحد أعضاء الحزب الشيوعي السوفييتي!. وأحيل ملفه حينها إلى محكمة أمن الدولة وزج في معتقل أوكراني ذات تدابير أمنية قصوى بانتظار قرار المحكمة. هنا لابد من إلقاء الضوء على ملابسات تلك المحكمة ونوع التهم الملفقة والشهادات الكاذبة التي واجهها باراجانوف لوحده قبيل إيداعه السجن.

في كتابه (سينما باراجانوف) الصادر في عام ٢٠١٣ وفي الفصل المعنون بـ “المنفى الداخلي.. الإعتقال والسجن، ١٩٧٣ ١٩٨٢” يذكر المؤلف جيمس ستيفن، أن فيتالي نيكتيجنكو رئيس المخابرات الأوكرانية كان قد بعث تقريراً إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا في ٤ أبريل ١٩٦٩ يتعلق بمشاكل وقعت في ستوديو دوفجنكو السينمائي مشيراً بالتفصيل إلى الشكاوى العديدة التي وردتهم من قبل مخبرين في الإستديو تتعلق بعمل الإستديو وسلوك بعض الأفراد العاملين فيه وخصوصاً سرغي باراجانوف، جاء فيه:  “بلغنا من أحد مديري الإنتاج في الاستوديو إن المخرج سيرغي باراجانوف يحاول التأثير سلباً على أفكار الشباب العاملين في الحقل الإبداعي في الإستديو. فقد صرح في أحاديثه المتكررة وأكثر من مرة بآراءه الفكرية المعادية للحكومة السوفييتية، وقد عبر عن تلك الآراء بقوله: أنه لو تسنى له السفر إلى الخارج فلن يعود ثانية إلى البلاد”.  وزعم التقرير أيضاً أنه حينما طلب منه تقديم معلومات عن عمله من قبل الموسوعة السوفييتية الكبرى كتب في رده معلومات تتضمن شتم وتهجمات مضادة للإتحاد السوفييتي. ومن بين الأمور الأخرى التي ذكرها التقرير، “أنه كتب: أخبروا قرائكم بأنني متّ في عام ١٩٦٨ بسبب سياسة الإبادة الجماعية للنظام السوفييتي”.

ليس هذا فحسب، بل أشار تقرير كي جي بي أيضاً إلى أن باراجانوف طلب الزواج من طالبة فرنسية “كي يهاجر من البلاد، متذرعاً بحجة أن بينه وبين الشيوعيين سوء فهم ولا يفهم أحدهم الآخر”. أما تقرير المخابرات الموّجه إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا والمؤرخ في ٢٣ ديسمبر ١٩٧١ فقد تم ذكر اسم باراجانوف بشأن الجدل الدائر حول الحاجز الأيقوني لكنيسة (كوسماتش) الذي تم اقتلاعه خلال فترة إنتاج فيلمه (ظلال أجدادنا المنسيين) والذي نقل في نهاية المطاف إلى متحف الدولة للفنون الأوكراني في كييف للحفاظ عليه. وفي تقرير ليونيد تشيرتشينكو، رئيس القسم الاداري للمخابرات الأوكرانية ورئيس القسم الثالث للمديرية الخامسة، اتهم تشيرتشينكو مختلف المعارضين لا سيما المؤرخان والسياسيان المعارضان (فالنتين موروز وفياتشيسلاف تشورنوفيل)، بمحاولتهما “اثارة المشاعر القومية بين سكان قرية كوسماتش”. وقد ارفقت بالتقرير رسالة دوّنها باراجانوف تتضمن احتجاجه على الاتهامات المتواصلة ضده بشأن سرقة تحف الكنيسة وكذلك احتجاجه ضد التقرير السلبي للمخابرات حول سلوكه وأنشطته كمخرج.  وقد ورد في التقرير أيضاً: “إن العديد من العمال في الإستوديو قد وصفوا سيرغي باراجانوف بأنه شخصية منحّلة أخلاقياً وقيل أنه حّول شقته إلى بؤرة تجمع العديد من الأشخاص المشكوك فيهم ممن يتعاطون السكر والفسوق والمضاربة والسياسات الضارة للبلاد، وقيل أن نقاشات مضادة لسياسة الإتحاد السوفييتي كانت تدور هناك في كل لقاء”. وإلى جانب تأكيد الاتهام وتكراره بشأن الرسالة التي بعثها إلى الموسوعة السوفيتية الكبرى، أشار التقرير كذلك إلى صلات باراجانوف المشبوهة بالمفكرين القوميين وتصريحاته المتنوعة والمتعددة ضد الشيوعية والنظام السوفياتي فضلاً عن التعليقات التي عبر فيها عن رغبته في مغادرة البلاد أمام الزوار والسياح الأجانب. ولم يكتف تشيرتشينكو بكل ذلك بل حاول الإيغال عميقاً في أحقاده حين زعم أن باراجانوف كان هو الوحيد وراء فقدان بعض القطع الأثرية لكنيسة كوسماتش متذرعاً بقوله: “ووفقا لبيانات الشرطة السرية زعم باراجانوف أنه يتحمل لوحده مسؤولية ما يتعلق بحقيقة أن جزءا من القطع الأثرية قيد البحث لم تصل إلى المتحف وبعضها تم استبداله”. تجدر الإشارة هنا إلى اللغة الغامضة والملتبسة التي يستخدمها التقرير فضلاً عن إقحامه موضوع سرقة تحف الكنيسة الذي جرى عام ١٩٧١ ليتزامن مع الفترة التي اعتقل فيها باراجانوف، على الرغم من أن استجواب هيئة الادعاء العام للشهود في وقت لاحق لم يثبت التهم المترتبة حول تلك السرقة. في خلاصة تقريره كتب تشيرتشينكو: “وقد أكد الزملاء الشخصيين للمدعو باراجانوف أن غدره وخيانته للبلاد وآرائه المعادية للسوفييت ما هي إلا مجرد مظهر من مظاهر الأمية السياسية والفوضى والطيش والحقد والسعي لتحقيق الشهرة وجذب الانتباه إلى شخصه بأية وسيلة”.  وفي ختام التقرير تمت الإشارة أيضاً إلى توقيع باراجانوف على ماسمي بـ (رسالة ١٣٩ مثقف) عام ١٩٦٦ الموجهة إلى الرئيس بريجنيف للدفاع عن الصحفي الشاب فياتشيسلاف تشيرنوفال الذي سجن بسبب مقالاته السياسية المناهض للسوفيت.

ويشير جيمس ستيفن في مكان آخر من كتابه (سينما سرغي باراجانوف) إلى أن جهاز المخابرات لم يكتف بكل التهم السابقة، بل لجأ هذه المرة وبإصرار واضح إلى تلفيق شهادات جديدة منتزعة بقوة التهديد والإكراه من بعض معارف وأصدقاء باراجانوف محاولة منه تثبيت تهمة اللواط والمثلية الجنسية لتشويه سمعته الأخلاقية في الوسطين  الاجتماعي والثقافي على حد سواء. وإحدى تلك الشهادات قدمها شاب معماري موهوب مقرّب من باراجانوف يدعى ميخائيل سينين. ففي افادته زعم سينين أن كوندراتييف (وهو مخرج وثائقي سبق له أن عمل سوية مع باراجانوف) وإيفان بيسكوفوي (وهو رجل متزوج وعضو في الحزب الشيوعي الأوكراني) وفالنتين باراشاك (وهو طالب من مدينة لـﭭـيـﭫ كان يقيم في شقة باراجانوف مجاناً) كانوا على علاقة مثلية مع باراجانوف. وثمة شهادة أخرى أضيفت لتأكيد التهمة قدمها صديق آخر اسمه ديسياتنيك كانت مرفقة بأدلة جنائية تثبت فعل اللواط، كما يشير قرار المحكمة.  سافر باراجانوف خلال هذه الفترة العصيبة إلى موسكو لحضور قداس جنازة صديقه المدير الفني ياكوف ريفوش الذي توفي فجأة في ١١ ديسمبر ١٩٧٣. وفي ١٦ ديسمبر نشرت إحدى الصحف الأوكرانية خبراً عن انتحار ميخائيل سينين في حمام منزله على إثر الشهادة التي أدلى بها زوراً ضد باراجانوف وأصدقاءه الثلاث تاركاً رسالة لم يعرف مضمونها حتى اليوم.  حينما عاد باراجانوف إلى كييف في ١٧ ديسمبر اقتيد فوراً للاستجواب وتم احتجازه في ٢٠ ديسمبر، وظل رهن الاعتقال لحين محاكمته. إن اعتقال باراجانوف وإدانته بهذه الطريقة كان له بالطبع دلالة وأهمية رمزية بالنسبة للحكومة الأوكرانية والسوفييتية معاً. فقد كان باراجانوف حينها بمثابة رمز لتيار (السينما الشعرية) في أوكرانيا وذلك بفضل فيلمه المميز (ظلال أجدادنا المنسيين)، يضاف إلى ذلك أنشطته السياسية وشخصيته كفنان مميز وسط عموم الناس في كييف وكذلك دعمه الكبير والملحوظ للفنانين والمثقفين الشباب الأوكرانيين. الموضوع الآخر الذي أثار التساؤلات حينها هي ذلك التزامن المفضوح بين قضية باراجانوف والتقرير الذي القاه فولديمير شيربيتسكي رئيس الحزب الشيوعي في أوكرانيا بتأريخ ١٦ مايو ١٩٧٤، في الجلسة الكاملة للجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا، والذي كان بعنوان: “مهمة منظمات الحزب في زيادة تحسين العمل الفكري على ضوء القرار الصادر عن المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي”.

ففي القسم المعنون “من أجل تعزيز دور وسائل الإعلام والدعاية والأدب والفن” بدأ شيربيتسكي تعليقاته حول الإنتاج السينمائي قائلاً: “السينما، كما هو معروف، هي واحدة من أكثر أشكال الفن شعبية ولا بد من القول أن وضع صناعة الأفلام في الجمهورية يستلزم تصويبه ولو ببطء. وينبغي الاشارة أيضاً أنه ظهرت منذ وقت قريب بعض الأساليب السينمائية فيما يسمى بـ(السينما الشعرية) تتضمن مدلولات ازدرائية تؤكد على الرموز التجريدية والتشديد الحاد على الصور الزخرفية الأثنوغرافية، والتي يقف وراءها ثلة قليلة من المخرجين بالطبع، محاولين إشاعة هذا الأسلوب بوصفه المبدأ الموّجه في مجال تطوير صناعة الأفلام في أوكرانيا. لكن يجب أن تعرفوا أن مثل هذه الآراء قد تم التغلب عليها الآن تماماً”. نشر نص هذا التقرير كاملاً في اليوم التالي في صحيفة “كييف المساء” متضمناً ملاحظات أو تعليقات حول مفهوم السينما الشعرية. وقد كان واضحاً للجميع مغزى الخطاب وتوقيته مع فترة الاعتقال. الشخصية السياسية البارزة والمؤرخ وعضو المكتب السياسي والأمانة العامة للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي ألكسندر نيكولايفيتش ياكوفليف هو نفسه تساءل حينها وبدهشة عن مدى المعرفة الشخصية لتشيربيتسكي بمفهوم (السينما الشعرية) ملمحاً أو موحياً باحتمال أن هذه المعلومة قد أعطيت له عرضاً أو قبل فترة وجيزة من قراءته للخطاب ليضيفها إلى التقرير. لكن، وبغض النظر عما إذا كان شيربيتسكي هو الذي كتب ما قاله أو تم تسريبه اليه حزبياً، توضح الصورة وبشكل جلي الموقف المشحون عدوانية وغيضاً إزاء الفن ككل في أوكرانيا، وإزاء باراجانوف على وجه الخصوص، وحقيقة أن إسكات الرأي السياسي المخالف كاد يحتل مرتبة عالية في جدول أعمال شيربيتسكي.  هكذا وبتهم ملفقة وكاذبة سيق باراجانوف إلى السجن في السابع عشر من شهر ديسمبر ١٩٧٣ ليمضي خمس سنوات في أحد معسكرات الأشغال الشاقة في سيبيريا، تماماً مثلما سيق من قبله الكاتب الروائي الروسي فيودور دستوييفسكي إلى ذات المعسكرات في ربيع عام ١٨٤٩.

Share This