على أبواب مئوية الإبادة الأرمنية .. من الآلام إلى كنيسة الشهداء

حوار “وطني” مع مطران الأرمن الكاثوليك في مصر

سعد زغلول طالب بقدوم ايتام الأرمن للعيش بمصر.. بابا الفاتيكان يترأس قداساً فى الذكرى المئوية.. مطران “ماردين” شهيد مذبحة 1915 خدم كاهناً بالاسكندرية و قتله الاتراك بعد أن شاهد بعينه استشهاد 417 من ابناء رعيته ..

تعد أرمينيا واحدة من الأمم الصغيرة القليلة التى استطاعت أن تعيش رغم الاعتداءات المتكررة والتدمير والاضطهاد، وقد وصف الأرمن عبر التاريخ بأنهم قادرون على التكيف والمرونة، كما أنهم يتميزون بالإقدام و الصمود.. فكيف استطاعوا أن يستمروا بينما اختفت أمم أكبر و أكثر قوة؟. وكيف استطاعوا أن يقدموا مساهمات متميزة إلى حضارات العالم؟ .. إنه التاريخ المدهش للشعب الارمنى عاماً و للكنيسة الارمنية خاصة، فقد عانت كنيسة الارمن كثيرا من الاضطهادات وبرغم هذا لم ينفصلوا عن تعلقهم بإيمانهم ومسيحيتهم وصارت كنيسة الشهداء، إذ وصل عدد الشهداء عام 1915 إلى مليون و نصف المليون فى مجازر الاتراك العثمانيين.

ونحن على اعتاب المئوية الاولى لذكرى شهداء الإبادة الارمنية والتى تحتفل بها جميع الكنائس الارثوذكسية والكاثوليكية والانجيلية الارمنية بالعالم من ابريل عام 2015، التقت “وطني” بنيافة المطران كريكور أوغسطينوس كوسا أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك بعد عودته من اجتماعات السينودس المقدس للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية  بدير سيدة بزمار ببيروت، والذى كان من أهم توصياته ملاحقة الأعمال التمهيدية لتطويب شهداء الإبادة الأرمنية الذين سقطوا في سبيل إيمانهم والشهداء الأرمن الذين سقطوا على أراضي أوروبا الشرقية تحت الحكم الشيوعي، استعدادا لاحتفال الشعب الأرمني بالمئوية الأولى للمذابح الأرمنية.

يقول المطران كريكور أوغسطينوس كوسا: إن الارمن عاشوا في ظل الحكومات المتعاقبة لتركيا والتى كان اخرها الإمبراطورية العثمانية، وقد اعترف بهم العثمانيون كطائفة كاملة الحقوق، وبحلول القرن التاسع عشر أصبحت الدولة العثمانية أكثر تأخرا وتخلفا من غيرها من الدول الأوروبية حتى أنها لقبت “رجل أوروبا العجوز”، وخلال هذه الحقبة حصلت العديد من الشعوب على استقلالها – اليونان والرومانيون والصرب و البلغار- عن الدولة العثمانية .

كما ظهرت حركات انفصالية بين سكانها العرب والأرمن والبوسنيين مما أدى إلى ردود فعل عنيفة ضدهم، و يتهم عبد الحميد الثاني بكونه أول من بدأ بتنفيذ المجازر بحق الأرمن وغيرهم من المسيحيين الذين كانوا تحت حكم الدولة العثمانية، ففي عهده نفذت تلك المجازر حيث قتل مئات الآلاف من الأرمن واليونانيين والآشوريين لأسباب اقتصادية ودينية متتعدة، وبدأت عمليات التصفية بين سنتي 1894-1896 وهي المعروفة بالمجازر الحميدية، وفي 1908 كانت مجازر أخرى في كيليكيا كمجزرة أضنة وراح ضحيتها حوالي 30,000 أرمني.

وعن ابادة الأرمن عام 1915 قال نيافته: فى الحقيقة الإبادة الأرمنية لم تبدأ عام 1915 لتنتهى فى ذات العالم، لكنها بدأت فى عام 1891، حيث منع الاتراك تدريس اللغة الارمنية من المدارس الارمنية، كما منع تداول الكتب الثقافية، و الصحافة، و المجلات الارمنية، وكان وراء ذلك غيرتهم و حسدهم لوصول الارمن لكل المراكز العليا و الحساسة فى الشؤن الادارية للحكومة العثمانية التركية.. مرت السنين وتزداد غيرة الاتراك وفى ليلة 24 إبريل عام 1915 أخذ أكثر من مائتين من الكتاب والشعراء و محررى الصحف والمدرسين والمحامين و أعضاء البرلمان و غيرهم من قادة الجالية الارمنية فى إسطنبول قسراً من بيوتهم و قتل الشباب و الاطفال، و تعرض المسنين للضرب والتشويه ثم الحرق، وأغتصبت النساء و أخذوا الاجنة من بطن الامهات لاسقاطه بالمياه، وصلبوا النساء و الرجال و هم يقولوا لهم:”انتم تؤمنون بيسوع المخلص.. فأطلبوه ليخلصكم”، وكان الشهداء يصرخوا كما كان يسوع يصرخ على الصليب و يقول:”يارب اغفر لهم خطاياهم”…

و قال نيافة المطران متألماً- و كأن نيافته أمام مشهد الابادة- حقاً ارتكبوا جرائم لا يصدقها العقل ولجؤوا إلى كل اشكال الاستبداد التي لا يمكن تصورها، ونظموا أعمال النفي والمجازر وأحرقوا أطفالاً رضعاً وهم أحياء بعد أن صبّوا عليهم النفط واغتصبوا النساء والفتيات أمام ذويهم المقيدي الأرجل والأيدي واستولوا على الممتلكات المنقولة والغير منقولة للشعب الأرمني، وطردوا إلى بلاد ما بين النهرين والصحراء السورية أناساً في حالة من البؤس والشقاء وأهانوهم واضطهدوهم خلال الطريق بوحشية لا توصف.. و امتد القتل الى الاباء البطاركة و الاساقفة حتى وصل عام 1915 إلى استشهاد مليون و نصف المليون فى مجازر الاتراك العثمانيين، و ظل الشعب الارمنى يحتفل بذكرى الابادة فى يوم 24 ابريل من كل عام.. و حتى اليوم مازال الاتراك يحاربون الأرمن و خاصا الكتاب منهم مما ادى الى قتل الصحفى هرانت دينك قبل سنوات قليلة.

وتابع نيافته قائلاً: إن الاتراك العثمانيين طالبوا علناً أنهم مستعدون لرد حرية الارمن وحياتهم بسلام، و لكن اذ اعتنقوا الديانة الاسلامية و دعا رسمياً المطران إغناطيوس مالويان مطران ماردين  – بارمينيا- لنوال الوسام الكبير من قبل الدولة العثمانية التركية، فقال نيافته وقتها: أعلم ما يأتى بعد هذا الوسام..و بالفعل عند استلامه الوسام قدمت له الدعوة لاعتناق الاسلام فرفض و قال: “أنا وشعبى مستعدين للاستشهاد وكنيستنا تنتظر لقاء المسيح”: وفي 11 يونيو عام 1915 احتفل المطران بعيد القربان المقدس وبعد الاحتفال قبض عليه و ساقوه و سجنوه و بعد ذلك قلتوا امام عينه 417 شهيداً، وبين الحين والاخر يقولوا لنيافته.. “الاستشهاد أم اعتناق الاسلام” فكان يجيب قائلا:”لا أتراجع.. أنا من أجل المسيح أحيا، و من أجل المسيح أموت”، حتى تم استشهاده على يد الاتراك.

وأضاف نيافة المطران كريكور، أن نيافة المطران أغناطيوس كان يبلغ من العمر 46 عاماً، وخدم كاهناً للكنيسة الارمينية بالاسكندرية لعدة سنوات حتى تم انتخابه مطراناً لماردين وكان يجيد العربية، الارمينية، الفرنسية، الايطالية، التركية، و الاسبانية.

وأكد نيافته قائلاً: أن مذابح الارمن تعتبر من جرائم الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ الحديث، والباحثين يشيرون بذلك إلى الطريقة المنهجية المنظمة التي نفذت من عمليات قتل هدفها القضاء على الأرمن، وتعتبر مذبحة الأرمن ثاني أكبر قضية عن المذابح بعد الهولوكست, وكلمة الإبادة الجماعية صيغت من أجل وصف هذه الاحداث، مضيفاً ان هناك 24 دولة اعترفت رسميا بمذابح الارمن بأنها إبادة جماعية، وبسبب هذه المذابح هاجر الأرمن إلى العديد من دول العالم من بينهم مصر، سوريا، لبنان، العراق، الاردن، و الاراضى المقدسة، مؤكداً نيافته أن بعد الابادة دعا ملك السعودية وقتها البلاد العربية ان تفتح ابوابعا أمام الشعب الارمنى المضطهد، و بمصر دعا سعد زغلول عام 1917 ان يأتى ايتام الارمن ليعيشوا بسلام على الارض المصرية مع أخواتهم الارمن الذين جاءوا من قبل الابادة.

وعن  المصالحة وعودة الارمن الى ارضهم وفتح كنائسهم و ممارسة طقوسهم، قال نيافة المطران كريكور: الحكومة التركية ترفض تماما كلمة المجازر الارمينية وتقول للمصالحة على الارمن ألا يتحدثوا عن مجازر 1915، ووصل الامر بتركيا انها جعلت من يوم 24 ابريل – ذكرى الشهداء المليون والنصف مليون- يوم عيد الطفولة وتم الغاء واقعة المجازر من الكتب التاريخية ومن مراحل التعليم لديهم.

و أخيراً فى أكتوبر 2009 كانت هناك اتفاق للمصالحة و السلام و عند التوقيع رفض الجانب التركى بسبب رفضه الحديث عن الابادة، ويضيف نيافة المطران كريكور أن نيافته فى ذلك الوقت كان حاضراً السينودس الخاص من أجل افريقيا بروما بحضور البابا بنديكتس السادس عشر بابا الفاتيكان الفخرى، وطلب من نيافته بالقاء كلمة عن الاتفاقية المنتظرة، فقال نيافته فى كلمته: “نحن اذ كنا لدينا روح السماحة والمصالحة وفقا لتعاليم الكتاب المقدس الا اننا نطالب بحقوقنا وان يعلن العدل فى قضياتنا الارمينية التى حصلت فيها المجازر ان نعود الى اراضينا،وتعود لنا كنائسنا، وتفتح ااديرتنا الموجودة بتركيا، وان تعود لنا المدارس والجامعات”.

بعد أن فشلت الاتفاقية لعدم اعتراف دولة تركيا بهذه المذبحة، جاء الى نيافة المطران كريكور بمصر ثلاث مندوبين من السفارة التركية، ويتابع نيافته الحديث قائلاً: أن المندوبين طلبوا منى استكمال مشوار السلام وأن سفير تركيا بمصر يريد زيارتكم فقلت لهم أن البطريركية بيت الله، و الكنيسة مفتوحة للكل بموعد وبدون موعد، وطلبوا منى أن أتحدث عن السلام مع السفير التركى ولكن بدون الحديث عن الابادة الارمنية ، وأجابتهم بأنه لا مانع، و لكن عند مدخل البطريركية نصب تذكارى لشهداء الأرمن يكفى أن يحمل السفير معه وردة حمراء و يضعها أمام النصب أحتراماً لدم الشهداء ومكانتهم، و بالطبع لم يأتى السفير، رافضاً الاعتراف بالابادة.

أما عن الاحتفال بالذكرى المئوية الاولى للإبادة الأرمنية قال نيافته: نحن قد بدأنا بتحضير مئوية عالمية و هناك اجتماعات دورية تشهدها ارمينيا لوضع برنامج عالمى يتضمن نداوات و معارض بالاضافة الى قداسات ليعرف العالم كله ماحدث من مائة عام.. و على مستوى مصر فننظم مع سفير جمهورية ارمينيا الدكتور أرمين ميلكونيان و مطران الأرمن الأرثوذكس نيافة المطران أشود مناتسكانيان، والسيد برج ترزيان، الدكتور ارمين مظلموميان، السيد كريستابور ميكائيليان، الدكتور كيفورك يرزنكاتسيان، والسيد مارديك بالايان وذلك احتفالاً بمئوية الابادة و تضامنا مع الارمن المنتشرين في العالم.. و بهذه المناسبة سيترأس قداسة البابا فرنسيس قداسا حبرياً بساحة القديس بطرس فى ذكرى المليون ونصف المليون شهيد مع جميع اباء السينودس المقدس للارمن الكاثوليك و بمشاركة و حضور كل الكنائس الارمنية، وسيكتب قداسة البابا فرنسيس رسالة خاصة بالمناسبة ليعرف العالم بأجمعه حقيقة الابادة التى تعرض لها الشعب الارمني وتمسكه بعقيدته وايمانه، كما يقوم الفاتيكانباصدار طوابع بريدية، وسيقوم غطبة البطريرك نرسيس بدروس بطريرك الارمن الكاثوليك بكتابة رسالة بطريركية لتوزع على جميع ملوك ورؤساء العالم.

و عن اطلاق شهداء الإبادة الارمنية قديسين قال نيافة المطران كريكور: أن الملف نعمل به بالسينودس المقدس لكنيستنا ورفع جزء منه لمجمع تطويب الشهداء والقديسين بالفاتيكان حتى يكون اعلان قداستهم على مستوى الكنيسة الجامعة ويذكر اسماء شهداءنا بكل الكنائس لما قدمه من حب للكنيسة وتضحية بحياتهم من أجل اسم السيد المسيح.

أجرى الحوار: مايكل فيكتور

وطني

Share This