تركيا … العدو الجديد لمصر

خالد عكاشة

العلاقات المصرية التركية فى حالة غير مسبوقة من الاضطراب بسبب مواقف أنقرة من ثورة الثلاثين من يونيو

أردوغان تحول من طرف يدعى الاهتمام بمصالحه مع مصر.. إلى طرف منحاز لجماعة ثار عليها الشعب

التوتر بلغ حد استدعاء السفير المصري بأنقرة للتشاور وإلغاء المناورات البحرية المشتركة …

كعادته فى صب الزيت على النار خرج رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فى كلمته خلال الاجتماع الختامى للمؤتمر الحادي والعشرين الاستشارى لحزبه «العدالة والتنمية» بأن إشارة «رابعة» التى يرفعها أنصار الرئيس المعزول محمد مرسى ليست رمزا للقضية العادلة للشعب المصرى فقط بل علامة تندد بالظلم والاضطهاد فى كافة أنحاء العالم».
الأمر الذى تطلب ردودا رسمية مصرية على إصرار النظام التركى على التدخل بالشأن المصرى الداخلى، الخارجية المصرية حذرت من أن الاستمرار التركى فى هذا النهج سيستتبعه حتما تصعيد مصرى مواز يأخذ الأمر إلى أبعد مما تحتمله تركيا.

العلاقات المصرية التركية فى حالة غير مسبوقة من التوتر والاضطراب؛ بسبب المواقف التركية من ثورة الثلاثين من يونيو، وما ترتب عليها من عزل الرئيس السابق محمد مرسى، حيث اعتبر رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أن ما قام به الجيش المصرى يمثل انقلابًا على الشرعية والعملية الديمقراطية، وأتبع ذلك بحملة إقليمية ودولية لإدانة القيادة المصرية الجديدة.

وعلى الرغم من المحاولات المصرية لاستيعاب الموقف التركى، سواء من خلال التجاهل تارة أو عبر الرسائل الدبلوماسية والسياسية تارة أخرى، فإن تمادى القيادة التركية فى التدخل فى الشأن المصري، وانتقالها من حيز الطرف المعنى بضمان مصالحه مع مصر، لنطاق «الطرف المنحاز» لجماعة ثار عليها الشعب، قد أفضى إلى تصاعد حدة التصريحات الرافضة للمواقف التركية المختلفة، وصولاً لاستدعاء السفير المصرى بأنقرة للتشاور، وإلغاء المناورات البحرية المشتركة، التى كان من المقرر إجراؤها فى أكتوبر 2013.
وقد انعكس ذلك فى تحركات تركية معلنة، عبرت عنها دعوة رئيس الوزراء التركى مجلس الأمن الدولى والجامعة العربية لاتخاذ موقف حازم حيال عملية فض اعتصام ميدانى «رابعة» و«النهضة»، كما تجلى فى محاولات تركية غير معلنة تستهدف استضافة عدد من قيادات حركة الإخوان وتهريبهم عبر البحر إلى تركيا؛ لتتحول أنقرة بمقتضى ذلك لمركز عمل هذه القيادات، بما يسمح لها من ناحية بمخاطبة الرأى العام الدولى.
رئيس الوزراء التركى بدأ عمله على هذا الأمر مبكرا بعد عزل محمد مرسى ليعقد اجتماعًا طارئًا مع هاكان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية (MİT)، ليخرج بعد ذلك منددًا بموقف الجيش المصرى، قائلاً إن الذين يعتمدون على السلاح فى أيديهم والذين يستندون إلى قوة الإعلام، لا يستطيعون بناء الديمقراطية التى تبنى عبر صندوق الاقتراع وحسب على حد زعمه.

بعدها توالت فصول التصعيد التركي انتهاجاً لـ«استراتيجية حافة الهاوية» مع القيادة المصرية الجديدة، التى رفضت تركيا تهنئتها والترحيب بها بدعوى أنها غير منتخبة، بل عملت على مواجهتها دوليًّا وفى الساحة الأوربية خاصة، وترافق ذلك مع تصاعد وتيرة التظاهرات والاحتجاجات التى عمت بعض المدن التركية للتنديد بالجيش المصرى، وهى تظاهرات شارك فيها مؤيدو حزب العدالة والتنمية فضلاً عن الكثير من عناصر الإخوان المسلمين فى تركيا، سواء من المقيمين أو من الدراسين العرب، ورفعت خلال هذه التظاهرات صور الرئيس المعزول محمد مرسى ورددت شعارات ضد الفريق أول عبد الفتاح السيسى، القائد العام للقوات المسلحة المصرية.

وعلى جانب آخر، فقد آثرت تركيا دوام التصعيد السياسى مع مصر، من خلال السماح بعقد التنظيم الدولى للإخوان اجتماعات سرية فى تركيا، لبحث تداعيات سقوط حكم جماعة الإخوان بعد عزل مرسى، وحسب استراتيجية وضعتها ذراع التخطيط فى التنظيم الدولى الذى يحمل اسم «المركز الدولى للدراسات والتدريب» والموجود فى العاصمة اللبنانية بيروت، تم وضع خطة تقضى بالعمل على زعزعة استقرار مصر بالتنسيق مع بعض القوى الإقليمية، على رأسها تركيا وقطر.

استهدفت هذه الخطة، حسب النص المنشور لها، إرهاق الجيش والأجهزة الأمنية من خلال دعم كافة أشكال الأعمال الإرهابية، وتشويه المعارضة إعلاميًّا ومحاصرة مؤسسات الدولة، ومحاولة تطبيق «النموذج السورى» فى مصر.

وقد أعقب اجتماع «التنظيم الدولى» فى إسطنبول تصريحات لوزير الخارجية التركى فى منتصف يوليو الحالى لقناة NTV التركية، أكد خلالها أن عزل مرسى لن ينشر الفوضى والعنف فى مصر وحسب، وإنما فى كافة أرجاء الشرق الأوسط.
عكست هذه التطورات طبيعة الارتباك التركى بسبب «الحدث الصدمة» الذى فشلت فى توقعه، بسبب تركيز وكالة أنباء الأناضول -التى كانت أقرب ما تكون إلى الوكالة الرسمية لمصر- على الجوانب الإيجابية للأحداث المصرية، وبفعل ما أرسلته السفارة التركية بالقاهرة من تقدير موقف إلى وزارة الخارجية، أوضحت فيه أنه ليس بإمكان الحشود الشعبية عزل محمد مرسى، واتضح لاحقًا أن هذا التقدير اعتمد على تقارير كتبها أعضاء فى حركة الإخوان المسلمين.

وقد ارتبط الموقف التركى من إسقاط حكم الإخوان المسلمين بما تشهده الساحة التركية من اضطرابات، بعدما اكتظت الميادين التركية بنحو خمسمائة ألف متظاهر ينددون بالحزب الحاكم بعد أن لجأ للعنف المفرط فى التعامل مع المتظاهرين السلميين، وقد ساهم ذلك فى انخراط مجموعات شبابية فى حركات احتجاجية جديدة تسعى لمواجهة سياسات الحكومة التركية، وتنسق تحركاتها وإستراتيجيتها عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
وقد علق على ذلك أردوغان بقوله إن «الانقلابات العسكرية باتت تدبر الآن فى الميادين ومواقع التواصل الاجتماعى، مثلما حدث فى مصر.. فى الماضى كانت الانقلابات العسكرية تحدث عندما يخرج الجيش للشوارع ويعلن الأحكام العرفية، والآن يتم إرساء هذه الأسس بالمظاهرات غير القانونية وعبر مواقع التواصل الاجتماعى، وتأتى القوات المسلحة بعد ذلك مباشرة».
تصريحات أردوغان كشفت حجم التخوف من اندلاع احتجاجات شعبية ينحاز إليها الجيش التركى، فى تكرار «للسيناريو المصري»، وقد عبر عن ذلك صراحة أردوغان ذاته حينما أشار إلى أن القوى التى تقف وراء ما يحدث فى مصر كانت تريد تطبيق نفس السيناريو فى تركيا من خلال أحداث ميدان تقسيم الأخيرة.

وهو أمر لا يمكن فصله عن الدوافع التى وقفت وراء إقدام أردوغان على ما أسماه بعض معارضيه «قرصنة تشريعية»، وذلك بعد إقرار تشريع يجرم معارضة النقابات العمالية والمهنية لأى من المشروعات العامة، فضلاً عن تغيير المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية، وهى المادة التى كان الجيش التركى يستغلها للتدخل فى الحياة السياسية.

هذه التطورات عكست التوترات والتخوفات لدى النخبة الحاكمة فى تركيا، عبر عنها الكاتب التركى محمد يلماز فى صحيفة حرييت، بقوله إن «أردوغان يعتقد أن الانقلاب الذى جرى فى مصر هو انقلاب ضده ويتصرف على هذا الأساس لأنه يريد من ذلك أن يصل إلى هدف، وهو اتهام كل من ينتقده على أنه يخرج على الديمقراطية فيعتقله أو يطارده».
وقد أدت الطموحات الخارجية دورًا أساسيا فى تبلور نمط التعاطى التركى مع ثورة الثلاثين من يونيو؛ ذلك أن تركيا ربطت مشروعها الإقليمى بـ«أسس أيديولوجية» تقوم على تعميق العلاقات مع الدول الإسلامية بصفة عامة والتيارات الإسلامية داخل هذه الدول بصفة خاصة، وقد لعبت تركيا دور الوسيط بين حركة الإخوان المسلمين والعديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والتى تعود بدياتها لعام 2009م بتقديم تعهدات من قبل الحركة عبر أنقرة باحترام اتفاقية السلام مع إسرائيل والتعايش مع دولة عبرية تعيش فى سلام مع الجار الفلسطينى، خصوصًا «الجزء الغزاوي» منه، والذى يتبع الحركة أيديولوجيا وتنظيميا.

ومع اندلاع ثورات «الربيع العربي» بدا أنها اللحظة المناسبة للاشتغال على المشروع التركى الهادف إلى تمكين حركات الإسلام السياسى فى المنطقة العربية، وعلى رأسها حركة الإخوان باعتبارها الحركة الأكثر تنظيما؛ ليتم الإعلان عن تأسيس حزب الحرية والعدالة، فى تشابه واضح من حيث الاسم مع الحزب الحاكم فى تركيا، وقد تبع ذلك بقيام تركيا بتقديم توصيات إعلامية واستشارات سياسية لأعضاء حركة الإخوان المسلمين، على نحو جعل حزبى «العدالة» المصرى والتركى يتحركان حيال بعضهما وعلى مسرح عمليات الإقليم كأنهما حزبان لحركة واحدة.

هذه التحركات بدت واضحة حينما طلب أردوغان خلال زيارته للقاهرة فى سبتمبر 2011م خلال جلسة مغلقة مع بعض الحزبيين والناشطين السياسيين عدم السماح بوجود أى دور للجيش فى العملية السياسية، إلى ما أبدته أنقرة من انتقادات متتالية للمجلس العسكرى بسبب تأخر إعلان الفائز بالانتخابات الرئاسية، ثم الترحيب بفوز محمد مرسى، وجلوس السفير التركى بمفرده إلى جانب أسرة الرئيس المصرى السابق أثناء إلقاء خطابه فى جامعة القاهرة، ثم حضور محمد مرسى المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية فى العاصمة التركية فى سبتمبر 2012.

لذلك فإن التصريحات التركية والغضب العارم الذى ينتاب القيادات التركية، يعنى أن ثورة الثلاثين من يونيو مثلت ضربة كبيرة للبناء الذى عمل عليه أردوغان، واستكمالاً للهزيمة الاستراتيجية للمشروع التركى فى المنطقة، والذى جعل من مصر «البوابة الرئيسية» لتجاوز الحواجز إلى ساحات منطقة الخليج العربى وبقية الدول العربية والإفريقية.
مما سبق تتزايد احتمالات أن تشهد علاقات البلدين توترات كبرى خلال الفترة القادمة، لا سيما بعد أن ظهر واضحًا أن تركيا لن تراجع مواقفها، حتى بعد إقدام مصر على استدعاء السفير المصرى بتركيا للتشاور للاعتراض على السياسات والتصريحات التركية الأخيرة، قد يكون ذلك السبب الأساسى فى اتخاذ القاهرة قرارًا برفع درجة التوتر النسبى؛ لإثناء تركيا عن مواقفها الحادة حيال القيادة السياسية الجديدة فى مصر عبر إلغاء المناورات البحرية المشتركة.

بوابة الصباح

Share This