أن تكون أرمنياً ومسلماً!.. ملايين “الأرمن المتأسلمين” غير المعلنين في تركيا

“ينبغي لهذا المجتمع أن يرمي بعض أحماله حتى يستطيع أن يركض”!

ويبدو أن أبناء عمّنا الأتراك بدأوا يمتلكون الشجاعة لمواجهة “ماضيهم الأرمني” (وهذا موضوع صعب جداً)، وهو من علامات الحداثة التي تتفوق بها تركيا على جيرانها العرب! خصوصاً أن خصوصاً أن بعض العرب الحاليين “منهمكون” الآن بـ”تصفية حساباتهم التاريخية”، بالسيارات المفخخة، بين سنّة وشيعة!

كم عدد الأرمن في تركيا حالياً؟ من ٤٠ إلى ٧٠ ألفاً حسب التقديرات شبه الرسمية. لكن المؤتمر الذي نظّمته جامعة البوسفور قبل ٣ أيام يفيد أن هنالك عدداً ربما يصل إلى “ملايين” الأرمن المتأسلمين الذين اندمجوا في عائلات تركية “مسلمة” وباتوا يعتبرون أنفسهم “أتراكاً مسلمين” أو أنهم “يفضلون” تناسي أصولهم الإثنية خوفاً من التهميش أو الإضطهاد! وهذه التقديرات خرج بها مؤتمر نظمته جامعة تركية!

وتضرب هذه التقديرات، بالمناسبة، فكرة أن “الأرمني مسيحي بالضرورة”، كما يصوّر الأرمن أنفسهم! فهنالك “أرمن مسلمون”! بل إن “العدو التركي” الذي يكنّ له الأرمن حقداً لا ينضب يصبح “أرمنياً جزئياً” حسب مؤتمر جامعة البوسفور!

ولكنها تطرح، كذلك، أسئلة حول تركيا بصفتها أكبر دولة “سنية” في المشرق! فتركيا تضم أيضاً نسبة تتراوح بين ١٥ و٢٠ بالمئة من العلويين (علويّي تركيا يختلفون عن علويي سوريا)، الذين تظاهروا قبل يومين للمطالبة بـ”المواطنة الكاملة”. أي ربما ١٥ إلى ٢٠ مليون “علوي”. وإذا أضيف إليهم عدد مماثل من “الأكراد”، وهم ليسوا “أتراكاً”، فإن نسبة “الأتراك السنّة” في تركيا يمكن أن تنخفض إلى النصف أو أقل (كما كان الحال في عهد السلطان عبد الحميد، بالمناسبة!)! والحال نفسه في “إيران الفارسية الشيعية” التي قد تصل نسبة “الأقليات غير الفارسية” فيها إلى أكثر من النصف! والحال مشابه في العراق الذي ربما كانت أغلبيته “سنّية” حتى منتصف القرن التاسع عشر! وهذا بدون الإشارة إلى “السريان” الذين تم تهجيرهم من العراق في ثلاثينات القرن العشرين.

أي أن التعميمات الطائفية، والإثنية، والقومية، في منطقة الشرق الأوسط تحتمل الكثير من التمحيص والتدقيق. ويظلّ ينقصها تعميم أهم عن عدد الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين، والذين تعاملهم أنظمتهم كـ”مواطنين”، وتعميم آخر عمن يعيشون في ظل حقوق الإنسان كما تحددها شرعة حقوق الإنسان الدولية.

الموضوع الذي نظمت جامعة البوسفور في استنبول مؤتمراً حول موضوع صعب وحساس: “الأرمن المتأسلمون” في تركيا! وقد شارك في تنظيم المؤتمر “مؤسسة هرانت دينك”، الصحفي التركي الأرمني الذي تم اغتياله في العام ٢٠٠٧، و”جمعية أرمن مالاطية الخيرية”.

ويقول مراسل جريدة “زمان” أن العديد من الأكاديميين الذين تحدثوا معه لاحظوا أن مسأل الأرمن الذين أُجبروا على اعتناق الإسلام بطريقة أو بأخرى يشكل جانباً مهماً من جوانب مأساة ١٩١٥، ولكنه جانب لم يحظَ بالنقاش على نطاق واسع. (معظم الكتابات حول المأساة الأرمنية تتحدث عن المذابح، والتهجير، وإعادة التوطين). وسجّل هؤلاء أن مسألة “أسلمة الأرمن” كانت جزءاً من “سياسة منهجية” تركية في فترة الحرب العالمية الأولى.

وتقول أيشيغول ألتيناي، وهي مديرة “مؤسسة هرانت دينك”، وقد شاركت في تنظيم المؤتمر، أن الأرمن المتأسلمين لعبوا في الواقع دوراً مهماً جداً في إعادة تشكيل المجتمع التركي في مطلع القرن الماضي. وتضيف ألتيناي، التي نشرت كتاباً بالتركية بعنوان “طورونلار” (أي “الأحفاد”) موضوعه العائلات التركية التي تضم “أرمن” بين أعضائها، أن تركيا ظلت صمّاء وعمياء حول هذه المسألة المهمة طوال القرن الماضي.

وقال رئيس “جمعية أرمن مالاطية الخيرية”، هورسوف كوليتافوغلو تعليقاً على تهرّب الناس من مواجهة هذا الموضوع: “ينبغي لهذا المجتمع أن يرمي بعض أحماله حتى يستطيع أن يركض”!

وقد تناول المؤتمر الذي استمر ٣ أيام مواضيع مثل “مسلمي حمشين”، ومجازر الحميدية، وغيرها من عمليات تغيير الدين، والتذويب، علاوة على مسألة “الأرمن المستعربين” ومسائل أخرى. وبالنسبة لـ”مسلمي حمشين”، وهم أرمن اعتنق قسم كبير منهم الإسلام على مدى قرون ابتداء من القرن السابع عشر، فقد ذكر أحد المحاضرين في المؤتمر وهو “سيرغي فاردانيان” (وهو جامعي من “يريفان” عاصمة أرمينيا) أن أرمن مدينة “حمشين” التي تقع على ساحل البحر الأسود أجبروا على اعتناق الإسلام وأنهم غيّروا دينهم للبقاء على قيد الحياة. “ومع ذلك، لم ينسوا أنهم أرمن ولم يتزوجوا من جماعات مسلمة أخرى”!

لكن ما هو عدد “الأرمن المتأسلمين” في تركيا حالياً؟

تنقل أيشيغول ألتيناي أن بعض المؤرخين يقدرون عدد الأرمن الذي أصبحوا مسلمين بحكم الزيجة، أو التبنّي، أو بعد تبنّيهم من عائلات مسلمة من أجل حمايتهم أثناء عمليات الإبعاد القسري عن مواطنهم الأصلية في العام ١٩١٥، ربما يصل إلى ٢٠٠ ألف شخص.

وتضيف أنه حتى لو كان العدد الحقيقي ١٠٠ ألف شخص فقط، فإن حسبان الأطفال الذين ولدوا لأولئك الأرمن منذ العام ١٩١٥ سيرفع العدد إلى “ملايين”!

وتقول أن مجرّد الإشارة إلى أن أحد أعضاء العائلة كان أرمنياً كان، لسنوات طويلة، يتسبّب باستبعاد العائلة وتهميشها. وتضيف: “طوال سنوات، كان انكشاف أن الأم أو الجدة أرمنية سبباً كافياً لكي يفقد الناس وظائفهم أو لكي يواجهوا متاعب أثناء الخدمة العسكرية. مثلاً، فإن إحدى الشخصيات التركية المسلمة المعروفة بتديّنها كانت ترغب في حضور مؤتمرنا هذا، ولكنها عدلت في اللحظة الأخيرة”!

وتحدّث في المؤتمر “سامي بويجي”، وهو أرمني، قائلاً أن الخوف من الإضطهاد دفع العديد من العائلات الأرمنية لتسمية أبنائها بأسماء تركية، وهذا ما دفع أهله لتسميته “سامي”. وأضاف أن جده وعمته لم ينجينا من مآسي ١٩١٥ سوى بفضل مساعدة جيرانهم المسلمين.

وقال “سركيس ساروبيان”، وهو أحد مؤسسسي جريدة “أغوس” الأرمنية المعروفة” أنه كان يتمنى أن يحضر هذا المؤتمر، الذي يشكل سابقة عالمية، عدد أكبر من المسلمين. وأضاف أنه يستحيل معرفة عدد الأرمن المسلمين بين أتراك تركيا حالياً: “طالما أننا لا نعرف حتى عدد الأرمن الذين يعيشون في تركيا، فإن معرفة عدد الأرمن المسلمين يصبح مستحيلاً. فإبان أحصاءات السكان التي جرت بعد سنوات الثلاثينات، كان ممنوعاً أن يُسأل الناس عن جذورهم الإثنية. مما يعني أنه حتى الدولة التركية- التي أطلقت علينا تسمية “غير مسلمين”- لا تعرف عدد الناس الذين يوجد أرمن بن أعضاء عائلاتهم”.

وقال “ساروبيان” أنه شخصياً قدم طلباً للإطلاع على الأرقام الرمزية (“الكود”) التي كانت الأجهزة الحكومية تستخدمها لتصنيف الناس حول خلفياتهم الإثنية، وذلك لمعرفة عدد الأرمن الذين يعيشون في استانبول، ولكنه لم يحصل على جواب. وأضاف أن رئيس أحد أبرز نوادي كرة القدم في تركيا أرمني، ولكنه يتحاشى الإعتراف بأرمنيته علناً!

وفي هذا الصدد تقول أيشيغول ألتيناي أنها، أثناء عملها لتأليف كتاب “طورونلار” (=الأحفاد)، لاحظت أن معظم الذين تحدثت معهم طلبوا عدد ذكر أسمائهم أو أماكن إقامتهم! وكان بين الأسباب التي ذكرها هؤلاء أنه لم يتم بعد إصدار أحكام في قضية إغتيال “هرانت دينك” وأن بعضهم يتلقى تهديدات بالقتل.

لم يصبحوا علويين!

ونفت أيشيغول ألتيناي مزاعم الرئيس السابق لـ”الجمعية التاريخية التركية”، يوسف حالاشوغلو، بأن بعض “الأكراد العلويين” هم في الواقع “أرمن”! وقالت أن المقابلات مع أحفاد الأرمن في كل أنحاء تركيا أظهرت أن حفنة منهم باتوا “علويين”، وأضافت أن عدداً قليلاً جداً منهم عادوا لاعتناق المسيحية بعد اكتشافهم لجذورهم الإثنية الحقيقية.

وقالت أيشيغول ألتيناي أن تركيا الآن تحمل على أكتافهم تركة ثقيلة جداً: “هنالك حالياً في تركيا عدد كبير جداً من الأرمن المسلمين. وفي حين يتهرّب البعض من الكشف عن هويته الحقيقية، فإن آخرين يصفون أنفسهم بأنهم “أرمن إثنياً ولكن مسلمين”. إن ذلك يغيّر كلياً نظرتنا إلى الهويات. أننا نحمل تركة ثقيلة جداً، والأمر المهم هو أن نحسن شرح هذه التركة. وحينما نستمع إلى “قصص قديمة”، فإننا نستمع ليس فقط إلى قصص العذاب والعنف، بل وإلى قصص عن التفاعل الحيوي بين الناس. إن الحديث العلني عن هذه التركية يسهم في تطبيع تلك الفترة كلها”.

وتقول “كوليتافيتوغلو”، مؤسسة “جمعية أرمن مالاطية الخيرية” أنها بدأت تفكّر بالأرمن المسلمين حينما ذهبت لمشاهدة قبر جدّته في “حكيمهان” بمقاطعة “ملاطية”، في ٢٠٠١. وبعد أن قال لها رئيس البلدية أن واحدة أو اثنتين من قرى المنطقة كانت أرمنية أصلا، ثم بعد أن قام أرمني فرنسي بدراسة حول الأرمن المسلمين في تركيا، فقد قرّرت المساهمة في تنظيم المؤتمر الذي عقدته جامعة البوسفور. وتضيف أنه منذ تأسيس جمعيته، فقد اتصل بها أشخاص كثيرون ليقولوا أن أصولهم “أرمنية”.

الشفاف

Share This