بول غيراغوسيان يعود في ذكراه الـ20 إلى وسط بيروت

من شهر فقط بيعت في مزاد «كريستيز» لوحة واحدة للفنان بول غيراغوسيان بمبلغ 600 ألف دولار. واعتبارا من مساء اليوم سيكون في متناول الجمهور اللبناني نحو 300 عمل لغيراغوسيان، بينها ما يزيد على 100 لوحة، وأعمال أخرى على الورق لم تعرض من قبل، إلى جانب مجموعة أرشيفية أصلية للفنان، في معرض استعادي يقام في «مركز بيروت للمعارض»، بمناسبة مرور 20 سنة على رحيله.

والمعرض الذي يحمل عنوان «بول غيراغوسيان: الحالة الإنسانية» ليس القصد منه إعادة عرض ما هو معروف، أو تتبع المحطات الزمنية الفنية للرجل، وإنما وضع الزائر في حالة اكتشاف لجوهر أعمال أنجزت على مدار 50 سنة، انتقل خلالها الفنان من القدس إلى يافا، ومن ثم إلى بيروت، ومنها تلميذا إلى إيطاليا وباريس، جوالا في العواصم، عارضا أعماله، متتلمذا، وعاقدا الصداقات مع فنانين حول العالم.

وترى مانويلا غيراغوسيان، الابنة الصغرى للفنان اللبناني – الأرمني، وهي مستشارة ومشاركة أساسية في التنظيم، أن «المعرض بعدم اعتماده التسلسل الزمني إنما أراد أن يبقى أمينا لفكر غيراغوسيان الذي كان لا يعير أهمية للقديم والحديث بقدر ما كان يرى أن ما حفره الإنسان الأول في كهفه راسما نفسه وحيواناته لهو أقرب إلى الحداثة من أعمال كثيرة كانت معاصرة له». تقول مانويلا إن والدها لم يكن يحب إقامة اعتبارات للزمن، ووفقا لهذا المفهوم عمل المشرفان على المعرض، وهما سام بردويل، وتيل فيلراث، من مؤسسة (Art – Reoriented) المتعددة الاختصاصات في مجال تنظيم المعارض الفنية في شتى أنحاء العالم، بحيث قدما الأعمال من خلال فكرة جديدة للغاية”.

وقد تمت إعادة تقسيم «مركز بيروت للمعارض» بحيث تحول إلى صالات، عرضت فيها الأعمال تبعا للمفاهيم التي شغلت الفنان، مثل: الألم، المنفى، اليأس، الإيمان، حركة الشارع، الروحانية، العمال، النساء، الأمومة. وهي المواضيع التي شغلت غيراغوسيان، وكانت محورا لأعماله. فالإنسان بوجدانياته وتقلباته، سواء ظهر في اللوحات بملامح واضحة للوجه أو من دون ملامح كما في غالبية الأحيان، كان دائما هو الأصل في اللوحة. أما الأمومة فقد شغلت حيزا مهما من لوحاته، لأنه رأى باستمرار، وهو الذي عمل صغيرا جدا لمعاونة والدته، أن المرأة / الأم هي كائن قوي، بل أقوى من الرجل، لقدرتها على إنجاب كائن جديد. فالأم تتجلى في لوحاته وكأنها محور حياتي، بل هي سبب تجدد الوجود.
صالات المعرض التي لكل منها عنوانها ولوحاتها تفتح أبوابها على صالة رئيسة مستديرة في وسط المكان، تضم رسومات أبدعها بول غيراغوسيان في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ومنها مثلا التصاميم الفنية التي خص بها عروضا مسرحية ذاع صيتها في زمانها وحملت تواقيع بعض معاصريه من شخصيات مسرحية لامعة أمثال: جلال الخوري وأسامة العارف ونضال الأشقر. وعلقت على الجدران التي تواجه الخلفيات العملاقة بورتريهات تمثل نخبة الكتاب والفنانين والمفكرين من أصدقائه.

بمقدور الزائر أن يرى قطعا من الديكورات التي صممها غيراغوسيان لبعض المسرحيات في هذه الصالة الرئيسة. ومن ضمنها جزء من لوحة كبيرة بعرض أربعة أمتار شكلت مع لوحة أخرى خلفية لمسرحية «إضراب الحرامية» الشهيرة لأسامة العارف. وكان غيراغوسيان قد قسم هذه اللوحة إلى ثلاثة أجزاء، احترق منها جزآن أثناء الحرب الأهلية، وبقي الجزء المتوسط الذي يشاهده الزوار في المعرض.

على المدخل يستقبلك غيراغوسيان على شاشة، حيث يتكلم ويشرح آراءه. اللقطات مقتطفة من فيلم وثائقي فرنسي كان قد صور عام 1973. غيراغوسيان حاضر بشخصه أيضا في قسم الأرشيف، فبمقدور الزائر أن يستمع لكلامه المسجل، ويراه من خلال أفلام تسجيلية، ويقرأ ما كتب بنفسه، وما كتب عنه في صحف عربية وأجنبية. لكن الابنة مانويلا تعتبر أن هذا القسم الأرشيفي الذي استغرق العمل لتجميعه أكثر من سنتين يمكنه أن يكون أغنى لو تمكنا من جمع المزيد من المواد الإذاعية والتلفزيونية، لكن هذا يتطلب المزيد من العمل الشاق الذي لا بد من إنجازه يوما.

في وسط بيروت اليوم، تعرض لوحات رسمها بول غيراغوسيان لنفسه، وأخرى لزوجته، وغيرها لأناس في الأسواق، أو لنساء كما يظهرن في المرآة، وهناك التجمعات البشرية، والأفراد المتوحدون. الإنسان في قلب غيراغوسيان، وهو ما تعتبره ابنته سيلفا مصدر قوته وما منحه الطاقة والتميز. فتقول: والدي حاول أن يرسم الإنسان بوجهيه، الخير بوداعته، والشرير بجبروته. لقد كان متواضعا في حياته، رغم أنه كان قد أنجز الكثير، وبيعت لوحاته منذ الستينات لشخصيات عالمية، لكن هذا لم يكن يعنيه كثيرا. كان يعتبر أن لوحته كافية لتدلل على أهمية عمله. وهو قد كتب الكثير، وله آراء مهمة، نعتقد أنها يجب أن تصل إلى الناس.
هذا المعرض هو ثمرة جهد عائلي حقيقي، فمنذ توفي غيراغوسيان وأولاده يجهدون لحفظ تركته التي تشكل ثروة فنية بحد ذاتها. فقد تم حفظ مجموعة كبيرة من اللوحات، لتكون أساسا لمتحفه الذي كان يفترض أن يفتتح عام 2005 في الجديدة شمال بيروت، لكن الأحداث الأمنية والانفجارات المتلاحقة حالت دون هذه الافتتاح، رغم أن المكان مستأجر من حينها. ثم جاءت حرب 2006، وتلتها أحداث أمنية كثيرة، مما جعل مشروع المتحف معلقا.
وأسس أولاد غيراغوسيان مع زوجته جوليا مؤسسة تحمل اسمه، وتصرف على نفسها من بيع بعض لوحاته لتمويل المشروع، أو يتم شراء إحدى لوحاته وتباع إلى جهة ثانية للاستفادة من فارق السعر من أجل المؤسسة. وهكذا في غياب أي دعم رسمي لإقامة متحف فإن الأولاد الخمسة لغيراغوسيان، وهم فنانون أيضا، يقومون بمهمة قاسية وشاقة، من بينها تنظيم هذا المعرض وسط بيروت، الذي أرادوه على مستوى يليق بوالدهم، في ذكرى غيابه الـ20.

وتقول سيلفا: “هناك شاعر أرمني من القرن الـ19 يقول ما معناه: (أنا أموت حين يتوقف الناس عن التفكير بي، عندها أكون قد مت فعلا). متأسفة لأن الفنانين في بلادنا لا يعنى بهم أحد، فجبران خليل جبران حي، بسبب اعتناء الأميركيين به وليس اللبنانيين، ووديع الصافي الذي غادرنا منذ أيام قد لا يتذكره الناس كما يجب بعد عدة سنوات. ليس المهم أن يكرم الفنان في حياته بدرع أو وسام، وإنما أن تحفظ ذكراه وتصان أعماله. ونحن نريد لوالدنا الذي عمل كثيرا، وأنجز أعمالا جميلة في حياته، أن تكون ذكراه لائقة بإنجازاته، وهو ما يعود بالفائدة على لبنان، إذ إن الأمم المتحضرة تذكر بفنانيها ومبدعيها، لا بغيرهم”.

ولد بول غيراغوسيان في القدس (1925 – 1993) لعائلة أرمنية. ظهرت موهبته منذ صغره، وأمضى سنواته الدراسية الأولى في القدس، كما مارس (آذار) رسم البورتريهات لدعم والدته ماديا. في الأربعينات، كان لا يزال شابا في أول الطريق، تسجل في «استوديو ياركون للفنون» في يافا. ومن الروائع التي أنجزها نتيجة التدريب المكثف الذي تلقاه في تلك المرحلة «الأزمة» (1948) و«امرأة أمام مرآتها» و«حواء الحامل» (1949)، وهذه اللوحات موجودة في المعرض. في عام 1948 انتقلت عائلة الفنان، أسوة بالكثير من العائلات، من القدس إلى لبنان، وعاش تجربة المنفى، وهو البلد الذي اعتبره الفنان وطنه النهائي، وأمضى فيه بقية حياته وأسس لعائلته وفنه وريادته وشهرته اللاحقة.
لم تكن السنوات الأولى للفنان غيراغوسيان في لبنان سهلة، على أن أبرز تجلياتها برزت في تعرفه إلى الفنانين اللبنانيين والعرب، مما ساعده على أن يصبح واحدا من أهم فناني جيله.
يستمر المعرض حتى السادس من يناير (كانون الثاني) المقبل، وقد صدر كتيب فني مصور عن غيراغوسيان بهذه المناسبة، وسيتبعه كتاب شامل عن الفنان من تأليف سام بردويل وتيل فيلراث خلال عام 2014.

بيروت: سوسن الأبطح

اللوحة: الجموع- بريشة الفنان عام 1989

الشرق الأوسط

Share This