المذابح الأرمنية فى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية

فى 7 ديسمبر 2013، وفي إطار ندوة بعنوان “التاريخ العثماني”، ألقى د. محمد رفعت الإمام الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث والمعاصر بكلية آداب دمنهور محاضرة وسط جمهور متميز من الأكاديميين والباحثين عن “المذابح الأرمنية 1894 – 1896: سياسة أم دين؟”.

وحسب د. الإمام، تجدر الإشارة إلى أن القضية الأرمنية فى الدولة العثمانية قد ولدت رسمياً بموجب المادة (61) من معاهدة برلين عام 1878 التي نصت على أنه: “يتعهد الباب العالي، وبدون أى تأخير، بإدخال التحسينات والإصلاحات التى تستلزمها المتطلبات المحلية فى الولايات التى يقطنها الأرمن، وضمان أمنهم تجاه الچراكسة والأكراد، كما يتعين على الباب العالىي من حين لآخر أن يحيط القوى الكبرى ـ التى ستقوم بالإشراف على تنفيذ الإصلاحات ـ علماً بأى أمر يتعلق بذلك”.

بيد أن الإدارة العثمانية لم تنفذ ما وعدت به من إصلاحات للأرمن العثمانيين، وفي عين اللحظة، انشغلت أوربا لاسيما الدول التي قبلت مراقبة تنفيذ المادة (61) بمصالحها الكبرى عن الاهتمام بالقضية الأرمنية. وفى ظل هذه الظـروف، انتهـج عدد ليس بالقليل من الأرمن العثمانيين الدروب غير الدبلوماسية بغية تنفيذ المادة (61) وحل قضيتهم. وقد تمخض عن هذه المرحلة ميلاد (التنظيمات الثورية الأرمنية) داخل الدولة العثمانية وخارجها. ومنذ منتصف عام 1891 وحتى منتصف عام 1894، قام الثوار الأرمن بسلسلة من المظاهرات والانتفاضات فى والعاصمة العثمانية، قابلها الباب العالى بسلسلة مضادة من التنكيلات والمصادرات والاتهامات والمحاكمات.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ توّلد عن تصاعد الأزمة الأرمنية تدشين النظام العثمانى سياسة “المذابح” كآلية رسمية لمواجهة انتفاضات الأرمن وحل قضيتهم خلال الفترة من 1894 ـ 1896. ورغم الجدل حول عدد ضحايا الأرمن فى هذه المذابح الذى يتراوح بين 100 ـ 150 ألف نسمة ، فإنه من الثابت نزوح آلاف آخرين إلى البلاد العربية وروسيا والبلقان وأوربا والولايات المتحدة مما أدى إلى خلخلة البنية السكانية الأرمنية فى أرمينية العثمانية وبالذات فى أرضروم وڤان وبيتليس، وغيرها في بقية الخريطة السكانية الأرمنية العثمانية.

ورغم أن القضية الأرمنية كانت لا تعدو أن تكون مجرد مجموعة “إصلاحات إدارية” فى الولايات التى يسكنها الأرمن العثمانيون فى شرقى الأناضول، فإن الغرب قد صورها للرأي العام على أنها صراع الإسلام ضد المسيحية، ووصف المذابح التى نجمت عنها بأنها “دينية”. ليس هذا فحسب، بل لجأت أدبيات الغرب إلى تشويه الإسلام من خلال الربط بينه وبين اقتراف المذابح. أكثر من هذا، ذهبت هذه الأدبيات إلى أن السياسة العثمانية فى ردائها الإسلامي رمت إلى إفناء المسيحية فى الشرق بالقضاء على الجنس الأرمني، وفرض الإسلام بحد السيف على الأرمن ليكون بمثابة البديل عن الذبح أو الإزاحة.

وخلاصة القول، تكونت فى مخيلة الغرب صورة مفادها أن الإسلام الدموي قد فرض نفسه بالقوة والإرهاب على الأرمن المسالمين المغلوبين على أمرهم واضطرهم إلى التدين به. وجدير بالتسجيل هنا أن النظام العثماني والغرب قد اشتركا معاً عبر آليات ووسائل متعددة لخلق هذه الصورة. وفي الواقع، تعد أحداث عامي 1894 ـ 1896 نتيجة حتمية لتضارب مصالح الدولة العثمانية والأقليات المسيحية (الأرمن) والغرب. وفى هذا الإطار، لعبت جميع الأطراف المتصارعة بورقة “الدين” التى غالباً ما تأتى أُكلها بسرعة .

على أية حال، تشكل المشهد العثماني إبان العقد الأخير مـن القرن التاسـع عشـر وتحـديداً في منتصفه ـ زمن المذابح الأرمنية ـ من المفردات التالية : الهلع من زوال الدولة والسيادة، تقطيع أوصال الدولة على أيـدى القـوى الخارجية، الشعور بمس الكرامة والتحقير، القهر المستمر والنظرة إلى النظام العثمانى بمثابة ابن غير شرعى للتاريخ، تجاهل المسلمين والتركيز على المسيحيين. ولذا، أصبح منع تفكك الدولة وتقطيع أوصالها على قمة المسائل الجوهرية التى شغلت بال النظام العثمانى حكومة ورعية ، وتمخض عن كل ما سبق تجذير فـكرة التوحد من أجل الحـيلولة دون النـهاية المأسـاوية للدولة العـثمانية. وهنا، كانت “الجامعة الإسـلامية” حلاً مثالياً لإنقاذ الدولة من مصيرها المرتقب. ومن ثم، نظر النظام العثمانى إلى مطالب الأقليات المسيحية ، لاسيما الأرمن فى شرق الأناضول، على أنها تُمثل تهديداً حقيقياً على كيانه. وبذا، وضعت الإدارة العثمانية تنفيذ “الإصلاحات الأرمنية” فى خانة “إما البقاء وإما الفناء” وهيمنت عليها فكرة أن شعباً من رعاياها يتوق إلى الاستقلال الذاتى ثم الانفصال التام. وفى هذا المنحى، لجأت إلى تأجيج النعرات الدينية فى فترة شهدت تأصل الاعتقاد بأن النظام العثمانى مستهدف من “العالم المسيحي”. وفى عين اللحظة، ساد الاعتقاد بأن الأرمن هم الامتداد الداخلى للأعداء ويسعون للاستيلاء على قلب الدولة العثمانية؛ أى الأناضول.

وبذلك، تضافرت الظروف التى انبثقت عنها المصادمات الدموية بين النظام العثمانى والأرمن إبان منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر. وخلالها، استخدم المتصارعون الدين إسلاماً كان أو مسيحية بمثابة “ورقة رابحة” فى اللعبة السياسية بدءاً من الأقليات المسيحية ومروراً بالنظام العثمانى وانتهاءً بالغرب. والعكس كذلك.

أثارت المحاضرة جملة من التساؤلات والاستفسارات. بداية، اعترض د. صبرى العدل أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة مصر الدولية على استخدام مصطلح “المذابح الأرمنية” لأنه وجهة نظر الغرب. أجاب د. محمد رفعت: مصطلح “مذابح” يُستخدم فى الدراسات التاريخية عبر العصور. وإذا نظرنا إلى عدد ضحايا مذابح  1894 – 1896 ، نجد أنهم فى أقل تقدير ” 100″ ألف أرمنى ، وفى أكبر تقدير (150) ألف أرمني بخلاف الذين هاجروا وأصيبوا. وبالتالى، فمصطلح “مذابح” هو الأدق فى توصيف ما جرى للأرمن إبان الحقبة الحميدية. وحول استخدام مصطلح “الغرب”، اتفق د. محمد رفعت مع كل من أ.د. نيلي حنا بالجامعة الإمريكية وأ.د. سيد عشماوى بجامعة القاهرة فى أن الغرب ليس كتلة صماء تحمل فكراً واحداً وتوجهاً واحداً.

وقد علق د. أحمد الشرقاوى بمعهد الدراسات الآسيوية جامعة الزقازيق بقوله: “إن الأرمن هم الذين ارتكبوا المذابح ضد المسلمين”. وروى بأن “السلطات العثمانية قد اكتشفت مئات الجثث فى بحيرة اتضح أن الأرمن قتلوهم وألقوا بهم فى هذه البحيرة”. سأله د. رفعت: أية بحيرة ؟ لم يعرف. وسؤال ثان: كيف عرفت السلطات أنهم مسلمون؟ بعد تردد أجاب: يمكن من ملابسهم.

أجاب د. الإمام على د. الشرقاوى بما يلى: لم يكن الأرمن آنذاك يشكلون أغلبية كاسحة حتى يقتلون “مسلمين” ويلقونهم فى بحيرة. كما أن الأرمن لم يكونوا يجندون فى الجيش العثمانى ولا يملكون سلاحاً. فكيف تمكنوا من قتل المسلمين؟. وعلى مدار التاريخ العثمانى كان الأرمن يعرفون حدودهم جيداً ولا يتخطونها. وبالتالى لا يمتلك أرمن الدولة العثمانية “جرأة” قتل “مسلمين” وإلقاء جثثهم فى بحيرة. والعكس هو الصحيح ، إذ تشهد الوثائق وشهود العيان على أن جثث الأرمن كان تطفو على صفحة نهرىّ دجلة والفرات. ومن السهل جداً معرفة المقتول؛ إذ كانوا جمعياً غير مختونين (أي مسيحيون) .

وقد تسآلت د. سحر حسن أحمد بمركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب والوثائق القومية عن سبب اقتراف النظام الحميدى مذابح بحق الأرمن . أجاب د. الإمام بأن كل نجاح بلقانى على حساب الدولة العثمانية كان يُقابله وبشراسة تشدد النظام العثمانى إزاء مطالب الأرمن الخاصة “بالاصلاحات”. وقد خشى عبد الحميد أن تتحول “الاصلاحات الإدارية” إلى مطالب سياسية من قبيل “الحكم الذاتى” أو “الإنفصال”. ولهذا، أصبحت “المذبحة” آلية عثمانية رسمية ضد الأرمن بهدف تقليل أعدادهم فى شرقى الأناضول . وبالتالى ، يصعب عليهم المطالبة حتى بمجرد الإصلاحات.

وسأل أ. على ثابت باحث دكتوراه بآداب المنصورة: هل تُوجد صحافة عربية تناولت المذابح الأرمنية على غرار الصحافة الغربية؟ أجاب د. الإمام: جميع الصحف التى كانت تصدر من مصر فى منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر تحوى آلاف المقالات والأخبار عن “المذابح الأرمنية”. وتجدر الإشارة إلى أن أقوى صحافة باللغة العربية على مستوى العالم كانت تخرج من مصر. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الأهرام، المقطم، المؤيد، المشير، الأهالى، الوطن، مصر … الخ .

 وأخيراً سأل د. أحمد عبد الدايم أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر بمعهد الدراسات الإفريقية جامعة القاهرة عن القضية المرفوعة فى المحاكم من أجل اعتراف مصر بالإبادة الأرمنية ؟ وهل يجب أن تعترف مصر بها ؟ وماذا لو إعترفت؟

بالنسبة للقضية المرفوعة فى المحاكم، أجاب د. الإمام بأنها تُمثَّل من رفعها ، وهى وسيلة يرى أنها مناسبة للدفاع عن قضيته. أما اعتراف مصر، فأجاب د. الإمام بأن مصر دولة مركزية فى الشرق الأوسط، ويجب أن تُثبت للعالم أجمع أنها نصيرة للشعوب المظلومة سواء تاريخياً أو آنياً. والكل يعرف المواقف المشرفة لمصر شعباً وحكومات عندما استقبلوا اللاجئين الأرمن من المذابح، وانقذوا الآلاف من المذابح، وصدرت فتوى شيخ الأزهر فى عام 1909 بإدانة المذابح. وفى حال اعتراف مصر، تكون قد أكملت دورها الإيجابى لصالح الأرمن الذين يُشكلون جزءاً لا يتجزأ من المنظومة المصرية. وفى اللعبة السياسية، كما أن تركيا تستخدم كل الوسائل لضرب مصر وآمالها، ففى المقابل، يجب على مصر أن تعترف بأن ما جرى للأرمن سواء فى الحقبة الحميدية أو الاتحادية يُمثل جريمة “إبادة جنس جماعية”.

Share This