مأساة إبادة وتهجير الأرمن في الذكرى ال95 على ضوء المتغيرات الدولية

أولاً: السياسة الدولية نسخ مكررة

نعم نسخ مكررة، فعندما تريد أحد الأقطاب السياسية الكبرى التعاطي مع أحد الطرفين (تركيا وأرمينيا) فإنها تمارس مع الأولى سياسة العصا والجزرة، العصا للتهديد والتذكير بهذه الجريمة البشعة والاستعداد للاعتراف بها وكأن الضمير استيقظ فجأة من سباته، إذا لم تحقق تركيا مايريدون منها وهذا استغلال بشع لهذه الجريمة التأريخية وتوظيفها سياسياً، وسياسة الجزرة تكمن في بقاء الضمير نائماً وعدم الحديث عنها مادام الأتراك يحققون ماتريده هذه السياسة القطبية.

وفي الجانب الآخر، والطرف الثاني أرمينيا يتم التعاطي معها، ومع عموم التجمعات الأرمنية في عدد من الدول وفق سياسة  الرقص على الجراح والتباكي على المأساة، إذا كان لهذه السياسية هدف اقتصادي أو سياسي أو حتى صوت انتخابي لبعض الأرمن، وهذا أيضاً استغلال سياسي ولعب بالمشاعر والعواطف، قد ملها الأرمني وسئم منها، وأصبح يسخط في نفسه على مرتكبيها بينما، الجاني والجلاد مازال يلعب هذه اللعبة لأنه ألفها وهي تحقق له بعض مايصبوا إليه.

ولا أرى الاعترافات الدولية الأخيرة سواء من الكونغرس الأمريكي أو البرلمان السويدي إلاّ أنها تصب في هذا السياق، إذا استثنينا جهود بعض الأرمن في إعادة الصورة كلما تقادم عليها الزمن ولكن المطالبة بخطوات عملية، هو المصداق لكل مدعٍ بدعوى.

وليس هذا القول من باب التشاؤم، لكن يجب أن لا تبقى المسألة معلقة وفق أهواء السياسيين.

ولعل المؤتمر القانوني الأخير المنعقد في سبتمبر الماضي (2009) ببيروت بتنسيق بين جامعة هايكازيان والهيئة الوطنية الأرمنية في الشرق الأوسط، هو خطوة قوية تضع أساسات قانونية لما ينبغي أن يحصل.

Sherif Mecca

ثانياً: الوجه الحقيقي للمأساة:

يقول الصحفي اللبناني المستقل جورج حداد -مبيناً لها وملخصاً لبعض ماذكر- “تعتبر هذه المجازر، صفحة سوداء في تاريخ الانسانية ككل، وأكثر الصفحات ايلاما للشعب الارمني، وهي تلقي بظلها المأساوي على كل تاريخه الحديث. وتعود “مقدمات” المجازر الى نهاية القرن التاسع عشر. إلا أنها بلغت ذروتها في السنوات 1915 ـ 1922، حيث ذهب ضحيتها حوالي المليون ونصف المليون انسان، وطرد فيها من تبقى من ابناء هذا الشعب من ارضه التاريخية في ارمينيا “التركية”. وفر مئات الالوف من الناجين بحالة يرثى لها باتجاه المناطق العربية والكردية، حيث آواهم السكان، المسلمون قبل المسيحيين، وتقاسموا معهم الكسوة واللقمة. وبذلك فإن الشعب الارمني كان بمثابة الضحية الاولى لسلسلة المجازر التي لطخت وجه القرن العشرين، والتي ارتكبتها الفاشية التركية الصاعدة، بتفويض من قوى الاستعمار والظلامية العالمية. ومن زاوية نظر معينة، يمكن ان نعتبر أن الشوفينية الطورانية التي تمخضت عنها جماعة “تركيا الفتاة”، ووريثتها “الاتاتوركية”، يعود لها “الفضل” الاول في تدشين الحركات العنصرية التي ظهرت لاحقا، كالصهيونية والنازية والفاشية، التي لطخت وجه القرن العشرين، واثخنت ضمير الانسانية بجراح لا تندمل.

بالرغم من هذه المأساة الانسانية الفظيعة، وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الاولى، وانتصار معسكر “الدمقراطية” على معسكر “العنصرية” في الحرب العالمية الثانية، فلا يزال الشعب الارمني الى اليوم ضحية للمساومات الدولية، التي تقف حائلا دون اعتبار قضيته قضية قومية عادلة، تستوجب البحث في موضوع استعادة أراضيه، والعودة اليها، والاعتذار التاريخي ودفع التعويضات له من قبل العنصريين الاتراك وورثتهم، وليس فقط “الاعتراف بالخطأ” و”الاعتذار السياسي”، وهو حتى ما لا تزال تركيا ترفضه.

إنه لمن المهانة بحق الانسانية جمعاء، ولمن الظلم المضاعف بحق هذا الشعب، تقليص قضيته الى حدود ابداء المواساة و”التعزية” وحسب عما مضى. ومع ذلك فإن الدول الاستعمارية الغربية تمتنع الى اليوم حتى عن مثل هذه الوقفة الانسانية المجردة مع الارمن، حفاظا على “ماء وجه” العنصرية التركية، حليفتها التاريخية الى الان، التي تعتبر احدى اهم ركائز حلف الناتو، والتي يجري التحضير لادخالها في “الاتحاد الاوروبي”، بالرغم من كل سجلها “الحافل” في مجال “حقوق الانسان”. إن “الاسلامي المودرن” رجب طيب اردوغان ما هو سوى “وريث شرعي” للعثمانية “الاسلامية” ! وللاتاتوركية “العلمانية”! معاً.

أي انه “يجمع المجد(!!) من طرفيه”. وهو يقود تركيا “الاسلامية الجديدة!” للدخول في الاتحاد الاوروبي في طريق “تاريخي” معبد بجماجم ملايين الارمن والسريان واليونان والعرب والاكراد.

وفي وقت يتم فيه التسابق لتجيير التضحيات التي قدمها اليهود البسطاء والشرفاء والتقدميين والشيوعيين، في ما يسمى “الهولوكوست”، على ايدي النازية الالمانية، لصالح النازية الاخرى، اليهودية، المتمثلة في الصهيونية، فإن تغاضي الدول الاستعمارية الغربية ـ بعد كل هذا الزمن ـ عن القضية الارمنية، انما يدل على ان تلك المجازر لم تكن “فورة طيش” آنية لجماعة “تركيا الفتاة”، والاتاتوركية، وأن الدول الاستعمارية الغربية كانت ولا تزال شريكة في الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الشعب الارمني الأبي، وتجد مصلحتها في استمرار طمس هذه الجريمة، واسقاطها “بمرور الزمن” من جدول القضايا القومية الحية التي تتطلب الحل .أ.هـ من مقال جورج حداد).

نعم، ممّا يزيد في المأساة أن تأتي هذه القوى لتستفيد من الحدث لصالحها بعيداً عن معاني العدل وإنصاف المظلوم وإحقاق الحق,بل ربما بأسلوبها تزيد من وقع المشكلة ولانتوقع لها حلاً بهذه الطريقة,وقد ردد بعض الكتاب والمؤرخين أن الدول الاستعمارية، كانت تعطي مؤشرات لاضطهاد الأقليات والعرقيات الأخرى في الأراضي التركية في بدايات الحروب الاستعمارية وبخاصة ضد المسيحيين في الشرق، لكي توجد لها حجة في التدخل بعد ذلك، لما يخدم مصالحها، وهذا في الحقيقة يفسر السكوت والتواطؤا الدولي على مأساة الأرمن وتهجيرهم وتسليم لواء اسكندرون العربي السوري لتركيا، والتخلي عن سكانه من العرب والأرمن ومسيحيي الشرق من فرنسا في وقت ضعف تركيا وهزيمتها مع ألمانيا في الحرب العالمية.

ثالثاً: المستقبل للشعوب:

في نظري أنه ينبغي على الهيئات الأرمنية والناشطين من الهيئات الدولية أن يجعلوا الشعوب ولجانها وجمعياتها وعلماءها وقادتها الشعبيين هم الذين يمارسون الضغط على هذه الحكومات، بعد أن يكون لهم موقف صحيح من القضية الأرمنية في بعدها الإنساني بعيداً عن التعصب للدين أو العنصر.

وهذه العملية، أشبه بتخليص القضية من أيدي السياسيين ووضعها في يد القانونيين والمؤرخين.

ويمكن التحول من الدفاع والمناشدة للدول الكبرى وغيرها، بالهجوم عليها وتعرية موقفها المتخاذل والمنحاز عن الحق، ومطالبتها بقوة ليس بمجرد الاعتراف الرمزي والاعتذار بل بالعمل على إزالة الظلم الواقع على أرمن الشتات، في إرجاعهم ضمن الدولة التركية إلى مناطقهم أو تعويضهم بدلاً عنها، مع حفظ أماكن العبادة واحترامها كما أمر به الدين الاسلامي وكما أقرته القوانين والنظم الدولية المتفق عليها.

وعلى الأرمن أن يفصلوا بين أرمينيا الدولة التي لديها مشكلاتها الاقتصادية والحدودية في التنازع مع أذربيجان وبين رغبتها بعلاقات تجارية مع تركيا، وبين مطالبة أرمن المهجر للدولة التركية، برد حقوقهم، وأن الاتفاقات الدولية يجب ألا تضيّع حقوقهم في رجوعهم إلى أرضهم التي هجروا منها وُشردوا عنها، لأن دمج القضية بين هذه الدول يكاد يعصف بأصل القضية وهي المأساة التأريخية التي نتج عنها القتل والألم والتهجير وسلب الأراضي والممتلكات.

ويلاحظ هنا أن عبارة إرجاع الأراضي للأرمن، يفهم منها تغيير الجغرافيا بإعادتها إلى دولة أرمينيا، وهذا من الصعب حدوثة في واقعنا اليوم، ولذا يغلق الأتراك أسماعهم لهذة العبارة ولكن لعل المقصد عند الأرمن أنه إرجاع للحقوق ضمن حدود الدولة التركية وهذا حق وعدل المفروض أن يكفله القانون التركي لمواطنيه من أيّ جنس أو دين كانوا .

وأخيراً أتمنى أن تكون هذه الذكرى درساً خالداً في احترام إنسانية الإنسان وحريته وكرامته وأن الظلم عاقبته وخيمة على الظالم الذي يصبح منبوذا حتى من أهل ملته، لأن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً.

مفلح الشمري

الرياض

20/4/2010م

لمجلة أزتاك ببيروت

Share This