الجدل حول الإبادة الجماعية الأرمنية سياسي وليس فقط تاريخياً

الإثنين، 19 أبريل 2010

فيكين شيتيريان *

95am

لماذا تستمر البرلمانات في مناقشة موضوع الإبادة الجماعية الأرمينية بعد مضيّ 95 سنة على حصولها، ولماذا تتسبّب هذه المسألة بقدر كبير من التوتّر على صعيد العلاقات الدولية؟ قد أصبح الأشخاص الذين ينكرون اليوم حصول الإبادة الجماعية الأرمينية نادرين. وغالباً ما يقرّ المعترضون اعتراف الهيئات التشريعية بأن الإبادة الجماعية حدثت، إلا أنهم يعتقدون أنه من غير الملائم سياسياً إغضاب تركيا التي تعتبر عضواً هامّاً في حلف شمال الأطلسي وشريكاً استراتيجياً، معتبرين، بعد مرور 95 سنة على الحدث، أن الوقت غير مناسب لذلك. لكن البعض الآخر يرى أنّه يجب ترك ما حصل في عام 1915 للمؤرخين بما أن هذه الأحداث تنتمي إلى الماضي. غير أنهم مخطئون في ذلك. فالجدل الدائر في شأن الإبادة الأرمينية مرتبط اليوم بالسياسة. وسنقدم في ما يأتي أربع قرائن تبيّن ارتباط الإبادة الأرمينية بالسياسة.

– أولاً، ينتشر أحفاد الأشخاص الذين نجوا من الإبادة والذين يشكّلون أعضاء الجاليات الأرمينية، في جميع أنحاء العالم. وتجدر الإشارة إلى أن سلوك السلطة التركية القاضي بالاستمرار في إنكار حصول الإبادة وبإلقاء اللوم على الأرمن في حال افترضوا حدوثها بالفعل يساهم في استمرار تحريك الجالية الأرمينية للتوصّل إلى الاعتراف بالإبادة وتحقيق العدالة. ويصعب تصوّر أن هذه الجالية ستختفي أو تنسى أو تلزم الصمت. فالأرمن لن ينعموا بالسلام إلى أن تعترف تركيا بمسؤوليتها عن إبادة عام 1915 التي أدّت إلى مقتل أو اجتثاث حوالى مليوني أرميني كانوا يعيشون في أرض أرمينيا التاريخية خلال الحرب العالمية الأولى.

– ثانياً: لا يزال طيف إبادة عام 1915 يخيّم فوق السياسة المعاصرة في القوقاز. وكان الأرمن المقيمون في عام 1988 في ناغورنو كاراباخ المنتمية آنذاك إلى الاتحاد السوفياتي قد طرحوا مطالب سلمية تقضي بنقلهم من أذربيجان السوفياتية وضمّهم إلى أرمينيا السوفياتية. وبعد مضي ثلاثة أسابيع على ذلك، جاء الردّ عنيفاً وتمثلّ بمجزرة أرمينية في قرية سومغايت في أذربيجان. وكانت الرسالة واضحة ولم يكن أحد بحاجة إلى المزيد من التفسيرات. اذ إن هذا الحدث أعاد إلى أذهان الأرمن، ومعهم الشعب الأذربيجاني، إبادة عام 1915. وتلت مجزرة سومغايت عشرات المجازر الأخرى بدءاً بمدينة كيروفاباد (غانجا اليوم) ووصولاً إلى مدينة باكو. وكانت الرسالة واضحة ومفادها الآتي: «إن استمريتم في مطالبكم، فستشهدون مجزرة أخرى كتلك التي حصلت في عام 1915». خلال المراحل المتأزمة وفيما كان الاتحاد السوفياتي يتفكّك، عاد الخوف من جهة والتهديد من جهة أخرى ليبرزا مجدداً. ولو كانت تركيا قد أقرّت بمسؤوليتها عن إبادة أرمن الأناضول، لكان النزاع السياسي القائم بين الأرمن والشعب الأذربيجاني حول محافظة كاراباخ قد حُلّ بطريقة غير عنيفة.

ثالثاً: إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعدما استحال النزاع حول كاراباخ حرباً مفتوحة، لم تنتظر تركيا المقرّبة إثنياً من أذربيجان طويلاً لتقديم المساعدة العسكرية، فأرسلت الأسلحة والذخائر الحربية والجنرالات. حتى أن الرؤساء الأتراك وجهوا تهديداً إلى أرمينيا بالقول إنهم سيلقنونها درساً لن تنساه. ومنذ ذلك الحين، انضمت تركيا إلى أذربيجان في فرض حصار على أرمينيا بهدف خنق اقتصادها وإجبار الأرمن على وقف دعمهم كاراباخ. وتعتبر هذه الحدود الوحيدة التي لا تزال مغلقة منذ انتهاء الحرب الباردة، مع العلم أن النزاع لم ينتهِ بعد.

واليوم، لا تزال السلطة الأذربيجانية تهدد أرمينيا بشنّ اعتداء عسكري ضدها لاستعادة الأراضي التي خسرتها في التسعينات. وقد يساهم اعتراف تركيا بالإبادة وبقائها على الحياد في نزاع كاراباخ في تقليص خطر وقوع حرب جديدة في القوقاز.

– رابعاً: بعد أن تمّت إبادة الأرمن، استمرت الجمهورية التركية في إبداء ضيقها من الأقليات كافة وعاملتها بعنف، ونذكر في هذا الصدد الأكراد والآشوريين واليونانيين والعلويين وأعضاء النقابات العمالية والناشطين في مجال حقوق الإنسان. وخلال النزاع بين الجيش التركي وجماعة حزب العمال الكردستاني في الثمانينات، تمّ تدمير نحو ثلاثة آلاف قرية كردية وأُرغِم السكّان على النزوح إلى المدن الكبرى. واليوم، بدأ انهيار نظام الحزب الواحد، وهو حزب الجيش الذي يوصف خطأً بأنه «علماني»، فاتحاً الباب أمام إمكان تطبيق الديموقراطية والتعددية. وفي هذا النضال، باتت المسألة الأرمينية من جديد محور جدال مركزي مع صحافيّين وكتّاب وناشطين يخاطرون بحياتهم في سبيل تحدّي المحظورات الرسمية. وقد دفع بعض الصحافيين الثمن باهظاً بسبب جرأتهم، ومن بينهم هرانت دينك الذي تمت تصفيته أمام مكاتب صحيفته في إسطنبول. وسيكون اعتراف تركيا بالإبادة الأرمينية خطوة كبيرة باتجاه القضاء على الخوف والعنف اللذين وصما الحياة السياسية الداخلية التركية لغاية الآن.

ولكن في نهاية المطاف، يجب الإقرار بأنّ الاعتراف بالإبادة الأرمينية يعني الجميع في تلك المنطقة. فكيف لنا أن نتكلّم عن تحوّل في العلاقات الدولية وعن التوصل إلى حلّ سلمي لنزاعات اليوم في حال الاستمرار، ولأسباب سياسية، في إنكار حصول الإبادة الجماعية الأولى في القرن العشرين؟

في 24 نيسان (أبريل) الجاري ستكون الذكرى الخامسة والتسعين للإبادة الأرمينية. وخلال الأعوام الخمسة والتسعين الفائتة، لم ينجح الأرمن في نيل اعتراف بالإبادة ولا في تحقيق العدالة. لكن يخطئ من يظنّ أن الجدل الدائر حول الإبادة الأرمينية تاريخي وأن لا علاقة له بالأنباء اليومية، فالجدل حول أن الإبادة الأرمينية مرتبط اليوم بالسياسة وهو لن يختفي بهذه السهولة.

* كاتب وصحافي لبناني من أصل أرميني مقيم في سويسرا وهو مؤلف كتاب “الحرب والسلام في القوقاز: حدود روسيا المضطربة” الصادر عن دار نشر (هيرست وجامعة كولومبيا).

Share This