العلاقة التركية ـ الأرمنية: «الإبادة» عائق متواصل

بُعدٌ واحد هو الذي تحكّم بالعلاقة بين تركيا وأرمينيا منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو بعد تاريخي – نفسي إن جاز التعبير. إنه ما يطلق عليه الأرمن «الإبادة الجماعية» بحقهم في نهاية أيام الامبراطورية العثمانية، وما يطلق عليه الأتراك «أحداث عام 1915».

وفي كل مرة كانت تجرى محاولات لتجسير الهوة، وإقامة حد أدنى من العلاقات بين أنقرة ويريفان، كانت «المجازر» تستحضر كبند أول، فتُستَثار العصبيات والقوميات الشوفينية ويتراجع دور العقل والديبلوماسية مفسحاً في المجال أمام الأصوات المتطرفة في كلا الجانبين.
ولم يزد اعترافُ عدد من الدول بالمجازر (21 دولة (بينها لبنان) و43 ولاية أميركية، أما الولايات المتحدة ذاتها فهي لم تقر أي قانون بهذا المعنى بعد) الأتراكَ إلا تصلباً، بالرغم من الضغط الهائل الذي تمارسه بعض هذه الدول بين الحين والآخر على أنقرة بفعل تحرك اللوبي الأرميني العالمي القوي.

غير أن تركيا، منذ العام 2005، عندما بدأ تحريك ملف عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وعندما كانت تطبق سياسة «صفر مشاكل مع الجيران»، فتحت حواراً في بنود محددة مع أرمينيا، منها العلاقات التجارية، وتأسيس خط سكك حديدية بين البلدين، وفتح معابر عبر الحدود، والنزاع الأرميني – الأذربيجاني حول إقليم ناغورني قره باخ.

ففي العام 2009، وفي جو مؤات من الإيجابية والانفراج، اتفق البلدان على تأسيس علاقتهما على بعدين جديدين، أولهما فتح الحدود وثانيهما إقامة علاقات ديبلوماسية. ويسجّل لأرمينيا عدم إثارتها لبند «المجازر» في حينه، ما ساهم في تطور المحادثات ووصولها إلى مراحل متقدمة، فوقّع الطرفان بروتوكولين بهدف فتح الحدود وإقامة علاقات ديبلوماسية. إلا انه بعد فترة وجيزة من التوقيع، ونظراً لحسابات تركيا الاستراتيجية في علاقاتها مع أذربيجان، قررت أنقرة ربط المصادقة على البروتوكولين بإيجاد تسوية لقضية إقليم ناغورني قره باخ.

وأدى ربط البروتوكولين بنزاع مجمّد منذ سنين إلى تجميد أيضاً للعلاقات الثنائية، التي كانت لم تزل في بداية تقدمها، كما أدى إلى إحراج القيادة الأرمنية التي كانت قد تحملت انتقادات قاسية جداً، لا سيما من الاغتراب الأرمني بسبب تخلّيها عن بند الاعتراف بـ«الإبادة» كشرط مسبق لأي تطبيع في العلاقات مع أنقرة.

اليوم تحاول تركيا أن تسابق الزمن قبل الوصول إلى محطة العام 2015، الذكرى المئوية لـ«المجازر» الأرمنية. فالاستعدادات لإحياء هذه الذكرى بدأت، واللوبي الأرمني العالمي ناشط في حشد التأييد، وتركيا تعرف أنها ستكون تحت ضغط دولي أكبر بكثير من الضغط الذي تواجهه عند اقتراب تاريخ 24 نيسان من كل عام. أمام أنقرة أقل من سنتين لإعادة تنشيط المحادثات مع يريفان، والوصول بها إلى نتائج مقبولة.

في هذا الإطار تحديداً يمكن وضع زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو لأرمينيا في 12 كانون الأول الحالي، إضافة طبعاً إلى إعادة تقييم أنقرة سياستها الخارجية بعد التطورات الأخيرة في المنطقة والتفاهم الأميركي – الإيراني. فمن وجهة نظر أنقرة، يتيح التقارب التركي – الأرميني ترسيخ موطئ قدم لها في القوقاز، وبالتالي زيادة قدرتها التنافسية مع روسيا وإيران في تلك المنطقة. وكانت المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا قد استؤنفت في تشرين الثاني الماضي برعاية منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، برئاسة مشتركة لروسيا والولايات المتحدة وفرنسا، وبدعم وتأييد من تركيا.

من جهتها، لاقت يريفان رغبة أنقرة في إحياء المفاوضات، فدعت وزيري خارجيتي تركيا وأذربيجان إلى حضور اجتماع منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود، فسارع داود أوغلو إلى تلبية الدعوة واجتمع بنظيره الأرمني إدوارد نالبانديان، بينما كان الحضور الأذري على مستوى منخفض.

وكانت لافتةً التسوية اللفظية التي أطلقها داود أوغلو بخصوص «أحداث 1915»، فهو لم يقرّ بكونها إبادة ولم يعتذر عنها، لكنه اعتبر أن «ترحيل الأرمن» أيام حكم «جمعية الاتحاد والترقي» أواخر أيام السلطنة العثمانية كان «عملاً غير إنساني» وتركيا لم تؤيده يوماً. ثم دعا إلى مراجعة الأحداث «بذاكرة عادلة… فعندما يُكتب التاريخ من مفهوم الترحيل فقط عندها يظهر مفهوم مقابل من جهتنا (التركية) مفاده أن الأرمن قد خانوا أمّتهم واستحقوا الترحيل. علينا أن نحطم هذين المفهومين، كليهما»، وذلك في سابقة «إيجابية» هي الأولى لمسؤول تركي رفيع بعد إنكار تام لـ«الإبادة» أو «المجازر» أو الترحيل.
تناقش الجانبان بموضوع الحدود، وخط السكك الحديدية، وإقليم ناغورني قره باخ. وكان بعض المصادر قد ذكر أن تركيا اقترحت على الجانب الأرمني استعدادها لفتح الحدود، وإقامة علاقات ديبلوماسية، وحتى منح مساعدات مالية، في مقابل انسحاب أرمينيا من منطقتين من أصل سبع مناطق محتلة في الإقليم. لم تشر المصادر إلى الرد الأرمني على هذا الاقتراح، إلا ان المتابعين يذكرون بأن رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان كان قد تقدم باقتراح مشابه منذ عدة سنوات إلى نظيره الأرمني في حينها روبرت كوتشاريان، إلا ان الأخير رفضه مصرّاً على عدم إقامة أي رابط بين ناغورني قره باخ والعلاقات بين تركيا وأرمينيا. ولا يبدو أن يريفان قد غيرت موقفها منذ ذلك الوقت.
ستبقى العلاقات التركية ــ الأرمنية إحدى الحلقات الضعيفة في سلسلة العلاقات الدولية. ويبدو أن المبادرة التركية الأخيرة لن تحدث فتحاً في العلاقات بين البلدين، ما دامت أنقرة لم تستطع بعد أن تقيم توازناً إيجابياً بين مصالحها في أذربيجان وتلك التي في أرمينيا. كذلك يبدو أن استجداء أنقرة المساعدة الأميركية في هذا الملف لن يحدث النتيجة المرتجاة بعد تغير المناخ الدولي والإقليمي بفعل الاتفاق الروسي – الأميركي حول قضية «الكيميائي» السوري، والأميركي – الإيراني حول النووي الإيراني وتبعاتهما الكبيرة.
يبدو أن العلاقات – التركية الأرمنية بحاجة إلى مقاربة جريئة واستقرار إقليمي وتسوية عادلة، بقدر حاجتها ربما إلى “ذاكرة عادلة”.

 

باتر فخر الدين       

السفير

Share This