هرانت دينك.. آخر ضحايا تركيا في القضية الأرمينية

في ذكرى اغتياله.. رفعت الإمام: تصفيته دليل على سلوك تركيا الوحشي وتوترها إزاء الملف الأرمني

استمرارا لوحشية الأتراك التي شهدها التاريخ، وتأكيدًا للعالم على أسلوبهم العنيف في معاملة من يعارضهم حتى الآن، الأسلوب الذي لم تستطع الحكومات التركية إخفاؤه على مر العصور السابقة سواء بإصدار القوانين وتشديد العقوبات، أو التوجيه الإعلامي، اغتيال الكاتب الصحفي الأرميني الأصل “هرانت دينك” رئيس تحرير صحيفة “آغوس” الأرمنية، الذي أفنى حياته في صالح القضية الأرمينية رغم كونه تركياً، والذي لقي حتفه في أسطنبول 19 يناير 2007 أمام مقر الصحيفة منبره للحرية، لتكتمل دموية الأتراك وسفك الدماء التي كان أكبر دليل عليها إبادتهم للشعب الأرميني 1915، والتي يخفونها خوفًا من عدم الانضمام للاتحاد الأوروبي.

ولد دينك حاملا الجنسية التركية من أصل أرميني في 19 سبتمبر عام 1954 بمدينة “ملاطية” جنوب شرق تركيا، وعاش طفولته في ميتم تابع للطائفة الأرمنية الإنجيلية في أسطنبول، وحصل على بكالوريوس من جامعة أسطنبول في قسم علم الحيوان، وقام بتأسيس معسكر “تزولا” للشباب الأرمني هو ووزوجته رايتشل، لكن في عام 1979 استولت السلطات التركية على المعسكر الذي كان يأوي 1500 يتيم أرميني.

وفي عام 1996، أسس صحيفة آغوس التي تصدر باللغتين الأرمنية والتركية، وشغل منصب رئيس التحرير فيها، لتكون صوت المعارضة الديموقراطية التركية، لإظهار حقيقة النظام وغياب العدالة بحقّ المجتمع الأرمني، ولتكون نقطة لقاء بين الأرمن والأتراك وأن تنمّي الحوار بينهما، واستمر في رئاسة التحرير حتى تاريخ اغتياله.

واشتهر دينك بميله نحو المناقشة الصريحة والانتقادية للقضايا المتعلقة بالهوية الأرمنية، وبالروايات التاريخية الرسمية في تركيا لمذابح الأرمن في 1915، وشارك المدافع المتحمس عن حقوق الإنسان في عدة منابر مع ناشطين وصحفيين ومفكرين من مختلف ألوان الطيف السياسي، وقبل وفاته، حوكم على نحو متكرر لتعبيره عن آرائه السلمية.

وتعرض الصحفي الأرميني الأصل لتهديدات كثيرة من القوميين الأتراك بسبب دعمه للقضايا الأرمنية وحثه الحكومة على الاعتراف بالإبادة الجماعية بحقهم؛ وكانت هذه التهديدات بمباركة من النظام التركي، وعلى الرغم من ذلك رفض هرانت مشروع القانون الفرنسي بفرض عقوبات على إنكار مجازر في حق الأرمن في مقال له عام 2006، مؤكدًا أن ذلك يتناقض مع حرية التعبير، ويضئل من حجم القضية الأرمنية، ويجعلها مجرد ورقة ضغط سياسية بحق تركيا لمنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وفي 19 يناير عام 2007 توجه شاب يدعى “ساماست” إلى “آغوس” طالبا لقاء دينك، معرفاً نفسه بأنه طالب في جامعة إسطنبول، وبعد أن رفض تحديد موعد له، غادر المبنى، لينتظر هرانت ساعات أمام المبنى حتى تمكن من قتل هرانت بإطلاق عدة أعيرة ناريه أمام مقر الجريدة، وقال شهود عيان إن ساماست صرخ مرات عديدة “قتلت الخائن”.

ألقت قوات الشرطة القبض على القاتل بعد حوالى 32 ساعة من عملية الاغتيال، وبعد اعتقاله، قال إنه غير نادم على فعلته، معلنا استعداده لتنفيذ عمليات أخرى للدفاع عن الوطن وتم استقباله في السجن كبطل قومي، وقامت قيادات من قوات الأمن التركية بالتقاط الصور التذكارية فرحين بجريمته.

وقد نوه الصحفي ذو الأصول الأرمينية في مقاله الأخير عن بعض التهديدات والتي خاف أن تستهدف المقربين منه، كما وصف نفسه بالحمامة، قائلا “أنظر يمنة ويسرة، أمامي وورائي، خجلا مثل الحمامة، لكن أعرف أن شعب هذا البلد لا يمكن أن يؤذي حمامة”، مبديا تعلق قلبة بتركيا فكتب “البقاء في تركيا هو رغبتي الحقيقية وواجب على احترام كل الأصدقاء” خاتما مقالته “إذا اضطررت يوماً إلى الرحيل فسأنطلق على الطرق تماما كما حصل عام 1915”.

كما كتب في أحد مقالاته عن المجازر الأرمنية، مستعينا بالمثل الأناضولي القائل “الدم النقي الذي سيحل مكان الدم المسموم للأتراك يسري في العروق النبيلة التي ينبغي على الأرمن أن يمدّوها بينهم وبين أرمينيا”.

وقال الدكتور محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة دمنهور، إن دينك حالة فريدة في علاقة السلطة بالمفكر في تركيا، ووفقًا للمادة 301 من قانون العقوبات التركي يتعرض كل من يسئ إلى القومية التركية للعقاب، ومن هذا المنطلق حكمت السلطات التركية أكثر من مرة على دينك لأنه طالب أنقرة بضرورة الاعتراف بالإبادة الأرمنية التي ارتكبتها تركيا العثمانية ضد الأرمن عام 1915.

وأضاف رفعت، في تصريحات لـ”الوطن”، أنه عندما كانت الإبادة الأرمينية من المحرمات في تركيا، اعتبرت السلطة التركية دينك أساء للقومية التركية، وبمرور الوقت لم يسكت دينك وأخذ مع غيره من الليبراليين الأتراك يطالب تركيا حكومة وشعبًا بعدم إنكار الإبادة وضرورة الاعتراف بها، ولهذا قام القوميون الأتراك بتصفية دينك جسديًا وبذلك تكون تركيا أضافت شخصًا جديدًا للمليون ونصف المليون ضحايا الإبادة الأرمنيين.

وأشار إلى أن هذا الاغتيال يعد دليلًا على وحشية السلوك التركي ضد المطالبين أنقرة بالاعتراف بالإبادة الأرمنية ويعد جريمة ضد الإنسانية تتناسى مع المواثيق والأعراف الإنسانية والدولية كما يعكس توتر تركيا إزاء ملف الإبادة الأرمنية.

الوطن

Share This