الحضور التركي الصاخب والسيناريوهات المحتملة

بقلم: سعيد موسى


طاحونة السياسة لا تتوقف عند حدث بذاته بالندب وتكرار شرح الحدث، وما وقع من جريمة إسرائيلية بكل معاني ومعايير ومقاييس الجريمة في العرف الإنساني والقانوني قد وقع، وهذا ما عبرت عنه الإدارة الأمريكية بكل استخفاف، بان طحن الهواء واستمرار الشجب والندب والغضب لايعيد الأرواح التي أزهقت، ورغم أن رأس هرم القيادة التركية”اوغلو-اوردغان” وهم من منطلقات المزيج”الإسلامي-العلماني” درجة متحللة بعض الشيء من أيدلوجية مؤسس الجمهورية بل القومية التركية”كمال أتاتورك” صاحب صرخة التحلل من الانتماء الإسلامي” دعوكم من هذه الأساطير المقدسة، فقد شهدنا غضبا وسخطا رسميا وشعبيا، تركيا وعربيا وإسلاميا وعلمانيا وماركسيا عالميا، رغم أن الجريمة لم تكن سوى نقطة من محيط الجريمة التي ارتكبت ومازالت ترتكب بمجازر جماعية بحق شعبنا الفلسطيني والقتل بالآلاف، وقبل التدخل الدبلوماسي الأمريكي كان في عين العاصفة موقف أمريكي باهت ومتردد، وكان هناك موقف تركي يعتلي اعتى أمواج البحار والمحيطات من هدير وتحذير، وصل فيما وصل على خارطة العلاقات الإستراتيجية بين انقره وتل أبيب حد الذروة،وفي هذا المخاض العاصف استوقف جميع الشعوب والمراقبين السياسيين، ليس لهيب الخطاب التركي ردا على الجريمة، بل خلاصة المنعطف جاءت في موقف عبر عنه كل من وزير الخارجية التركي “اوغلو”، بان هذا الاعتداء والجريمة بالنسبة لتركيا تساوي جريمة وعدوان”هجمات 11 سبتمبر” بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وما جاء عمليا من قرار تبناه رئيس الوزراء التركي”اوردغان” بالتوجه للبرلمان طلبا لصلاحيات إرسال قوات حربية خارج الحدود التركية، مما استوقف جميع المراقبين إلى أين تتجه الأزمة بين”انقره وتل أبيب” وعندما وصل الأمر إلى هذه الذروة تم تأجيل هذا القرار كما تم الإعلان عنه، إلى مابعد الحوار الهاتفي بين”اوردغان واوباما”.

بعد المحادثة هذه والتي يبدو أنها كانت ايجابية، وبدا على مابعدها من رصد لاتجاه رياح زوبعة الغصب والحضور التركي أنها آخذة في التهدئة والهدوء بما يحفظ ماء الوجه التركي، أو لنقل حقيقة بما يضمن حصاد وثمار سياسية وربما اقتصادية من خلف كواليس تلك المحادثة”اوردغان –اوباما” بدل استمرار طحن الهواء بالخطاب الغاضب المتصاعد، وقد لامسنا فرملة على الخطاب الرسمي التركي مابين الصعود والهبوط قي نقطة ثبات تنم عن احتراف سياسي تركي لاستثمار الحدث والجريمة بدل الاكتفاء بسطوع نجوم قادة”شخوص” وكثير من التصفيق الشعبي على جرأة التحدي التركي للمتغطرس الصهيوني المدعوم بالكامل من الولايات المتحدة الأمريكية، وأمر الدعم اكبر من حسره في إرادة إدارة اوباما، بل في الكونجرس ومجلس الشيوخ وهذا لصالح الكيان الإسرائيلي بالمطلق، مما جعلنا نتوقف عند الإمساك التركي في منعطف تخريج وإعادة صياغة وإخراج الأزمة من الخطاب العسكري إلى الخطاب السياسي، ليعلن “اوردغان” بعد محادثته مع”اوباما” انه على “تل أبيب” كشرط لإعادة تطبيع العلاقات؛ رفع الحصار عن غزة، الاعتذار، التعويضات، وهنا لم يتأخر الرد الإسرائيلي بالاعتراض على احد الشروط”رفع الحصار عن غزة” مع تبرير وقح وكاذب لذلك، والصمت الذي ينم عن موافقة إسرائيلية على الشرطين الآخرين”الاعتذار والتعويض” ومن ثم لجنة تحقيق أو تقصي حقائق ستكون حتما مخرجاتها موظفة في خدمة مسار إعادة تطبيع العلاقات بين”انقره- تل أبيب”.

يبدو أن كوابح العواصف الأمريكية تدخل إلى خشبة مسرح الجريمة بقوة من خلف الكواليس، ليتغير الخطاب والسلوك في المشهد التالي فور إزاحة الستارة من جديد عنه، وهنا ستتدارك تركيا الزاحفة صوب هرم القيادة الإقليمية في واقع شرق أوسطي متغير، وبهذا الحضور القوي وبسرعة البرق، ستتدارك أو تداركت كما يبدو أهمية الفرملة في إصدار مزيد من التصريحات التي تلقى استحسانا لدى الجماهير العربية والإسلامية والدولية الثائرة، لكنها فور الصحوة من الصدمة ستجد أن لم تقطف ثمار الموقف ما يعود على مكانة وطموح تركيا، ستجد من النظم الرسمية العربية والإسلامية والدولية التي تعاطفت وأيدت الموقف التركي تراجعا إذا ماتم الإفراط في الثبات كمن يريد احتجاز عاصفة في زجاجة لتتحول إن لم يتم استدراك واستثمار الحدث من عاصفة إلى زوبعة إلى نسيم حزين بموسيقى سياسية جنائزية حزينة.

الحقيقة أنني منذ أن وقعت جريمة العدوان على أسطول الحرية، استوقفني حدث ترددت قليلا في الربط بينه وبين مجزرة الحرية من حيث ميدان وقوع الهجوم”البحر” ومن حيث وحدة توقيت الهجوم الثنائي، ورددته على غير عادة قراءتي لما بين السطور إلى صدفة، حيث تزامن مع مجزرة المياه الدولية البحرية، وقوع الهجوم الدامي بالموازاة من حزب العمال الكردستاني على قاعدة بحرية تركية أسفرت عن مجزرة بنفس التوقيت وربما بنفس عدد الضحايا مع فارق العملية العسكرية من حزب كردستاني يناضل من اجل قضية يعتقد بعدالتها ويواجه قوة عسكرية إقليمية كبرى وقاعدة بحرية عسكرية، وفارق قوة عسكرية دموية صهيونية تهاجم متضامنين ومدنيين عزل في عرض البحر حيث أن الظلم والعدوان لدى المعتدي قانون المرحلة، وهنا أردت القول بأنه في حال وجود ربط بين الحادثتين فإنها رسالة صهيونية لتركيا باستطاعتها اللعب في ميدانها إذا ماخالفت تركيا قوانين اللعب السياسي وتمادت في انتهاك ثوابته بعيدا عن الحق وباطل المحتل،، والاهم من كل ذلك لمنع الحضور التركي في دائرة اللعب الصهيوني، ليس مستبعدا تغير التحالفات حسب المصالح وليس حسب الحق والباطل والظلم والعدل في واقع وحقيقة العلاقات والمصالح الدولية، فلم يكن مستبعدا تخطيط ومساعدة إسرائيلية لحزب العمال الكردستاني إن لم يكن بتخطيط ذلك الحزب واستغلاله وقراءته للحدث، رغم أن الموساد الإسرائيلي قدم عربون حلفه الاستراتيجي مع تركيا بالمساعدة في اختطاف المطلوب رقم واحد” عبد الله أوجلان” زعيم حزب العمال الكردستاني وتسليمه لأنقرة فتتغير التحالفات مابين ثابت ومتغير ولا ثبات على خارطة المصالح، فحليف اليوم عدو الأمس، وعدو الأمس حليف اليوم، بل لوح الكيان الإسرائيلي في مواجهة الحضور واللعب التركي في ميدان العبث الصهيوني، بإثارة عاصفة إعلامية حول مجازر الأتراك بحق الأرمن وفي ذلك إشارة إلى تذكير القيادة التركية التي لم تعتذر عن مجازر سابقيها، بان تاريخ البلدين من حيث أيدلوجية المجزرة واحد.

الأهم من هذا كله وبانخفاض وتيرة عاصفة الخطاب التركي والآخذ في الهدوء شيء فشيئا، تعلم تركيا وتحديدا “جول- اوردغان” إن الحضور التركي القوي في منطقة الشرق الأوسط عامة وفي المنطقة العربية الإسلامية خاصة وفي المناطق الفلسطينية تحديدا، هو حضور مقبول ومرحب به ولكن كي يكون أكثر جدوى من الترحيب المفيد بما ينعكس على مكانة تركيا الطموحة، يجب أن يكون مقبولا لطرف الصراع الثاني”الكيان الإسرائيلي” وهذا ما تعلمه تركيا جيدا، وآخر تصريحات ساستها يفيد ذلك حيث الوساطة التركية بين”دمشق- تل أبيب” والوساطة التركية بين” واشنطن_ طهران_ تل أبيب” وما دون ذلك يصبح الحضور التركي غير مؤثر وغير مجدي للمصالح والمكانة التي تطمح تركيا لتبوئها في شرق أوسط جديد، كانت ومازالت تركيا من ضمن اللجنة الموكل إليها إعادة الصياغة ووضع اللبنات الأساسية للإعلان عن ميلاد شرق أوسط جديد ربما في عهد” اوباما”، ولكن الأهم من ذلك كله وأنا على يقين بان كثير من المتنفذين بالبزة العسكرية التركية وأصحاب السطوة والصمت الدامي المخيف، غير راضين بتاتا عن قيادة”اوردغان” والذي تعرض إلى أربعة محاولات اغتيال ولن تكون هذه المحاولات الفاشلة هي الأخيرة، ذلك نتيجة تطاوله على نفوذ المؤسسة العسكرية التركية، واعتقد أن هدف هؤلاء وربما ينجح لاسمح الله بمساعدة “الموساد” و”السي أي إيه” أو ربما التأثير على نجمه الساطع شعبيا بألاعيب موجودة في جعبة الحاوي الخبيث “الصهيوني الأمريكي” للتأثير السلبي على رصيده وحضوره في أي انتخابات قادمة.

أما الحضور التركي بالنسبة للواقع الفلسطيني وخاصة على خارطة عبث الانقسام، فمن الظلم”لاوردغان” وضعه في زاوية تشجيع وتغذية الانقسام، والوقوف في معسكر احد الفرقاء ضد الآخر، فهذا والله ظلم بحق هذا الفارس القادم بسرعة البرق ولا أتمنى له المغادرة بنفس السرعة، فهو كحكومة وتركيا كشعب ورئاسة”جول” يتمتعون بعلاقة طيبة وسوية مع كل مكونات المجتمع الفلسطيني، ومن أراد تصوير المشهد التركي غير ذلك فانه جاحد ومشوه لمواقف حكومة وشعب ورئاسة هذا الرجل، بل لدى من لديه في أحشاء قلبه نية اليوم أو غدا لإعادة المياه إلى مجاريها بعد عصف الانقسام المقيت، يجب أن لايسيء ويحسم موقف هذا الرجل وحكومته لصالح طرف من افرقاء ضد طرف آخر ظلما وعدوانا، هذا ليس لان هذا الرجل يملك العصا السحرية لتحرير فلسطين، ولكن لنعطيه قدره فيما لو سمح له بدور لإنهاء مصيبة الانقسام الفلسطيني دون الطعن في موقعه على خارطة العلاقة التركية الفلسطينية، وما دون ذلك فنفعه لنفسه ولوطنه وضرره الذي لم نلمسه كذلك.

أما على مستوى هجوم قوافل كسر الحصار عبر البحار، وعلى غرار الجريمة التي وقعت والتي أدانها كل حر في العالم، وكما هددت تركيا قبل المحادثة الأمريكية التركية، بأنها ستسير مرة ثانية سفن كسر حصار ويرافقها هذه المرة قطع حربية تركية، بما يعني للكيان الإسرائيلي بعيدا عن تبرير العدالة بكسر الحصار إعلان حرب، وهذا لن تشجعه أي دولة أوروبية ولن تسمح به بما يفضي لصدام الولايات المتحدة الأمريكية، واعتقد حسب قراءة متعمقة في عقلية الاحتلال والغطرسة الإسرائيلية، فيما لو وجد الكيان الإسرائيلي نفسه أمام هجمة واسعة من أساطيل حرية جديدة، فاعتقد أن السيناريو التي ستقدم عليه إسرائيل إن لم تتدخل أمريكيا وبقوة لمنع الدول التي تنطلق منها أساطيل الحرية والمواطنين لوقف هذا المشهد وتعد برفع الحصار بإخراج معين، فسوف لن يتردد الكيان الإسرائيلي من تسخين الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية في غزة تحديدا، وافتعال جرائم تسبق كسر حاجز صمت فصائل المقاومة كي تمطر مغتصبات الكيان الإسرائيلي بالصواريخ، كمقدمة لتصوير المشهد بالمعركة العسكرية والدفاع عن النفس، لتعيد انتشارها ولا أقول احتلالها لغزة، لان غزة بكل المقاييس محتلة برا وبحرا وجوا ومهزلة غزة المحررة هذه تخدم أكذوبة الاحتلال أمام العالم فغزة محتلة ومحاصرة وتتعرض يوميا إلى عمليات قتل واغتيال وتجريف واجتياح، وتراجع الجيش الإرهابي الصهيوني لأمتار إنما هو خدعة وتضليل ويصب في مصلحة إطالة أمد الانقسام ليظهر أن الصراع ليس بينه وبين الفلسطينيين وإنما بينهم وبين أنفسهم كصراع على الكرسي والنفوذ والمنافع، وليظهروا أنهم يقمعون شعبهم ويصادرون حرياته أكثر من قمعهم له أثناء وجودهم في قلب الميدان، ولا ادري من أين للسيد” نجاد” من معلومات مؤكدة تكشف عن مخطط لاجتياح واسع وشامل لقطاع غزة، وهذا فعلا سيكون سيناريو فيما لو عجزت أمريكيا وربيبتها الصهيونية عن كبح جماح توافد وتقاطر مزيدا من أساطيل الحرية، فتحتل غزة وعندها مافائدة توافد أساطيل حرية والتي سيكون عبثا واستخفافا مرحب بها أثناء سلطة الاحتلال المباشرة لقطاع غزة فتتوقف.

وهنا أعود للحضور التركي في قراءة لاتجاه بوصلة التصعيد، ولا أقول انكفاء أو استنكاف تركي سيطرأ على المشهد، ولكني أقول بان تركيا ستمسك بشقي المعادلة بيدها، فلن تستمر بخطاب التحدي بعنوان مواجهة عسكرية لن تحدث أكثر من الخطاب الذي يرضي الشعوب المتعطشة كما قلت في مقالتي السابقة إلى قيادة وزعامة بمواصفات كاريزمية الزعامة المفقودة سواء زعامة بعنوان إسلامي أو بعنوان عربي، لأنه ببساطة عودة على بدء فان القيادة التركية رغم طابعها السياسي الإسلامي كما يتصورها البعض في”اوردغان” لكن في حقيقتها فصل بين الدين والسياسة”علمانية صرفة” وهذا لن يغير نظرتنا لشجاعة وشرف وجرأة القيادة التركية والزعيم”اوردغان”، لكن القيادة التركية لن تبقى ثابتة تتخيل دوام العاصفة دون أن تقطف ثمار هذا الحضور وهذا الالتفاف الشعبي والدولي حول خطابها العادل ولكن بعيدا عن الصدام العسكري الذي لن يسمح به ليس من أمريكا وأوروبا ولكن من قيادة الظل العسكري في تركيا، إنما قد نشهد حضور تركي فاعل ومرحب به من قبل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على كافة ميادين المسارات الملتهبة” السورية اللبنانية الفلسطينية – الإسرائيلية” وهذا مالن تفوته القيادة التركية بعد تهدئة الخواطر الذي تسعى إليه الولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية وإعادة العلاقات من تصعيد لهدوء بين الكيان الإسرائيلي والجمهورية التركية، وما دون ذلك فخيار فرضيات الحضور الأخرى بالنسبة لتركيا غير عملية، خاصة إذا ما كانت في معسكر العدالة والحق الذي لايعتد به بالمطلق في السياسة في مواجهة معسكر الظلم والاغتصاب في زمن تشريع الاحتلال وتأييد إرهاب الدولة المنظم، فحضور تركيا دون قبول احد أطراف الصراع، سواء على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي وتحديدا على الجبهتين السورية والفلسطينية يعني انه حضور عداء بالنسبة للكيان الإسرائيلي، خاصة وان تركيا تسعى من خلال إدارة المفاوضات الغير مباشرة بين الكيان الإسرائيلي وسوريا إلى الوصول لعملية تسوية تعيد هضبة الجولان وليس لواء الاسكندرونة، وستعمد تركيا إلى عدم حشر نفسها كطرف صراع إنما كوسيط مقبول بعد هدوء عاصفة الجريمة الصهيونية، خاصة وأنها نجحت كذلك على مسار الملف النووي الإيراني، فلن تضحي تركيا بهذه المكانة وتكتفي لنفسها بموقع سيعود عليها بالتصفيق أكثر من عودته على مركزها القيادي الطموح واقتصادها بالمنفعة الكبرى، بمعنى لن تضع تركيا نفسها مقام الأنظمة العربية في بؤرة الصراع كطرف مطالب بإدارة معركة عسكرية لاستعادة الحقوق المغتصبة، ففرضيات الحضور تتراوح بين حضور مقبول على جميع الأطراف، أو حضور الأعداء، أو الابتعاد عن دوائر الصراع كما كان الموقف التركي قبل بروز “حزب العدالة والتنمية” إلى سدة الحكم والانكفاء لإدارة الصراعات بالحجم التي تسمح به الدول الكبرى الدولية لدولة إقليمية تسير في فلكها للمساعدة في تسويات ورضا عن متغيرات ولكل مجتهد نصيب، فأي موقع ستقبل به تركيا”جول –اوردغان” وأي حصاد يمكن أن يأتي أكله جراء الاستثمار الذكي لالتفاف النظم الرسمية والشعبية حول الخطاب الرسمي التركي الآني وليس خطاب الغد الذي قد تتغير معادلته ومؤيديه؟


تاريخ النشر : 2010-06-03


[email protected]

Share This