غريغوري بوشاكجيان مؤرخاً: الفنّ العربي الآن وهنا

index

يتتبّع الفوتوغرافي اللبناني التحوّلات التاريخية في المنطقة، دارساً تجلّياتها في الفن المعاصر. كتابه «الحرب واحتمالات أخرى (مستحيلة)» الذي مرّ من دون ضجة في الإعلام العربي، عمل توثيقي وتحليلي مرجعي ضروري في كل مكتبة.

8:46 من صباح يوم الثلاثاء 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بتوقيت نيويورك. كانت هذه الساعة مفترقاً في القرن الحادي والعشرين، تماماً كما كان عام 1914 (الحرب العالمية الأولى) مفترقاً في القرن العشرين بما لحقه من معسكرات وتقسيمات دموية. بعدما استهدفت المجموعات الإرهابية برجي التجارة العالميين (نموذج الحضارة الجديدة)، وُجّهت أصابع الاتهام إلى تنظيم «القاعدة»، لكن أيضاً إلى أفغانستان والشرق الأوسط. هكذا، سيصبح هذا الشرق هو الهدف الكبير لسياسة «الحرب على الإرهاب» التي اتبعتها أميركا بعد عام 2001. شهدت تلك الساعة قراراً بالحرب على الإرهاب والبرابرة. وقد أتت هذه السياسة بتعريف جديد للبرابرة تتقاطع مع ملامح العربي (لحية وكوفية)، وأسهم الإعلام بشكل أساسي في تعزيز هذه الكليشيهات وترسيخها. لكن هذه الأحداث ما أتت إلا لتسيل مزيداً من الدم المهدور منذ عام 1945 ضمن مسار التاريخ العربي الحديث.

هذه الوقائع هي الفضاء الذي يدور في فلكه كتابWar and Other (Impossible) Possibilities  Thoughts on Arab History and Contemporary Art (منشورات «ألارم» بالتعاون مع «غاليري أجيال») لغريغوري بوشاكجيان (1971).

يتتبع الفوتوغرافي والمؤرخ الفني اللبناني مسارات التاريخ وتأثيراتها على ممارسات الفنانين المعاصرين العرب. في خطين متقاطعين، يشكّل عمل «الحرب واحتمالات أخرى (مستحيلة) ـــ تأملات في التاريخ العربي والفن المعاصر» نافذة لفهم التغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية بالعودة إلى التحليل التاريخي للمنطقة، وبالاستناد إلى اللوحات والأعمال التجهيزية، والفيديو، والفوتوغرافيا.

أين هو الفنان العربي المعاصر من هذه التغيّرات والأحداث والمفاصل التاريخية؟ كيف قارب هذه التحوّلات المحيطة ونظرة الغرب النمطية تجاهه؟ وكيف انتقلت موازين القوى الفنية؟ يستند بوشاكجيان إلى بعض الأحداث التاريخية للإجابة عن هذه التساؤلات، في محاولة لرسم ملامح التاريخ العربي في القرن الحادي والعشرين.

من خلال مقدّمة وستة فصول، يكتب نصاً تاريخياً طويلاً باللغة الإنكليزية، لينجز توثيقاً مزدوجاً: الأول تأريخي، والثاني فني. يستعين بوشاكجيان ببعض الأحداث التاريخية القديمة والمعروفة التي استخدمها الفنانون أو انطلقوا منها في أعمالهم، وببعض الأقوال الشهيرة (سمير قصير، وباراك أوباما، وجورج قرم، وإدوار سعيد، وجون درايدن، وجون بيرغر …)، وبالشواهد الإعلامية والأحداث الثانوية والهامشية، إلى جانب المرور على بعض الأعمال الكلاسيكية العالمية والأحداث الفنية. كل هذه العناصر تمنح الأعمال الفنية المعاصرة خلفية غنية وبيئة ملائمة لقراءتها وتتبّع مسارات إنجازها. وبهذا، تصبح هذه الأعمال النقاط التي يتتبع النص أثرها، وما يشكّل الرابط بين هذه الأحداث. وبالطبع، تظهّر هذه الأعمال التاريخ بصورة خاصّة وتعطيه بعداً تنبؤياً مبنياً على رؤى الفنان. يتوقف الكاتب على النهضة العربية المجهضة والحربين العالميتين والعقدين اللذين تلاهما وحملا أقسى الكوارث على العالم العربي. كما يفرد صفحة كاملة للائحة الحروب الأهلية والخارجية التي خاضتها الدول العربية منذ عام 1945 حتى اليوم.

لا يقود النصّ سياقاً أو منهجية محدّدة، بل تقودها مقاربات بوشاكجيان، وإسقاطاته، وتحليلاته الدقيقة التي تمنح الأعمال بعدها السياسي في تقاطع مع الأحداث التاريخية.
اختار بوشاكجيان عدداً من الأعمال الفنية بدقّة. نرى أعمالاً تجهيزية للمغربي منير فاطمي مثل «احفظوا مانهاتن 01» التي استخدم فيها عدداً من الكتب الصادرة بعد اعتداءات 11 أيلول لرسم مدينة نيويورك. وضع فاطمي الكتب على الطاولة، ونسختي قرآن واستعان بالإضاءة التي عكست خيال الكتب على الحائط، مشكّلةً منطقة مانهاتن التي استهدفها التفجير. كذلك، تطالعنا لوحات لعلي حسون، ومحمد سعيد بعلبكي وأيمن بعلبكي، وحسن موسى، والفوتوغرافي فؤاد الخوري، وجوسلين صعب، وأعمال قديمة لرفيق شرف وغيرهم. هكذا، يؤرّخ المؤلّف لهذا الجيل من الفنانين العرب المعاصرين، ويرصد التحوّلات الطارئة عليه، (بالاعتماد على أعمال تعود إلى الستينيات والسبعينيات)، والوسائط المتعددة واللغات البصرية التي استعانوا بها وتختلف عن أسلافهم. كذلك، يرصد انغماس الفنانين في أحداث ومجريات بلدانهم، ووعيهم الكبير لمحيطهم، وهذا ما نشاهده في تجهيز الأردنية عريب طوقان «الشرق الأوسط الجديد» (2007) الذي أنجزت فيه قارات ومناطق من العالم بما يشبه قطع «البازل»، يستطيع الزائر التحكم بها كما يريد. وهذا العمل هو رؤية الفنانة العبثية والساخرة من «الشرق الأوسط الجديد» كما أعلنت كوندوليزا رايس. أما الكوفية التي توقّف عندها المؤلّف في أول الكتاب، وصنّفها ضمن ملامح البرابرة بمفهوم العالم الغربي خلال القرن الحالي، فسيعود إليها في الفصل الثالث الذي يسترجع فيه نكسة الـ 1967. أجّجت «هزيمة يونيو» الغضب العربي، فانعكس الأخير على أعمال الفنانين. هكذا، كتب الفنان اللبناني رفيق شرف مانيفستو «أيها الفنانون»، معلناً فيه أنّ «الفن سلاح»، داعياًً الفنانين إلى الانخراط الفعال في المقاومة. منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، رافقت الكوفية لوحات الفنانين العرب، كما نشاهد في لوحة «كلنا مع فلسطين» (1971_ بالأبيض والأسود) الشهيرة للسوري برهان كركوتلي الذي رسم معظم رجال اللوحة ملثمين بالكوفية ويحملون بنادق. ستبقى هذه الكوفية رمزاً حتى القرن الواحد والعشرين كما في صور لطارق الغصين من مجموعته «بورتريه ذاتي» (2003). في إحدى الصور، يقف الفنان الفلسطيني ملثّماً بالكوفية أمام البحر الميت، مديراً ظهره للعدسة وناظراً باتجاه فلسطين. يأخذ الغصين من كوفيته موقفاً بالطبع، إلا أن دلائل هذه الوقفة أمام البحر الذي يفصله عن فلسطين ملتبسة. وقفة يعتريها اليأس وشعور العجز الذي يفرضه هذا البحر الممتلئ باحتمالات الاستحالة. وفي صورة أخرى من المجموعة ذاتها، يتجه الغصين بكوفيته نحو طائرة، وهي أيضاً صورة مفتوحة على التأويلات المختلفة: وهم العودة أم المقاومة في عملية عسكرية؟

بعيداً عن تأثيرات التاريخ على مسارات الفنانين وطروحاتهم، هناك تأثير مباشر على الفنانين ومؤسسات الفن. يتوقّف الكاتب عند بعض الظواهر كالاعتداء على فنان الكاريكاتور السوري علي فرزات، ومقتل الفنان المصري أحمد بسيوني في ميدان التحرير عام 2011، وسط صخب «الربيع العربي» الذي فصله عقد عن أحداث 11 سبتمبر. كما يتوقف عند نظرة العالم إلى الأعمال العربية بعد الأحداث الشهيرة. ولا شكّ أيضاً في أنّ موازين القوى تبدّلت في الوسط الفني العربي. بعدما دمِّرت البنى التحتية الفنية في العراق ومصر وسوريا ـــ بلدان كانت رائدة فنياً في ما مضى ـــ بدأت دول الخليج في المقلب الآخر تسعى إلى بناء المتاحف، والمعارض، وتقيم المهرجانات الفنية!

روان عز الدين

الأخبار

Share This