الحسين بن علي وحماية الأرمن

في هذه الأيام القاسية التي نشهد تكفير الناس من مسلمين ومسيحيين ويهود، وذبحهم بالسكاكين أو قطع رؤوسهم بالسيوف أو تعليقهم على أعواد المشانق، في وطننا العربي الكبير. نرى أيضاً على شاشة التلفاز اختطاف المطارنة والرهبان من رجال الدين المسيحيين، وقتل علماء المسلمين، واختطاف الراهبات وأخذهن رهائن. في هذا الزمن الذي يغشاه التعصب الذميم، وتسوده الظلامية القاتلة، نشعر بأمس الحاجة إلى نور الهداية في هذا الظلام الدامس، وإلى ضرورة الفهم السليم للإسلام الذي ظلمه بعض أهله من المتعصبين المتطرفين، وشوهوا مبادئه وقيمه الإنسانية.

قبل نحو مئة سنة تعرض الأرمن للاضطهاد والقمع والمذابح أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب مساندتهم للروس في تلك الحرب. فاقتلع مئات الألوف منهم من وطنهم وشردوا من موطنهم، وهاموا على وجوههم متجهين جنوباً وغرباً نحو العراق وبلاد الشام. كانوا جماعات من الشيوخ والأطفال والنساء في معظمهم.

لجأت جماعات منهم إلى قبيلة شمر في شمال العراق. وقبيلة شمر العربية التي تعد اليوم بالملايين تمتد من نجد في جزيرة العرب إلى العراق وسورية والأردن. وكانت قبل قرن من الزمن تعيش حياة البداوة تنتقل بمواشيها من إبل وأغنام بحثاً عن الماء والكلأ.
لجأت جماعات من الأرمن إلى شيخي قبيلة شمر الأمير فيصل الجربا وشقيقه عبد العزيز الجربا، والد الشيخ عجيل الياور، الزعيم العراقي المشهور الذي كان له دور بارز في تاريخ العراق المعاصر.

علم الملك حسين بن علي، شريف مكة والقائد الأعلى للثورة العربية الكبرى، بلجوء الأرمن إلى قبيلة شمر، فبعث بالرسالة المنشورة إلى جانب هذا المقال إلى شيخي شمر الأمير فيصل وشقيقه الأمير عبد العزيز الجربا، المؤرخة في 18 رجب 1336 ه/ الموافق 31 أيار /مايو 1918 ميلادية، يحثهما على مساعدة اللاجئين إليهم من الطائفة اليعقوبية الأرمنية، وان يحافظوا عليهم كما يحافظون على أنفسهم وأموالهم وأبنائهم، وان يسهلوا لهم ما يحتاجون إليه من طعام وإيواء. وذكّرهما الملك حسين بأن الأرمن أهل ذمة المسلمين الذين قال فيهم الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: “من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة”. وأكد الحسين في رسالته أن من شيم شيوخ شمر ومزاياهم حماية من يلجأ إليهم ورعايته.

يقول العقيد المتقاعد احمد راكان الجربا الذي أطلعني على هذه الوثيقة من صديقي الكريمين الأستاذ طارق مصاروة والسيد عوض نصير وسمح لي بنشرها، أن ما سمعه من والده ومن شيوخ الجربا المتقدمين في العمر وعاصروا لجوء الأرمن إليهم، أن الذي نفذ ما جاء في رسالة الحسين بن علي هو الشيخ عجيل الياور الذي تولى إمارة شمر بعد وفاة والده عبد العزيز وعمه فيصل. وبعد استضافة كبار السن من الرجال والنساء الأرمن عرض عليهم المساعدة فطلبوا إيصالهم إلى حلب. لبى الشيخ عجيل الياور طلبهم فأوصلهم إلى حلب حيث استقر بعضهم وانتقل بعضهم الآخر إلى لبنان.

أما الأطفال من الأولاد والبنات الأرمن فقد أبقاهم كبار السن لدى أميري الجربا لتربيتهم والعناية بهم. جمع الأميران فيصل وعبد العزيز شيوخ شمر ووجاءها ووزع الأطفال عليهم، كل حسب مقدرته ورغبته، على أن يتولوا تربيتهم كما يربون أولادهم وبناتهم. عاش هؤلاء الأطفال الأرمن حياة البداوة حتى بلغوا سن الرشد، عندها خيرهم الشيخ عجيل الياور بين الذهاب إلى حلب أو لبنان أو البقاء في شمر، فاختاروا البقاء في شمر. وخيرهم بين البقاء على دينهم أو اعتناق الإسلام، إذا أرادوا الزواج من شمر، فاختار معظمهم الإسلام، واندمجوا مع أبناء وبنات شمر.

هذه الوثيقة وقصة لجوء الأرمن إلى قبيلة شمر تلقي ضوءاً على شعور الحسين بن علي، ملك العرب، بالمسؤولية تجاه جماعات مسيحية تعرضت للظلم والتشرد، وضرورة حمايتهم ورعايتهم وتقديم مختلف أنواع المساعدة لهم. كما تدل على شهامة أمراء شمر وشيوخهم ووجهائهم، وعلى المشاعر الإنسانية النبيلة التي تحلوا بها في استقبالهم للاجئين الأرمن واستضافتهم ومساعدتهم، وعلى تربية أطفالهم تربية تليق بالمستجيرين بهم. وتعبر هذه القصة عن نظرة الإسلام والمسلمين الإنسانية نحو اللاجئين الأرمن.

في هذه القصة والوثيقة المرفقة درس في الأخلاق العربية وعبرة لمن يعتبر. رحم الله الحسين بن علي وطيب الله ثراه، فقد كان مثالاً للإسلام الصحيح العادل في حكمه ومعاملته للعرب على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم من مسلمين ومسيحيين وموسويين. ورحم الله أمراء شمر فيصل وعبد العزيز وعجيل الياور الجربا، وجزاهم الله خيراً على ما فعلوا، بعد أن أصبح مثالاً يقتدى وقصة تروى.

أ.د. علي مفلح محافظة                      

الرأي

Share This