الأرمــن والـبـحـــث عــــن مــلـجــأ

بقلم محمود الزيباوي

جديد “منشورات جامعة القديس يوسف” بالعربية كتاب من الحجم الكبير عنوانه “الأرمن، البحث عن ملجأ 1917- 1939”. صدر هذا الكتاب بالفرنسية منذ ثلاث سنوات وترافق مع إقامة معرض توثيقي كبير حوى مادته المصورة في بيروت ثم في باريس، وها هو اليوم بالعربية في ترجمة متينة قام بها جوزف كالوستيان. أشرف على إعداد هذا العمل الموسوعي ثلاثة أساتذة هم ليفون نورديكيان من لبنان، وريمون كيفوركيان وفاهه طاشنجيان من فرنسا، وهو بمثابة خزانة تضم أربع عشرة مقالة علمية من توقيع أساتذة جامعيين، إضافة إلى مجموعة استثنائية من الصور الفوتوغرافية التاريخية مصدرها أرشيف المكتبة الشرقية في الجامعة اليسوعية، ومكتبة نوبار التابعة للجمعية الخيرية العمومية الأرمنية، ومجموعة ميشال بابودجيان في باريس، ومجموعة فاروجان صالاطيان في دمشق. يتألف هذا الكتاب من ثلاثمئة وعشرين صفحة، ويشكل مرجعا للتعرف الى مرحلة شائكة من تاريخ الأرمن، تتشابك مع الأحداث العاصفة التي مر بها الشرق الأوسط في تلك الحقبة.

تزامنت المجازر التي تعرض لها الأرمن مع انهيار الدولة العثمانية الجامعة ونشوء الدول القومية. بدأت هذه المجازر بشكل متقطع في نهاية القرن التاسع عشر، وتجددت في أضنة عام 1909، وأدت إلى سلسلة من الهجرات العرضية، التي تواصلت في حقبة بناء الدولة التركية في ظل حكم لجنة الاتحاد والترقي، وأدت إلى ترحيل كثيف للأرمن. عقب حملة “الإبادة الجماعية” في عام 1915، تم تهجير الناجين، وأُخليت آسيا الصغرى من سكانها الأرمن. لم يتخلّ المهجرون عن حلم العودة، وكاد هذا الحلم أن يتحقق مرتين، لكن الحسابات الدولية أدت إلى إجهاضه في المرة الأولى كما في المرة الثانية. أُعيد مئة وخمسون ألفاً من المهجرين إلى كيليكيا عندما سعت فرنسا إلى تحويل هذه المنطقة مقاطعة ذات استقلال ذاتي خاضع للانتداب الفرنسي، لكن هذه التجربة باءت بالفشل عندما عدلت فرنسا عن مشروعها وتنازلت عن كيليكيا لصالح تركيا بموجب معاهدة لوزان في تموز 1923 . جاءت المحاولة الثانية في نهاية الثلاثينات حين سعت فرنسا إلى إسكان الأرمن في سنجق الإسكندرون بعد ضمّه إلى سوريا المستقلة، لكنها عادت وتنازلت عن السنجق إلى تركيا مما أدى إلى انتقال الأرمن من هذه المقاطعة إلى سوريا، باستثناء سكان جبل موسى الذين نُقلوا إلى عنجر.

العودة إلى المنفى

يعيد كتاب “البحث عن الملجأ” استكشاف تلك المرحلة المضطربة من خلال سلسلة مقالات علمية مترابطة توزعت على ثلاثة أقسام. القسم الأول تحت عنوان “سياق تاريخي وتحركات سكانية”، يتألف من مقالتين، أولهما من توقيع ريمون كيفوركيان، وتتناول “أصول الجماعات الأرمنية في الشرق الأوسط”، حيث يلقي الباحث الضوء على “الناجين من الإبادة الجامعية” إثر عمليات ترحيل الشعوب غير التركية، الإسلامية منها والمسيحية. أدت سياسة “تتريك المكان” إلى هلاك ثلاثمئة ألف مُرحَّل بين خريف 1915 وشتاء 1916 “على طرق سوريا وبلاد ما بين النهرين وفي معسكرات الاعتقال”، ووصل الناجون إلى حلب، ومنها توزع بعضهم على دمشق وحماه وحمص. سعت السلطات التركية إلى “أسلمة” الأرمن بغية تذويبهم، وارتضت السلطة الكنسية الأرمنية هذا الحل “الظرفي” في انتظار مرور العاصفة، غير أن البعض رفض الرضوخ، ومنهم ثلاثون امرأة من إقليم صاصون صرخن: “لقد قتلوا أزواجنا وأولادنا، وخطفوا بناتنا، فليقتلونا الآن”. صُدم السكان العرب من هذه السياسة، وأبوا دخول هؤلاء “المتأسلمين” ظاهرا إلى مساجدهم، بينما استمر تهجير الأرمن إلى الأردن وحوران من جهة، وإلى الموصل وبغداد من جهة أخرى.

المقالة الثانية عنوانها “من إعادة المهجرين إلى ديارهم في كيليكيا إلى الهجرة الجماعية الجديدة في اتجاه سوريا ولبنان”، وفيها يستعرض فاهه طاشجيان الأحداث التي شهدتها الحياة الأرمنية بعد قرار قيادة الحلفاء إعادة المرحَّلين بشكل واسع في كانون الثاني 1919. أدى تدفق الأرمن على حلب إلى إثارة حفيظة الأوساط الإسلامية المتشددة، تبعها اندلاع مواجهات خطيرة في لواء اسكندرون مع السكان المسلمين المحليين، وحرب في حلب أوقفها تدخل الجيش البريطاني المباشر. أمل الأرمن المهجّرون ببناء موطن جديد لهم في كيليكيا، لكن فرنسا خذلتهم وضحّت بكيليكيا لتأمين سيطرتها على سوريا ولبنان. أدى تبدل السياسة الفرنسية إلى هجرة جماعية من كيليكيا في اتجاه سوريا ولبنان خصوصا، وقام الفرنسيون بتنظيم هذه الهجرة، “وهكذا رجع عشرات الآلاف من الأرمن بغالبيتهم إلى المنفى في سوريا ولبنان”، وذلك بعدما أعيد إيواؤهم قبل ثلاث سنوات في كيليكيا. في المقابل، أدت السياسة الكمالية إلى استمرار هجرة أرمن تركيا في اتجاه سوريا في العشرينات، ولم تتوقف هذه الحركة إلا في مطلع الثلاثينات.

بين التهجير والتوطين

يتألف القسم الثاني من ثماني مقالات، عنوانه العريض “الخطوات الأولى في إعادة بناء العالم الأرمني”. أولى هذه المقالات دراسة لفاهه طاشجيان حول دور النساء والأطفال “في صلب إعادة بناء” الأمة الأرمنية، وفيها مواقف مؤثرة وأليمة تشهد لفظاعة الحروب وبؤس الشأن الإنساني. مع زوال النظام العثماني وصعود الحلم بالاستقلال القومي، شكّل بعض أرمن مصر من الفارّين القدامى من الجيش العثماني، جماعة عُرفت بـ”جماعة يوتغبريان”، كان هدفها “استرداد نساء وأطفال ما زالوا محتجزين لدى القبائل البدوية في سيناء وفلسطين ومنطقة دمشق”. ساند الأمير فيصل هذه الجماعة، فانتدبتها السلطات السورية لجمع أرمن حوران، وتعهدت بنقلهم مجانا بواسطة السكة الحديد إلى دمشق ودرعا. سهّلت الإدارة العربية هذه العملية، لكنها “أبدت تحفظها عندما أعربت النساء الأرمنيات المحررات عن أمنيتهن في اصطحاب أولادهن معهن، وقد ولدوا نتيجة عقد قرانهن مع مسلمين”. سعى الأرمن إلى تحقيق “فكرة إعادة بناء الأمة”، و”العودة إلى المجتمع الأصلي”، لكنهم واجهوا صعوبات جمة في تحقيق ذلك، أبرزها وضع النساء والشابات اللواتي جعلت منهن \ظروف الحرب سبايا أو مومسات. لجأت الهيئات الأرمنية إلى التعبئة العامة، ودعت إلى رفض “التكلم بالتركية”، باعتبارها “عبودية ثانية”، وبشّرت بالتحرر القومي المطلق. فضلت بعض النساء عدم الانفصال عن أزواجهن المسلمين، و”فرضت الحكومة العربية السورية بقاء الأطفال لدى عائلاتهم الإسلامية إذا رغبت امرأة أرمنية في ترك زوجها المسلم، مع إقرارها بإبقاء الولد في رعاية امه حتى يكبر”. تأخذ الدراسة طابعا “حميميا”، وتستعرض حالات خاصة مؤثرة وأليمة تشهد لفظاعة تلك المرحلة العصيبة. تلي هذه المقالة دراسة تتناول نشوء مياتم أرمنية في لبنان وسوريا وفلسطين. أشرفت “جمعية إغاثة الشرق الأدنى” على إجلاء اليتامى، وتم إنشاء المياتم لإيوائهم، ومنها تسعة عشر في مختلف أنحاء لبنان، وثلاثة في حلب، وإثنان في القدس والناصرة.

في المقالة الثالثة، يتناول نيكولا ميليورينو مسألة “إقامة المؤسسات الأرمنية في لبنان وسوريا”، وتنظيم علاقة اللاجئين بالدولة. كان أرمن لبنان “الأصليون” خاضعين لسلطة بطريرك القدس الأرمني، بينما كان المهجَّرون تابعين لكاثوليكوسية بيت كيليكيا الأكبر، وكان مقر هذه الكاثوليكوسية في مدينة سيس منذ أواخر القرن الثالث عشر، ثم انتقل بعد أحداث 1915 إلى حلب، ثم إلى القدس، وارتحل إلى أضنة بعد 1918 لفترة وجيزة. في نهاية العشرينات، تخلى بطريرك القدس عن سلطته في “المشرق”، وتنازل عن ممتلكاته في بيروت ودمشق واللاذقية لمصلحة الكاثوليكوس. في عام 1930، “جُهّزت كاثوليكوسية بيت كيليكيا الأكبر بمقر دائم لها في انطلياس”. تزامن هذا القرار التاريخي مع إقامة مؤسسات أرمنية متعددة تنظم مختلف شؤون الحياة الداخلية للطائفة. في زمن الانتداب الفرنسي، تحول الأرمن مواطنين بعدما كانوا غرباء، وجاء هذا التحول نتيجة للاستراتيجيا الفرنسية الطامعة إلى كسب الدعم الارمني لمخططاتها في لبنان وسوريا، وتحقق عبر مادتين نص عليهما اتفاق معاهدة لوزان في تموز 1923، وهما المادة الثلاثون والمادة الثانية والثلاثون. تعددت المواقف الأرمنية إزاء فرنسا، فقدمت السلطة الدينية الدعم، وانحاز لها حزب الطاشناق، بينما بدا حزب الهنتشاك الاشتراكي الديموقراطي وحزب الرامغفار الليبيرالي أكثر استقلالية، وتفرّد حزب الرامغفار الليبيرالي بمد العلاقات مع موفدي سلطان الأطرش.

تستكشف المقالة الرابعة تحول مخيمات الاجئين أحياء حضرية في سوريا ولبنان ضمن “مشروع إسكان الأرمن النهائي” في هذين البلدين، واللافت أن بعض هذه الأحياء سكنها “مهجّرون” من الفلسطينيين والشيعة والأكراد بعد عقود من الزمن، لكن الظروف الجيوسياسية المغايرة لم تؤدِّ إلى “عملية اندماج سلمي”. على العكس، أصبحت هذه الهجرات مصدر صراعات، وساهمت في “اندلاع الحرب الداخلية اللبنانية”. تعالج المقالة الخامسة قضية “الأرمن في سنجق الاسكندرون”، “من الإبادة الجماعية إلى الهجرة الجماعية”. في الخلاصة، أدت السياسة الفرنسية بحسب ميشال بابودجيان إلى “سلب غير الأتراك ممتلكاتهم”، وبات التخلي عن الاسكندرون بمثابة “ميونيخ الشرق”. تلي هذه المقالة دراسة لكارلا إده تؤرخ لمرحلة “مواجهة” بيروت لقرار “إسكان اللاجئين الأرمن إبان العشرينات”، و”حدود الضيافة” التي تفرضها الظروف، ويمكن القول إن هذا الفصل هو أكثر فصول الكتاب إثارة على الصعيد “اللبناني” البحت. تخوف اللبنانيون من أن “يصير لبنان أرمينيا جديدة، ويغدو اللبنانيون غرباء في بلادهم”، وكتبت صحيفة “لسان الحال” في آذار 1925: “إذا كنا نشفق على الأرمن، فإننا نشفق كذلك على أنفسنا، ونشك في ألا يزيد اندماجهم في جنسيتنا من انقساماتنا وألا يشكل نكبة جديدة في جوهر طائفيتنا، وكلاهما موضوع خطير”. بعد عامين، كتبت “الأخبار المصورة”: “العلة هي أن الأرمن يؤلفون نسيجا قائما بذاته، لهذا يرفضون الانصهار مع الوطنيين… انهم لا يدرسون لغتنا ولا يكترثون لأدبنا، إنما هم بالأحرى يتصفون بتعصب أعمى للغتهم الأرمنية. ومجرد حضورهم بيننا يؤدي إلى هيمنة اللغات الأجنبية على لغة البلد. سوف تتحول لغتنا رطانة ومزيجاً من اللغات الأجنبية كما هي الحال في مالطا وفي بلدان المغرب وتونس والجزائر”. تعددت أسباب التحفظات المحلية في مواجهة “توطين” الأرمن الذي شكل “أمرا واقعا” فرضه الانتداب، وفي النهاية، اندمج الأرمن من دون أن يتخلوا عن خصوصيتهم، ومن مظاهر هذا الاندماج قيام مفتي الجمهورية بتكليف المعماري الطونيان مهمة “ترميم أحد المساجد القائمة وسط المدينة، وذلك قبل اختياره، عام 1934، لبناء المقر الجديد للبرلمان”.

الاندماج والهوية

ختام القسم الثاني مقالة لليفون نورديكيان عنوانها “اليسوعيون شهود على المأساة الأرمنية”، ومقالة لآنا أوهانسيان شاربان حول خمس عشرة عائلة من مدينة معان تعود في أصولها إلى أمهات أرمنيات استقررن في هذه المدينة الواقعة بين دمشق ومكة.

ننتقل إلى القسم الثالث والأخير، وفيه أربع مقالات تستعرض تباعا “اندماج الأرمن الاقتصادي في لبنان”، “التقليد المدرسي والهوية القومية”، “إيواء أرمن جبل موسى في عنجر”، ودراسة تتناول مسيرة ديران بابكيان في حقل الاقتصاد، وهو “أرمني من كيليكيا لجأ إلى لبنان”. خلاصة هذا القسم قول تياري كوشويت في المقالة الأولى: “اندمج الأرمن في لبنان من دون أن يفقدوا مع ذلك هويتهم، بل بالعكس لقد رعتها المنظمات المختلفة القائمة بعناية تامة في هذا البلد الذي تبنّاهم. ولكن لا يمكن، على رغم ذلك، التأكيد أن هذا الاندماج سيكون بصفة مستمرة، إذ أن المهام التي يمارسها الأرمن التائهون تسمح لهم دائما بحزم امتعتهم والرحيل. في كل حال، لقد خفضت الحرب الأهلية بشدة عديد الطائفة، إذ غادر لبنان ثلثا الأرمن تقريبا منذ وقوع تلك الأحداث”.

عن ملحق النهار الثقافي

الخميس 10 حزيران (يونيو) 2010

Share This