أرمن كسَب يعيشون فيها قبل النزوح الأرمني… وحمايتهم مسؤولية المعارضة

فيكين شيتيريان

في 21 آذار (مارس) الماضي، دخلت مجموعة من مقاتلي المعارضة السورية إلى بلدة كسب التي تقطنها عائلات أرمنية في شمال غربي سورية والتي تحدّها تركيا من ناحية الشمال والبحر الأبيض المتوسط من ناحية الغرب، وذلك عقب الانتصار الذي حقّقه النظام السوري في مدينة القلمون ومحاولته إحكام السيطرة على الحدود السورية-اللبنانية.

ومرة أخرى، أظهرت التطوّرات العسكرية المزدوجة أنّ الحقائق السورية على المستويين الداخلي والدولي، أنشأت توازناً معيّناً، ما يجعلنا نستبعد حصول انتصار عسكري لجهة على جهة أخرى في المنظور القصير والمتوسط. كما ساهم مؤتمر «جنيف-2» والتحضيرات لإجراء انتخابات رئاسية جديدة بنسبة 99 في المئة في إقصاء الحلّ، فيما البديل المتبقي الوحيد هو استمرار الحرب المدمّرة.

وتسبّبت عملية كسب باندلاع حرب دعائية جديدة بين النظام والمعارضة من خلال إدخال العنصر الأرمني إليها. لا يزال الوضع الميداني غامضاً وتتحدّث وسائل الإعلام الموالية للنظام عن قيام جهاديين بشنّ هجوم على المسيحيين وتدمير الكنائس ونهب الأملاك الخاصة مع نشر صور مخيفة وأفلام مصوّرة التُقطت في مكان آخر. كما أنها اتهمت تركيا بتنظيم الهجوم الذي وصفته بأنّه اعتداء آخر معادٍ للأرمن إلى جانب التشديد على السلوك العدواني الذي تُبديه تركيا تجاه سورية نفسها. وتمّ أخيراً تسريب معلومات مفادها أنّ مسؤولين رفيعي المستوى في تركيا يبحثون إمكان القيام بعمل استفزازي لتغطية التدخّل العسكري التركي المباشر، الأمر الذي يعطي صدقية للرواية الرسمية السورية. وأدت هذه الفضيحة الأخيرة إلى حجب موقع «يوتيوب» في تركيا. كما نشر الثوّار السوريون مشاهد تبيّن وجود حركة طبيعية في كسب على رغم الشوارع الخالية حيث يحرس الثوّار الكنائس ومن تبقّى من السكان. ويجدر بالثوار اليوم أن يبرهنوا أنهم قادرون على حماية حياة السكان والأملاك وألا يتكرّر في كسب ما حصل في الرقة.

من الناحية العسكرية، كان في وسع مقاتلي المعارضة الاستيلاء على كسب منذ سنة بعد أن احتلوا الجبال شرق البلدة. إلا أنّهم لم يدخلوا إلى البلدة لعدم التسبّب للحكومة التركية بإحراج دولي. محرّر صحيفة «آغوس» الأسبوعية في اسطنبول، روبر كوبتاش، رأى أنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم كان بحاجة إلى إظهار انتصار في سورية لناخبيه نظراً إلى اقتراب موعد الانتخابات البلدية، علماً أنّ هذه الحاجة باتت ملحّة عقب الخسارات التي تكبّدتها المعارضة وسط البلد. وفي مقال نشره في صحيفة «آغوس»، أشار كوبتاش إلى أنّ عدداً كبيراً من المنظمات الأرمنية في سورية وفي تركيا أيضاً تعتبر أنّ الهجوم لم يكن ليحصل لولا موافقة تركيا ولولا الدعم اللوجستي الذي قدّمته. وتسلّطت الأضواء على التدخّل العسكري التركي بعد إسقاط طائرة حربية سورية، الأمر الذي لم يقم به الجيش التركي عام 2012 حين أسقطت سورية طائرة تركية من طراز «أف 4 فانتوم»، ما أدى إلى مقتل قائديها.

التاريخ ليس الماضي!

حين ترعرتُ في بيروت في سبعينات القرن الماضي، كان الحديث المهيمن يدور حول النضال الوطني العربي مع التركيز على فلسطين. وفي هذا الإطار، كان الأرمن مواطنين ضحايا يناضلون من أجل حقوقهم الوطنية فيما وقفت تركيا إلى جانب العدوّ، أي حلف شمال الأطلسي وإسرائيل. وفي السنوات الأخيرة، تغيّرت الأمور ورحتُ أجد على شبكة الإنترنت خطابات عنيفة معادية للأرمن عند حصول سجال سياسي بين المنظمات الأرمنية وتركيا حول مسألة الإبادة. إذ يكون ردّ فعل الرأي العام العربي معادياً للأرمن في معظم الحالات. لا شكّ في أنّ منطقة الشرق الأوسط شهدت تغيّرات تكوينية أدّت إلى حصول هذا التغيير. فتمّ إحباط النضالات الوطنية وتجريدها من معناها ليبرز مكانها خطاب إسلامي جديد طائفي يفتقر إلى عالمية الإسلام. وساهم وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002 في إغضاب الشرائح الواسعة للرأي العام العربي، لا سيّما عقب عملية «مافي مرمرة» الهادفة إلى كسر حصار قطاع غزة والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة وفي كشف مدى تشتّت الرأي العام العربي ومدى الحاجة إلى منقذ خارجي. وفي الروايات التي برزت، بات الأرمن دخلاء.

لكنني أظن أنّ مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المفكرين الأرمن في الشرق الأوسط. فما حصل عام 1915 ليس معاناة أرمنية فحسب، بل ألم يجدر بنا الحداد عليه وحدنا. تحظى التجربة الأرمنية بقيمة عالمية مع العلم أنّ البشر لم يستخلصوا العبر الضرورية بعد 99 سنة. وأظن أنّ التجربة الأرمنية مرتبطة بالنضال الحالي في سورية.

ومن شأن ردّي فعل برزا عقب استيلاء المعارضة على كسب إيضاح وجهة نظري. نُشر، في صحيفة موالية للمعارضة، مقال قصير حمل عنوان «الأرمن الأميركيون يشوّهون صورة الثوار السوريين من أجل تصفية حسابات قديمة مع تركيا». ويلفت المقال إلى أنّ الأرمن يعتبرون أنّ تركيا تدعم «المجموعات الإرهابية» في سورية وأنها مسؤولة عن تدمير الكنائس في إطار آلية تأخذ طابعاً وطنياً للثأر الطائفي وهو نتيجة ضغائن دفينة وعميقة تعود جذورها إلى المجازر العثمانية التي ارتُكبت ضد الأرمن في العقد الثاني من القرن الماضي».

ثانياً، أعلن المعارض السوري فوّاز تللو في معرض التعليق على التطوّرات في كسب أنّ بلدة كسب هي بلدة سورية وليست أرمنية. فالأرمن هم ضيوف استقبلناهم منذ مئة سنة على أراضينا السورية وها نحن اليوم نحرّر أرضنا». وفي المقابلة نفسها، ذهب تللو إلى حدّ مهاجمة فكرة الفيديرالية معتبراً أنها تقسّم البلد إلى خطوط طائفية.

ليس أرمن بلدة كسب «ضيوفاً» قدموا إلى سورية منذ مئة سنة. إذ كان أرمن كسب وسكان القرى الأرمنية في جبل موسى الواقع على الحدود الشمالية موجودين على أرضهم على مدى ألف سنة. كما كانوا جزءاً من مملكة كيليكيا الأرمنية (1198-1375) على رغم وجود تقارير أخرى تشير إلى أنّ أرمن جبل موسى موجودون هناك منذ قرون خلت. والجدير ذكره أنّ لهجتهم المختلفة تؤكّد هذا الواقع.

يعدّ تاريخ بلدة كسب وجبل موسى مثيراً للاهتمام كما تبيّنه رواية فرانز ويرفل بعنوان «الأيام الأربعون لجبل موسى». لكن يجب نشر هذا التاريخ في مكان آخر. فقد صمدت قريتان فقط إلى اليوم يتحدّث سكانهما اللغة المحكية في جبل موسى، الأولى هي عنجر في لبنان التي تضمّ قرويين فضّلوا الرحيل عن أرضهم بعد أن قررت فرنسا تقديم أنطاكية إلى تركيا في عهد كمال أتاتورك عام 1939، والثانية هي فاكيفلي التي تضمّ 135 شخصاً وهي القرية الأرمنية المتبقية الوحيدة في تركيا من أصل آلاف القرى والمدن التي كانت موجودة على الأراضي الأرمنية التاريخية قبل إبادة عام 1915. ولو اطّلع السياسيون السوريون على التجربة التاريخية الأرمنية، لأدركوا أنّ القوى العظمى لن ترسل أبداً قواتها لإنقاذ الناس من المجازر. خلال حقبة المجازر الحميدية بين عامي 1894 و1896 والتي قضى فيها 300 ألف أرمني عثماني، ندّدت القوى الغربية التي كانت تحظى بواجبات قانونية للدفاع عن أقليات الإمبراطورية العثمانية، بالجرائم فقط لا غير. وخلال الحرب العالمية الأولى، حين رحّل الأتراك الشباب السكان الأرمن برمّتهم في «مسيرات الموت»، وعدت القوى العظمى بسوق الأشخاص المسؤولين عن ذلك إلى العدالة. لكن، بعد انتهاء الحرب، تعاونت هذه القوى مع تركيا بقيادة كمال أتاتورك لمواجهة بروز روسيا البلشفية وسرعان ما تمّ نسيان الضحايا الأرمن.

يظهر التاريخ الأرمني كيف أنّ مفهومي «أقلية» و «أكثرية» هما تركيبات سياسية تتغيّر مع الوقت. كان السلاطين العثمانيون يقدّرون الأرمن فيما كان النبلاء الأرمن أصحاب مصارف ومهندسين وصناعيين يعملون لحساب السلطان. وفي شرق الأناضول، كان الوضع مختلفاً بما أنّ المزارعين الأرمن المحليين وسكان القرى شاركوا في نضال ضد القبائل الكردية المسلحة. وعقب معاهدة برلين التي أُبرمت عام 1878 والتي طلبت بموجبها القوى العظمى من السلطان العثماني إجراء إصلاحات في المحافظات الأرمنية، قرّر السلطان عبد الحميد إلغاء قضية الأرمن من خلال ارتكاب المجازر، مستخدماً أحياناً القبائل الكردية لتنفيذ هذه العملية. وأخذ الأتراك الشباب هذه السياسة إلى مستويات جديدة من خلال ترحيل السكان الأرمن كلّهم وقتلهم. ومن أصل 2.2 مليون أرمني عثماني عام 1914 بقي 250 ألف أرمني في تركيا عام 1923 و60 ألفاً اليوم فقط. لكن حين تمّ إلغاء «الأقلية» الأرمنية جسدياً، بات الأكراد في تركيا «الأقلية» الجديدة وضحية السياسات القمعية، مع العلم أنّ هذا النزاع لا يزال بحاجة إلى حلّ. والخلاصة الأولى من ذلك كلّه هي أنّ المشكلة لا تكمن في وجود «أكثرية» و«أقلية» تغيّر المفاهيم السياسية بل في إلغاء العنف كوسيلة لصناعة السياسة. والخلاصة الثانية هي رفض الفيديرالية كشكل من أشكال «الانفصالية» فيما ليس التركيز على الدولة المركزية، كما يفعل السيد تللو، هو الحلّ الأفضل.

والخلاصة الثالثة هي أنّ القتال من أجل العدالة لا يزال مستمراً بعد انتهاء الحرب. لن يتوانى المدافعون عن النظام المجرم عن اتهام الضحايا وتبرير أفعال المجرمين. سيعتبر البعض أنك «تسعى إلى الثأر» وبأنّ النضال ينمّ عن «ضغائن دفينة وعميقة». بالتالي، من المهمّ اليوم توثيق كل الجرائم التي ترتكب في سورية. ففي حالة الأرمن، لا يزال النضال من أجل العدالة مستمراً منذ 99 سنة وحتى اليوم.

الحياة

Share This