الوجه الخفي للانقلاب التركي

كتاب منسي مؤلف باللغة التركية والأحرف العربية، طبع في حلب عام 1929 في مطبعة الوقت، بقلم مولان زاده رفعت، تعريب د. توفيق برو الناشر القاضي سعد زغلول الكواكبي، الكاتب صحفي مرموق عليم بخفايا السياسة العثمانية شغل عدة وظائف في البلاط العثماني، نفي اختيارياً إلى حلب

والكتاب عبارة عن مذكرات كتبها مولان زاده يستعرض فيها الأحداث السياسية في السلطنة العثمانية وخاصة صعود الاتحاديين الأتراك إلى سدة السلطة نتيجة انقلاب عسكري في 24 تموز 1908 وأفول نجمهم وهربهم إلى خارج السلطنة عام 1918، ومع أن هذه المذكرات لم تكن معروفة في أوساط علم التاريخ إلا أنها تسلط الضوء على أسرار السنوات الأخيرة للإمبراطورية العثمانية وتعتبر ذات قيمة علمية فريدة لأنها تتطرق إلى أدق فترة من تاريخ الشرق الأوسط الحديث، والعثور على النسخة التركية الأصلية صعب جداً من هذه الأيام فالكتاب نفد منذ زمن بعيد ولم تتكرر طباعته لكنه ترجم إلى اللغة العربية في طبعة أولى عام 1992 وهو من توزيع دار الشادي للنشر. الكتاب يحتوي في بدايته كلمتين عن الكتاب نفسه ولمحة عن حياة والنشاط السياسي والصحفي للكاتب، وتقديماً للمعرب، بالإضافة إلى 13 فصلاً وفي نهايته حاشية نص المؤلف مولان زاده.

في مقدمته كمعرب يشرح د. توفيق برو أن الكتاب فيه كثير من الدقائق العلمية – ممزوجة بشيء من المغالطات – تدين الاتحاديين الأتراك وتلقي على عاتقهم تبعة ما حدث في الفترة الواقعة من (1908-1918) وما حل بالأمتين العربية والأرمنية من كوارث نتيجة سياستهم العرقية، وكيف حاول الاتحاديون صهر القوميات غير التركية من عرب، أرمن، ألبان… وغيرهم في هاون الترك وغاب عن نظرهم أن هذا الهاون أصغر من أن يتسع هذه الشعوب.

في الفصل الأول والثاني يبين الكاتب كيف أقدم رجال الاتحاد والترقي على زج الدولة العثمانية في الصراع الدولي لحساب الدولة الألمانية فدخلوا الحرب لكي تنفسح الطريق أمامهم لتحقيق الوطن «الطوراني» الكبير وتكوين أعظم إمبراطورية في العالم، يرفرف علم السلطنة وجمعية الاتحاد والترقي فوق ربوعها وبذلك أعلنت الدولة العثمانية الحرب عن دول الحلفاء في نهاية تشرين الثاني 1914، أما في الفصل الثالث فيرجع الكاتب ويستعرض أحداث ما قبل الحرب من ثورة اليمن 1910 وكيف سحب الاتحاديون 18000 من الجنود من ولاية طرابلس (ليبيا) لقمع ثورة اليمن ما أدى إلى إضعاف القوات المدافعة عن ولايتي بنغازي وطرابلس وبالتالي إلى خسارة هاتين الولايتين واحتلالهما من إيطاليا. وأمام هذا الواقع انسحب رجال الاتحاد والترقي من الحكم لكي يجنبوا جمعيتهم سخط الرأي العام وتخلوا عن الحكم للمعارضة (حزب الحرية والائتلاف) التي شكلت حكومة برئاسة المشير أحمد مختار باشا، بعدها ضغط الاتحاديون على الحكومة الجديدة لإجبارها على خوض حرب البلقان التي أدت إلى هزيمة تركيا لتلك الحرب ونتيجة لذلك تم رجوع الاتحاديين إلى الحكم يوم 23 كانون 2/1913 بمؤامرة عرفت باسم انقلاب الباب العالي والتي انتهت بقتلهم أحمد مختار باشا ولناظم باشا وزير الحرب.

أما في الفصلين 4-5 فيتطرق الكاتب إلى ظروف تشكيل وزارة محمود شوكت باشا واغتياله من المعارضة وإعلان الجهاد المقدس ضد دولة الحلفاء الذي لم يؤت الفائدة المرجوة منه.

الفصل السادس خصصه الكاتب للنفوذ الصهيوني في الدولة العثمانية وكيف سعت الصهيونية لدى السلطان عبد الحميد بمنح فلسطين إدارة ذاتية يهودية، وحاولوا استخدام الإغراء المادي عام 1901وأرسلوا شخصاً يدعى «عمانوئيل قراصو» لمقابلة السلطان، وقد وفق (قراصو) وهو ماسوني من سالونيك يعمل كمحام في الوصول إلى مقابلة السلطان وعرض عليه دفع 20 مليون ليرة ذهبية للخزينة العثمانية من دون فائدة ولمدة غير محدودة كما أنهم يقدمون 5 ملايين ليرة ذهبية لخزينة السلطان الخاصة، وعندما رفض السلطان ذلك عمدوا إلى خلعه ونجحوا بذلك عام 1908 بواسطة حزب الاتحاد والترقي، ومن سخرية القدر أن قرار خلع السلطان عبد الحميد سلمه للسلطان نفس الشخص عمانوئيل قراصو بصفته نائباً عن سالونيك وبشرح الكاتب كيف وفق «قاراصو» بفضل استعانته «بالدونمه» هي سالونيك وبقوة المال في إقناع الكثير من صغار الجيش العثماني الثالث بتأليف جمعية ثورية أطلق عليها اسم «جمعية الاتحاد والترقي» أما القائمون على إدارتها فكانوا عمانوئيل قاراصو، محمد جاويد، طلعت جمال، أنور، مصطفى كمال، الرائد صبحي. والملاحظ أن جميع المذكورين من أصول صهيونية ومنتمون إلى المحافل الماسونية، ولقد نجحت الجمعية في تحقيق أهدافها من خلال سيطرة الصهيونية على الصحف وإثارة القلاقل والفتن ومن خلال خلاياها الموجودة في الجيش الثالث ما أدى إلى نجاح انقلابهم في 10 تموز 1908 وبالنتيجة ظهرت سيطرتهم على الدولة العثمانية، واعتباراً من ذلك اليوم بدأت كتلة «دونمة سالونيك» الموجودة في الأستانة تتقمص زي الترك وقيافتهم، وكانت النتيجة أن عمت الفوضى واستشرى أمرها في كل أنحاء السلطنة. ويستنتج الكاتب كيف أن الذكاء اليهودي ونتيجة لمناوراته المخزية استطاع أن يزج بالدولة العثمانية في أتون الحرب لحساب ألمانيا ولم يتورع- بعد أن خرجت السلطنة مدحورة من الحرب- عن الاستماتة في سبيل الحصول على موطن يهودي في «الأرض الموعودة» المزعومة، دون أن يضحي اليهود بنقطة دم واحدة.

أما في الفصول 7-8-9-10 يتطرق الكاتب إلى القضية الأرمنية وبشرح بالتفاصيل عن جريمة الإبادة التي ارتكبها حزب الاتحاد والترقي بداية في ولاية أضنة عام 1909، وكيف خطط الاتحاديون لمحو الأرمن عن بكرة أبيهم في جلسة سرية لأركان الجمعية في مقرها العام 1914 وذلك تنفيذاً لقرار مؤتمرهم العام المنعقد في سالونيك 1910 الذي نص على تتريك كل العناصر غير التركية في الدولة العثمانية بكل الوسائل بما فيها القتل والإبادة الجماعية للتخلص نهائياً من العناصر غير التركية ولتتريك الدولة على المستويات كافة. ولقد قرر المجتمعون تكليف لجنة تنفيذ ثلاثية تضم كلاً من د. بهاء الدين شاكر ود. ناظم ووزير المعارف شكري بك، مهمتها إبادة الأرمن، وباشرت لجنة الثلاثية تنفيذ مهمتها وكان لا بد من إيجاد وسيلة لتنفيذ تلك الجريمة. وأشار الدكتور بهاء الدين شاكر إلى تشكيل مجموعات قتل خاصة مؤلفة من 50-100 رجل من خريجي السجون والمجرمين، وبذلك تشكلت عصابات على الأراضي التركية كافة وهي عصابات من الأشقياء نصف رسمية غير مسؤولة، مهمتها قتل الأرمن أما الترحيل فكان من مهمة الشرطة التي كانت تسيّر قوافل المدنيين الأرمن إلى أماكن نائية، حيث كان بانتظارها عصابات «التشكيلات الخاصة» السفاكون الدمويون لقتلهم بشكل جماعي وبالنتيجة: نرى أن جريمة الإبادة كانت مكتملة العناصر فالركن المعنوي للجريمة بشقيه من علم وإدارة موجود (قرار مؤتمر سالونيك 1910- قرار اللجنة المركزية بتشكيل لجنة ثلاثية مهمتها الإشراف على عمليات القتل) والإصرار الجماعي من الحزب على تنفيذ عمليات القتل، وأما الركن المادي للجريمة من أدوات جرمية وأوامر القتل واضحة تماماً من خلال الأوامر الصادرة من القيادات الحزبية ولجنة التنفيذ الثلاثية إلى التشكيلات الخاصة) التي تعتبر الأداة الجرمية المستخدمة في تنفيذ الجريمة، والعلاقة السببية بين الركنين واضحة وجلية فهي جريمة إبادة بحق الإنسانية مكتملة الأركان.

ويتطرق الكاتب إلى الوضع الداخلي أثناء الحرب وكيف عانت المملكة من ضعف شديد في توفر المواد الضرورية للمعيشة، وكم عانى الشعب زبانية الاتحاديين المحتكرين، وكيف بلغت مهازل السفه والإسراف والمباذل لدى علية القدم، وكم عانى الشعب المظالم واقتراف الأعمال الدنيئة وتعاطي الرشوة وغيرها، وكيف كان موظفو الدول ينقصون 10% من الوزن عند عملية الشراء ويضيفون 10% عند الوزن عند البيع بحيث يدخل 20% من الوزن إلى جيوبهم يتقاسمونه بينهم، وكان من أثر هذه المظالم المجاعة والقذارة إذ عمت الأوبئة مثل التيفوس والكوليرا.

في الفصل 12 يتناول الكاتب القضية العربية ويشرح كم عانى العرب ظلماً واضطهاداً ويعطي أمثلة عن القرارات القضائية التي كان يصدرها ديوان الحرب العرفي في عالية الذي قدموا إليه شبان العرب فحكم عليهم بالإعدام لأتفه الأسباب وفيما يلي بعض الأمثلة عن ذلك: أنت من المنتدى الأدبي- إعدام- أنت طليق اللسان تخطب في الجماهير- إعدام-، أنت نظرت بشهوة إلى محبوبة جمال باشا وإلى كنارها الأصفر «المقصود هنا ساره أهارونسون- إعدام-، كما أنه يتطرق إلى بعض التفصيلات عن ثورة الشريف حسين وعن اتصالاته مع الإنكليز واتفاقية سايكس بيكو.

في الفصل الأخير يبين مولانا زاده كيف انهارت الدولة العثمانية، يتحدث عن انحلال حزب الاتحاد والترقي- وتشكيل حزب جديد من فلول الاتحاديين سمي «حزب التجدد» وعن معاهدة استسلام تركيا إلى الحلفاء في مودروس تشرين 1918 وهروب قيادات الاتحاديين إلى خارج البلاد.

وأخيراً يصف الكاتب عن تركيبة المزيج الذي تكونت منه جمعية الاتحاد والترقي التي كانت السبب في الدمار الذي حل بالإمبراطورية العثمانية فهذا المزيج المؤلف من عنصرين: الرجال والنساء كان عجيباً. من الرجال: كان ثمة الوزراء والمشيرون والأمراء والضباط والعلماء والأدباء والكتاب والموظفون يخالط هؤلاء سفاكو الدماء وقطاعو الطرق الأشقياء من اللصوص والنشالين ومديري صالات القمار وبيوت الدعارة. جميع هؤلاء الوضعاء الأدنياء يتكاتفون ويرافقون أولئك العلية من القوم ويقفون جنباً لجنب موقفاً واحداً معهم، كما كانت مجموعة النساء على شاكلة هذا المزيج إذ كنت ترى منهن سيدات البلاط الأميرات المربيات القابلات والخادمات وناشرات الإشاعات والداعرات والمومسات، بالخلاصة فإن كل صنف من صنوف المجتمع يختلط مع بعضهم البعض، يتعايشون ضمن دائرة الاتحاد والترقي، وكانت الغاية هي تدمير السلطنة العثمانية تلك الفكرة التي انبثقت عن ذكاء الصهيونية، وقرارات مؤتمر سالونيك 1910 ونفذتها الجمعية بكل جدية وأمانة، فكانت الخطوة الأولى لإنشاء نموذج لدولة أحادية اللون، فتركيا الحديثة شعارها تركيا للأتراك فقط، أما الهدف النهائي فإننا نعيش في هذه الأيام إجراءات الوصول إليه، هذا الهدف هو فرض الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل كدولة عنصرية دينية أحادية اللون.

سركيس بورنزسيان

الوطن السورية

Share This