أردوغان قدم العزاء للأرمن لكنه أبقى الحدود مقفلة في وجه زوار آرارات

فيكين شيتيريان

يريفان – الحياة

كان 24 نيسان (أبريل) يوم عطلة مشمساً وممتعاً في يريفان، غابت حركة السير الطبيعيّة خلاله عن شوارع المدينة. خرجتُ من محطة مترو «باريكاموتيون» (وتعني «الصداقة») باتجاه جسر كييف، حيث بدأت الحشود تتكاثر، وراح الناس يسيرون بالمئات، بل حتّى بالآلاف، باتجاه نصب «دزيدزيرناكابيرت» المكرّس لضحايا مذابح الأرمن في عام 2015. والملفت أنّ الجميع، من شبّان، وعائلات، وأطفال، ارتدوا أفضل ملابس يوم العطلة، وحملوا ورداً أحمر، أو أزهار توليب قانية، أو أقحواناً أبيض. وتكاثرت الحشود مع اقترابنا من النصب التذكاري، الذي اتّخذ شكل مسلّة حادّة تشير إلى السماء، وقد نُصِبَت إلى جانبها اثنتا عشرة لوحة، تخالها أيادي تحمي الشعلة الأبدية. وتقدّمت الحشود ببطء بين الألواح، لوضع الزهور على أكوام كبيرة سبق أن تشكّلت في محيط الشعلة الناريّة.

مع هذه المسيرة على الأقدام صعوداً، بإمكان المرء أن يختبر جزئياً الترحيل الجبري الذي شهده عام 1915، حيث أرغِم مواطنو أمّة بكاملها على مغادرة بيوتهم، وقراهم، ومدنهم، والموطن الذي سكنوا فيه منذ حوالى ألف ســنة، وتمّ ترحيلهم إلى دير الزور، وقد تعرّضوا للنهب والقتل في سياق ذلك.

وفيما كنا نسير مبتعدين عن النصب التذكاري، برز جبلا آرارات التوأمين إلى اليمين، مع قمّتيهما المكللتين بالثلوج، وقد ظهرتا بوضوح في ذلك اليوم الجميل، علماً أنّ مشهد هذه السلسلة الجبليّة الأسطورية التي أرست فيها سفينة نوح رحالها وفقاً للإنجيل، هي المشهد الطاغي في أرجاء يريفان. ومع ذلك، كانت أشبه بالأسطورة، وبالحلم البعيد المنال، لوقوعها عند الجانب التركي من الحدود، مع الإشارة إلى أنّ تركيا ترفض فتح الحدود منذ أن نالت أرمينيا استقلالها.

رسالة أردوغان

ومن الملفت أنّه منذ عام 1965، تاريخ أول إحياء شعبي لذكرى المذابح في يريفان التي كانت آنذاك عاصمة أرمينيا السوفياتية، يشارك آلاف الناس في 24 نيسان من كل سنة في مسيرة من هذا القبيل، للتشديد على أنه تم اقتراف جريمة هائلة، والعدالة تنتظر أن تأخذ مجراها.

وتمثّل الحدث الأبرز لهذه السنة الذي طغى على شاشات التلفزة، بالرسالة التي بعث بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بمناسبة 24 نيسان، وبعد مقدمة طويلة، قال فيها إنه خلال الحرب العالمية الأولى، مرّ جميع العثمانيين بمعاناة، لم تقتصر على الأرمن، إنما شملت الأتراك، والأكراد، والعرب، والأرمن، «وملايين المواطنين العثمانيين الآخرين»، وأضاف أنّ تركيا «تملك حرية التعبير عن آراء وأفكار متفاوتة حول أحداث عام 1915». لكنّ أردوغان حذّر قائلاً: «قد يرى البعض أن مناخ الحرّية السائد في تركيا يفسح في المجال أمام صدور آراء ومزاعم اتهامية، وعدائية، وحتى استفزازية». إنّ كلّ ما سبق هو سياسة قديمة، وفي سياقها، يعتبر المسؤولون الأتراك أن إطاحة الأرمن العثمانيين هي «حرب أهلية»، أو مجرد «أحداث» حصلت في سياق الحرب العالمية الأولى، ومجرّد مزاعم بأنّه لم يكن هناك أي سياسة دولة تقضي بإبادة أمّة كاملة.

أما الجديد في كلام أردوغان، فهو التعاطف الذي أظهره حيال الأرمن، عندما قال: «فليرقد الأرمن الذين خسروا حياتهم في مطلع القرن العشرين بسلام، ونحن نرسل أحر التعازي لأحفادهم».

في إطار الخطاب التركي الرسمي الذي وُصف فيه الأرمن على امتداد قرن من الزمن تقريباً على أنهم أعداء، وخونة، وعملاء لدى القوى الاستعمارية، يُعتبر وضع المعاناة الأرمنية والتركية على قدم المساواة خطوة بارزة بالفعل.

24 نيسان 1915

في ذلك اليوم، اعتقل رجال الشرطة العثمانيون مئات الأرمن في اسطنبول، من برلمانيين، ورجال دين، وقادة أحزاب، ومحامين، ومدرّسين، وشعراء، أي باختصار جميع المثقفين الأرمن. وفي الأيام التالية، تم ترحيلهم إلى الأناضول، حيث عُذّب 761 منهم حتّى الموت، ومن بينهم المحامي اللامع كريكور زوهراب الذي كان عضواً في البرلمان العثماني وصديقاً شخصياً لطلعت باشا، إلى جانب الشاعر دانيال فاروجان. وقبل ذلك بأسابيع قليلة، تم نزع سلاح الجنود الأرمن الذين تمّت تعبئتهم ضمن الجيش العثماني، وأرسِلوا إلى كتائب عمل، وبعد تقسيمهم إلى مجموعات صغيرة، أعدِمَ حوالى 300 ألف منهم. وفي الوقت ذاته تقريباً، بدأت عمليات الترحيل الجبرية، علماً أن قيادة الحزب الحاكم، المعروف باسم جمعية الاتحاد والترقي، كانت قررت التخلص من الشعب الأرمني برمته، عبر إرغامه على السير إلى معسكرات اعتقال في دير الزور. وفي ذلك المكان، حصلت مجازر وتسببت بإبادة عدد كبير من النساء والأولاد الذين كانوا نجحوا في الصمود حتى ذلك الحين. ومن المؤكّد أنّه عند قراءة مذكرات الناجين، والقسوة التي تحمّلوها، والعنف والإذلال، سيبدأ المرء بالتشكيك في أسس الحضارة البشرية بحدّ ذاتها.

تُعتبَر مذابح الأرمن أول إبادة جماعية في القرن العشرين. وبعكس محرقة اليهود والإبادة الجماعية الرواندية، لا يزال مقترف المذابح ينفي حصولها حتى اليوم. وفي سبيل الكشف عن حجم الخراب، يشار إلى أنه في عام 1914، أقام 2.2 مليون أرمني في تركيا. وكان عدد الأرمن يزيد بقليل عن عدد الأتراك، أو عن عدد شعوب المحافظات السورية، ويزيد كل منهما حالياً بقليل عن العشرين مليوناً. وفي تركيا وحدها اليوم، لا يعيش إلا ستون ألف أرمني، ومعظمهم في اسطنبول، ولم تبقَ سوى قرية أرمنية واحدة تدعى واقفلي، تقع على مسافة عشرة كيلومترات شمال كسب، ويصل عدد سكانها إلى 135 شخصاً، علماً أن من تبقى منهم إما قُتلوا في المجازر، أو أصبحوا لاجئين في دول مجاورة. ومن بينهم عدد كبير من اليتامى، من فتيات صغيرات أو أرامل تعرضن للخطف وأرغمتهن قبائل وعائلات تركية، أو كردية، أو عربية، على اعتناق الإسلام. وفي ما يأتي رقم آخر، يفيد بأن الإمبراطورية العثمانية كانت تضم 2538 كنيسة وديراً للأرمن، ولم يبق منها اليوم إلا 34، من بينها 28 في اسطنبول، و6 فقط في الشرق كلّه، بما يشمل أرمينيا التاريخية.

وكان الأرمن أوائل المستهدفين من سياسة تدميريّة، ولكن الأمر لم يقتصر عليهم، إذ إن اليونانيين، والآشوريين، والأكراد اليزيديين أيضاً تعرّضوا للترحيل الجماعي والقتل. وقد تسبب الدمار الناتج عن الحرب العالمية وعن جرائم جمعية الاتحاد والترقي بتحوير معالم المنطقة برمتها، علماً أن الأراضي التي كانت في الماضي عثمانية لا تزال تعاني من هذا الإرث الإجرامي.

والملفت أن التاريخ التركي الرسمي يتهم الضحايا، ويعتبرهم مسؤولين عن المذابح، مبرراً مزاعمهم بالقول إنّ الأرمن تعاونوا مع القوات الأجنبيّة، وإنّ الجيش اضطر إلى نقلهم إلى أماكن أخرى في ظل ظروف حربية. وإن اعتمد المرء هذا التبرير، فمعناه أن مجمل الشعب العربي في الإمبراطورية كان يجب أن «يعاقَب» بالطريقة ذاتها، في أعقاب الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف حسين من مكة المكرمة. ولم تصدر أي كلمة عن الطبيعة المنظمة لعمليات الترحيل والمذابح، حتى في الأماكن التي لم تشهد أي ثورة، وفي بعض الأحيان، حتى على بعد آلاف الكيلومترات من الجبهات الحربية. ولم ترد أي كلمة عن مجازر دير الزور، حتى بعد عمليات الترحيل. ولم ترد أي كلمة عن إرغام ما بين 200 و300 ألف يتيم وامرأة على تغيير دينهم بالقوة.

وكذلك، لم ترد أي كلمة عن النهب الشامل للأملاك الأرمنيّة المتروكة التي تقاسمها المشاركون في المجازر في ما بينهم، باستثناء مبنى واحد كفيل بالتذكير بما حصل، قصر تشانكايا الرئاسي في أنقرة، وهو بمثابة البيت الأبيض في تركيا الذي تمت مصادرته من عائلة كسابيان.

شجاعة المؤرخين الأتراك

في السنوات العشرين الماضية، وبفضل أعمال وكفاح تركيين شجاعين وأرمني، تمّ تفكيك عناصر الخطاب الرسمي السائد. أمّا الرجل الأوّل منهم، فهو الصحافي والناشط الرائد في مجال حقوق الإنسان رجب زاراكولو الذي أصدر مجموعة كتب عن تاريخ أرمينيا بأقلام مؤلفين أرمن وأوروبيين، وقد دفع زاراكولو وأسرته الثمن غالياً على شجاعته، إذ تعرّض للسجن مراراً، وتوفيت زوجته عائشة نوز بعد أن أمضت سنوات طويلة خلف القضبان. أما الثاني، فمقاتل سابق أصبح مؤرّخاً، يُدعى تانار أكشم. وهو يكتب منذ 24 سنة عن مذابح الأرمن باللغة التركية، وقد فضح أكاذيب المؤرخين الرسميين. أما الشخص الثالث، فيدعى هرانت دينك، وهو صحافي تركي – أرمني، تجرأ منذ عام 1993 أن يستشير الرأي العام التركي، ويسأله عن عدد كبير من الأرمن في بلداته، وقراه، وكنائسه، ومدارسه. فسأله عمّا حل بالأرمن، وعن مكانهم الحالي. إلاّ أنّ تحدّي هرانت دينك الخط السياسي الرسمي – لا سيّما أنّه أرمني – شكّل تهديداً بالغ الخطورة لحراس الكمالية، بالتالي تعرّض للاغتيال في عام 2007.

إنّ عدم اعتراف تركيا بالإبادة الجماعية يخوّلها مواصلة قمعها الأرمن وغيرهم من الأقليات. وسأعطي مثلين على ذلك: عندما ظهر تحرّك مسلّح كردي في تركيا في ثمانينات القرن العشرين، لم يكتفِ الجيش التركي بمقاتلته، بل دمّر حوالى 3500 قرية كردية، ورحّل سكّانها. وعند نشوب صراع قره باغ، وقفت تركيا إلى جانب آذربيجان ضد أرمينيا، وليس فقط ديبلوماسياً، كونها قرّرت أيضاً توفير أسلحة وجنرالات للجيش كمساعدة في خوض الحرب. كما أنها أقفلت حدودها مع أرمينيا، لخنق اقتصاد هذه الأخيرة. وتبقى الحدود التركية – الأرمنية آخر جزء مقفل حتّى اليوم من الستار الحديد.

ويضيف أردوغان في رسالته قائلاً: «في عالمنا اليوم، لا يعتبر استنباط العداوة من الأحداث التاريخيّة، وخلق خصومات جديدة مقبولاً ولا مفيداً لبناء مستقبل مشترك». ولكن في حال كان الوضع كذلك، يا سيدي رئيس مجلس الوزراء، فافتح المقفلة، فأنا أريد أن أذهب إلى سلسلة جبال آرارات سيراً على الأقدام!

Share This