لقاء مجلة “الكواليس” مع ليون شماسيان ومانوشاك هواتيان ماركاريان في العدد الخاص عن الذكرى الـ99 للإبادة الأرمنية

ليون شماسيان ومانوشاك هواتيان ماركاريان شهود أحياء على تاريخ عنجر جبل موسى.

زيارتنا عنجر جبل موسى، فتحت أمامنا آفاقاً لم تكن معلومة لدينا، حيث التقينا هناك بشعب يختلف عن كل من حوله من قرى، من حيث هروبه من إبادة كادت تأكل الأخضر واليابس من قراه الجميلة، فإذا به لاجيء، يعاني الصقيع والأمراض والجوع متنقلاً من باخرة إلى شاحنة ومن ثم إلى صحراء تفتقر كل اسباب الحياة، فإذا بها اليوم بلدة مثالية، ليس فقط من ناحية التشجير والتنظيم والجمالية الخاصة، بل من خلال تقسيمها لستة احياء تحمل عبق وخصائص قرى جبل موسى الذي تحمل إسمه.

في عنجر التقينا السيد ليون شماسيان، مواليد 1923- كانون الأول، رجل في الـ91، ولكنه يبدو بالستين من عمره إن لم يكن أقل، وسر شبابه ما عاشه هذا الرجل من عذابات حولها بإتساع فكره وخبراته إلى دوافع سارت به إلى الأمام وما زال يخطو بثقة وكأنه باق للأبد.. يقول: درست في عشر مدارس في حياتي لأن والدي كان كثير الحركة تنقل في عشر مناطق، هذا التنقل أثر سلباً على متابعة دراستي لكنه أعطاني الخبرة، وتعلمت واستقدت كثيراً من تجاربي، معتمداً على مكتبة كبيرة اقضي معها أوقات فراغي إضافة لهواياتي الكثيرة منها، الموسيقى الكلاسيكية وعندي مجموعة رائعة تصل إلى 250 سي دي لأكبر الموسيقيين، كذلك أهوى جمع الطوابع منذ 78 سنة، وعندي أول طوابع لبنانية حتى اليوم، كذلك كطوابع كل البلاد الأوروبية والأميركية، ومنها أول طابع صدر في بلجيكا عام 1849، عندي منه ستة طوابع من بين 150 طابع فقط موجودين في كل العالم.
ويتابع السيد ملكون بإبتسامة تشع أملاً وحباً: كنت سعيداً بزواجي وأنجبت خمسة أولاد صبيان وثلاث فتيات حصلوا جميعاً على العلوم العليا، ويعملون في أرقى المؤسسات والجامعات في أميركا وجنيف. ويصل بحديثه إلى رحلة اللجوء المحزنة متذكراً: جئنا من جبل موسى عام 1939 عندما أعطى الفرنسيون لواء الأسكندرون السوري هدية لتركيا، حتى لا تدخل في حرب الأربعين، درست في الفرير الفرنسي، ثم في كولدج الأميركي في طرابلس ثم عملت في شركة نفط عراقية لمدة 43 سنة، تطورت خلالها إلى وظائف مختلفة.
ويضيف: كان عمري 15 عندما تركنا جبل موسى، ووصلنا إلى البسيط قرب كسب وهناك هطل البرّد بحجم كبير فأصبحنا نرقص رقصة عنجر لنتدفأ، كما مرضنا جميعاً عندما شربنا من ماء ينبع من حشائش. ثم جئنا بالبواخر إلى بيروت، ثم إلى رياق فعنجر التي كانت عبارة عن صحراء ليس فيها عود أخضر ولا حتى يابس وكانت مليئة بالمستنقات المليئة بالأمراض والأفاعي السامة، كان الوضع كارثياً، وضعونا فوق القلعة المطمورة بالتراب، بمخيم لم يكن قادراً على حمايتنا من الثلج الذي كان يهطل فوق رؤسنا، والمياه التي تدخل من الأرض لتبلل فراشنا، بقينا على هذا الحال لمدة سنتين، ندفن كل يوم عشرة اشخاص من الأولاد وكبار السن، الذين يموتون بسبب البرد والملاريا والجوع، لدرجة أن الخوري وحرصاً على نفسية الناس منع قرع الجرس الذي يدق معلناً موت احدهم، كما أن الخوري أتخذ مكاناً له في المقبرة البعيدة عن البلدة لأنه تعب من الذهاب والأياب لأكثر من عشر مرات يومياً ليصلي على الموتى، وفي أحد الأيام مات 12 شخصاً، ففاق عدد الموتى الألف في تلك الفترة القصيرو. ثم بنى الفرنسيون لكل عائلة غرفة وحمام بالخارج تعيش فيها العائلة مع حيواناتها من بقر وغنم ودجاج، وكان الديك ساعتنا التي نستيقظ على صوته.
وعما إذا كان يعلم بأن الأيام ستصبح أفضل مما كانت، يقول: شعبنا الذي صنع الأيام الأحلى، الذي صنع الحياة، عملنا قنوات الماء ونشفنا المستنقعات ووضعنا المجارير وزرعنا الشجر. حتى أصبحت عنجر افضل بلدة بين جاراتها، من نظافة وصحة مزروعاتها التي لا تسقى إلا المياه النظيفة. واحتضنت عنجر قرى جبل موسى الستة، بجمالها ولغتها الخاصة وتميزها. وبعد جولة على مكتبته وطوابعه شكر السيد ليون زيارتنا مبدياً حزنه على الذكرى الأليمة، وفرحه بما حققه الشعب الأرمني من وجود إيجابي في كل مكان عاش فيه.
السيدة مانوشاك هواتيان ماركاريان لم تنسى…أما السيدة مانوشاك هواتيان ماركاريان التي هاجرت مع والدها وأم حامل وثلاثة أخوة عام 1939 إلى البسيط لمدة 40 يوماً، حيث رقصت مع أهلها من شدة البرد، وعبر البواخر وصلت طرابلس ثم رياق ثم عنجر المليئة بالأشواك والأوساخ، فسكنت الخيام حيث أنجبت والدتها طفلتها بالخيمة تحت هطول الثلج مما جعلها تمرض وعندما كانت تعطيها الممرضة حقنة في فخذها أنكسرت الأبرة فدخلت مستشفى أوتيل ديو في بيروت لمدة ثلاثة أشهر، وما زالت تذكر الخيمة السوداء التي كانت في النهار مدرسة وتتحول إلى كنيسة يقام بها قداس الأحد. وتتذكر بحزن كبير، بعد سنة مات والدي وهو بالأربعين من عمره وكانت أختي قد سبقته بشهر واحد، كبرنا بمساعدة عمي، وكنت كل مساء أبكي تعاستنا ووجعنا، وبعد عشر سنوات ماتت أمي أيضاً عندما بلغت الأربعين في نفس اليوم ونفس الشهر الذي مات فيه أبي، بقينا ثلاث أخوات وأنا، تزوجت إبن عمي، بعد سنتين تزوج أخي، وهكذا..

وتختم بحزن استيقظ، أو بالأحرى لم يغادرها وهي تقول: كم تعذبنا، كنا نذهب حفاة إلى نبع الماء لنعبء الجرار، لم يكن في عنجر طريق أو كهرباء أو ماء. تعذب أهلنا كثيراً، كانت أيامنا مليئة بالموت والأمراض، وما زلنا حتى اليوم نتوجع بسبب الحالة الأمنية والإقتصادية الموجعة التي نعيشها. وأنا دائمة الصلاة للأيتام والثكالى والأرامل ولا أتمنى لعدونا أن يحصل معه ما حصل معنا.

مجلة “كواليس” اللبنانية، عدد خاص عن الذكرى الـ99 للإبادة الأرمنية

Share This