لقاء مجلة “الكواليس” مع الشاعر والناقد سركيس غيراغوسيان في العدد الخاص عن لذكرى الـ99 للإبادة الأرمنية

تاثير الإبادة الأرمنية لم يكن على الأدب الأرمني فقط بل على الأدب والثقافة بمختلف أشكالها وأنواعها: الشاعر والناقد سركيس غيراغوسيان.

يعتبر من أحد أهم الأصوات الشعرية في الساحة الأرمنية، فهو من أكثر الشعراء الذين يشبهون قصيدتهم أناقة وصدقاً وشفافية، شاعر مسكون بالبحث عن الشعر الصافي الذي لا زمن له ولا فرسان قبيلة. فالمعنى في شعره هو نتاج عناق الجبال بين الصورة والإيقاع. لكن سلالة شعره معلنة، إنها جماليات اللغة الأرمنية وإيقاعات الشعر الأرمني، مؤلف خارطة الشعر الحديث في لبنان، وذلك عبر سبعة شعراء تناول نتاجهم في مقدمة طويلة وبحث في كيفية رسم الطريق، طريق الشعر، بدواوين وقصائد كان لها صداها في لبنان والعالم العربي: يوسف الخال، أدونيس، شوقي أبي شقرا، انسي الحاج، بول شاوول، عباس بيضون، ووديع سعادة، وهو ليس جديداً على ترجمة الشعر فتجربته الثقافية المتنوعة في بيروت بدأت في سبعينات القرن الماضي، فهو شاعرٌ ومترجمُ وروائي وناقد، له قصائدٌ ودوواين شعر ومقالات نشرت في العديد من الصحف والمجلات اللبنانية والأرمنية الصادرة في لبنان، قام بأول دراسة أكاديمية عن الشعر العربي الحديث، وهي أول دراسة صدرت قبل الدراسات باللغة العربية، وذلك بدءً من الشعر الجاهلي مروراً بالشعر العباسي وصولاً إلى الشعر الرومانسي للشاعر “إلياس أبو شبكه” و”سعيد عقل” وغيرهما، وتليها مجلة”شعر” ومجلة” المواقف”، عمل محرراً في مجلة “باكين” الأرمنية، والتي تعني المذبح، أي الأديب يقدم أغلى ما لديه على مذبح الإبداع، لديه مئات بل ألوف الترجمات التي قام بها، وحالياً يتولى مستشار الصفحة الثقافية والأدبية في جريدة “أزتاك”، إنه الشاعر والناقد سركيس غيراغوسيان، الذي لكان لنا معه هذا اللقاء الشيق والغني….

*الشاعر سركيس غيراغوسيان دعى إلى أنه ينبغي في الترجمة أن تكسر اللغة ليستقيم الشعر والعكس صحيح، “قزح الآرزات”، عنوان مختارتك الشعرية، شاعراً باللغة الأرمنية، كيف جئت إلى الأدب العربي، وما هي الصعوبات التي واجهتها؟

ما أعنيه بكسر اللغة الشعرية، برأيي أن الذي يريد أن يترجم من لغة إلى أخرى عليه أن يكون مبدعاً باللغة التي يريد الترجمة إليها، بمعنى إذا أردنا أن نترجم الشعر الأرمني، على المترجم أن يكون شاعراً بالعربية، لأن اللغة ليست كلمات فقط بل روح وموسيقى، عليك أن تجد طريقة لنقل هذا السكون بين كلمة وأخرى. مثلا حين تنقل «لن» لأنــسي الحـــاج إلى الأرمنية، عليك أن تكسر اللغة الأرمنية كي يستقـــيم الشعر، والعكس صحيح أيضاً، أي عليــك أن تعرف كيف تعيد تجربة الشاعر اللغوية بلغة أخرى،والتجارب اللغوية تختلف من شاعر إلى آخر، على سبيل المثال لغة الشعر لدى أدونيس تختلف عن يوسف الخال وشوقي أبي شقرا، كل شاعر يبني لغته المفروض أن تكسر اللغة السائدة ما قبله، وهي تكون نابعة من تجربته ومعايشته ورؤيته، والشعر هو الشئ غير المنظور، ويكون التجربة اللغوية الخاصة به، مثلا الشاعر والأديب “أنسي الحاج” هو أول شاعر أحدث تغييراً في الشعر العربي، وهو ما يسمى بالشعر الحر، استناداً إلى كتاب “سوزان برنار” في الموسيقى الداخلية أي في “الريتم”، بالإضافة عندما تصيغ الترجمة لا بد أن تغوص في أعماق التجربة اللغوية، وإلا تذهب الترجمة هباءً ولا تستطيع نقل المغامرة اللغوية من اللغة العربية إلى اللغة الأرمنية والعكس صحيح، لهذا أرى المترجم هو مبدع ثاني يبدع أبداع الشاعر، فإنه يغوص أعماق النص، حتى يعطيه حياة أخرى، وإن الصورة والحرف يتناغمان لنقل الصورة المراد منها الشاعر، والشعر الحديث نجد به الرتيم وليس الوزن، على سبيل المثال في أبريل الماضي قام الشاعر “أدونيس بزيارة أرمينيا وهي المرة الأولى وكنت برفقته، بمناسبة مهرجان الشعر العالمي في “يريفان” وكان هناك العديد من الإحتفالات، وأقيم عرض مسرحي في إحدى الجامعات كانت لإحدى ترجماتي لشعر “أدونيس”، فقال لي: أليس تلك هي قصيدتي “سفينة نوح”، بالرغم من عدم معرفته للغة الأرمنية، إلا أنه استطاع معرفتها من خلال “الريتم”، إن الشعر هو مثيل بالفضاء الواسع، نجد الفضاء الملئ بالكواكب المضاءة، والأخرى الميتة، والشاعر يجمع أضواء النجوم الحية، وكل كوكب له ميزته، أما بالنسبة للصعوبات التي واجهتها، أولا الصعوبات اللغوية، فكما تعرفي لا تحتوي اللغة الأرمنية على المؤنث والمذكر، ولا المثنى أيضاً، خذ مثلا شاعراً يتحدث عن حبيبته “هي” عليك أن تجد طريقة كي يتمكن القارئ الأرمني من فهم أن هذا الكلام موجهُ إلى امرأة، في أي حال، اللغة الأرمنية لغة «بلاستيكية» أي أنها تساعد كثيراً على الترجمة، حيث يمكنك أن تشكلها وتمزج فيها العديد من الحالات، أي أنها لغة متحركة كثيرا. أضف إلى ذلك أن كل شاعر (أرمني) يملك قاموسه الشعري الخاص، أي ثمة تعابير خاصة به، وكأنه اخترع كلماته الخاصة، وهذا ما سهل عليّ الترجمة.
” قزح الآرزات” هو كتاب حوى خارطة الشعر الحديث في لبنان، وذلك عبر سبعة شعراء تناولت نتاجهم في مقدمة طويلة وبحث في كيفية رسم طريق الشعر، بدواوين وقصائد كان لها صداها في لبنان والعالم العربي، للشعراء مثل يوسف الخال، أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، بول شاوول، عباس بيضون، ووديع سعادة، واخترت مقتطفات من مؤلفاتهم وترجمتها إلى الأرمنية، لأنقل إلى القارئ الأرمني الواقع الشعري في لبنان، وتم بطلب من وزارة الثقافة في أرمينيا، خلال زيارتي عام 2000م مؤتمر رواد من الشعراء، وسميت الكتاب “قزح الآرزات” نسبة إلى أن قوس قزح هو سبعة ألوان، وكان لصدوره الوقع الإيجابي في أرمينيا، وتناولها كبار النقاد بمقالات نقدية في أبرز الصحف والمجلات الأرمنية.

*ما مدى انعكاس الإبادة الأرمنية بآثارها المحزنة على الأدب الأرمني؟

ـ في أوائل عام 1920م، عندما وصل الناجون من الإبادة الأرمنية، والذين ولدوا على طرقات الصحاري، بالتاكيد إن الإبادة الأرمنية هي ذاكرة جماعية، فيها الألم والآلق، وكان لها التأثير الكبير على الأدب الأرمني، بحيث الكثيرون من نجوا من الإبادة بعد مرور سنوات عدة، كانوا يتوقفون بذاكرتهم ومعايشتهم لواقعهم، وكأنهم ما زالوا في عام 1915م، إذن إنه واقع أليم وحزين، الذي لا يمكن تخطيه، وتم نقله عبر الأجيال، لقد قمت بدراسة باللغة الأرمنية عن موضوع الإبادة الأرمنية في الأدب العربي، وخاصة وجدت نصوص لروائيين في سوريا، خاصة في المناطق التي كان لها ارتباط وثيق بالإبادة الأرمنية، كثير من الأدباء تطرقوا إلى مواضيع الإبادة الأرمنية، كأمثال عبد السلام العجيلي، عبدالرحمن المنيف، الذي لديه خماسية شهيره “مدن الملح” في الكتاب الثاني “التيه” توجد تسعون صفحة ارتكزت على مأساة الذين نجوا من المجازر في الجزيرة العربية، ويتحدث عن رجل يملك “ستيرن مياه” ويقوم بتوزيع المياه في الصحراء العربية، وكان يقصد الناجون من الإبادة، التي كانت تعتبر أول إبادة عنصرية في القرن العشرين، وهي قبل الهولكوست اليهوديه، وهناك الأديب إبراهيم الخليل كاتب من الرقة، كتب رواية “الهدس”، وفيصل خرطوش الذي تناول الموضوع بشكل أعمق، حيث نال كتابه “موجز تاج الباشا الصغير” جائزة لرواية صادرة عن دار النشر مجلة “الناقد”، إضافة إلى رواية “أوراق الياسمين والزيتون” تحدث الإديب فيصل خرطوش عن كامب أرمني في “خان الزيتون” في حلب وما زال، وهناك في المكتبة الأرمنية العديد العديد من الوثائق والمذكرات عن الإبادة، وملايين الوثائق والكتب التي صدرت من جامعات في الولايات المتحده الأمريكية ، فرنسا ، انجلترا، ألمانيا، وتم ترجمتها إلى العديد من لغات العالم، إذن الإبادة الأرمنية لم يكن تأثيرها على الأدب الأرمني فقط بل على الأدب والثقافة عامة بمختلف أشكالها وأنواعها.

*أحد الشعراء الأرمن خاطب قومه: كيف يرضى بخطة الذل قوم ويقولون نحن شم الأنوف قد تبينت حالتي وأنا في ربقة الأسر تحت رق العريف فحسدت البهائم العجم لما لحن للعين في ظلال الكهوف كيف يصفو عيش الفتى في ديار ساد فيها الغبي كل ثقيف؟ ما ردك عليه؟

الأحاسيس نابعة من تجربة معاناة صادقة وحقيقية، تجربة إنسانية، ولكن لا أنظر إليه كتجربة أرمنية، لأن الأدب العالمي ينطلق من قوميته إلى الإنسانية، يعني على سبيل المثال نأخذ “رابيندرنات طاغور” كاتب هندي، وفي ذات الوقت هو كاتب شمولي إنساني، الأديب والشاعر والمفكر”جبران خليل جبران”، جبلي مائة بالمئة، ولكنه كاتب إنساني في كتابه “النبي” وفي العديد من مؤلفاته، وهو مثل النسر الذي يحلق ويطير من أفق إلى آخر، ومن علو إلى علو، وهنا الجمال، فإن الكاتب يختلف عن الآخر بقوة انطلاقه، مثلا المغني “شارل أزنافور” مغني فرنسي، من أصول أرمنية، وهو من ركائز الثقافة الفرنسية، له أغاني ومواضيع عن الإبادة الأرمنية، عام 1991م أصاب أرمينيا زلزالاً، أقام حفلاً غنائياً ضم العديد من كبار المغنيين في فرنسا أمثال “ميراي ماتيو” “جوني هوليداي” وغيرهم، الذي تم إذاعته في فرنسا ولبنان، وكان ضخماً للغاية.

*الكلمة الأخيرة؟

الإنسان كالشجرة تماماً، إن لم تكن جذوره قوية، يسهل قلعها، على الإنسان والأديب أن يكون صادقاً مع ذاته، ومنفتح ومندمجاً مع الآخر، ومتعمقاً، حتى يحقق العدالة الإنسانية، وهذا ما نصبو إليه، ونشكركم.


فريال دبوق

مجلة “كواليس” اللبنانية، عدد خاص عن الذكرى الـ99 للإبادة الأرمنية

Share This