لقاء مجلة “الكواليس” مع الطبيب باولو كازازيان في العدد الخاص عن لذكرى الـ99 للإبادة الأرمنية

سمع جدته وبحث في إيطاليا عن مسببات المذابح التي كانت بمعرفة المانية: الدكتور باولو كازازيان.

جدتي شاهدت كل أفراد عائلتها يموتون حرقاً دون أن تفعل لهم شيئاً
نعمل على قاعدة التعاون والتكافل حتى لا يبقى بين الأرمن محتاج أو متسول
بقيت وعائلتي في لبنان للمحافظة على التقاليد التي تذوب في المجتمعات الغربية.

عفوي، طيب، حكيم.. هذا هو الدكتور باولو كازازيان، اخصائي الأمراض النسائية، الذي يحمل الجنسية الإيطالية من امه، لكنه مصّر على أن يبقى في لبنان الذي ولد فيه بالصدفة، وكأن قدره رسم له مستقبله في هذا اللبنان الذي فتح قلبه للشعب الأرمني الذي هاجز قسراً من قراه ومدنه في تركيا، نتيجة مذبحة مدروسة جيداً وقعت تحت العديد من العناوين، ولكن يبقى العنوان الأبرز أنها مذبحة العصر، بحيث وصلت الوحشية إلى أدنى مستوياتها من خلال الذبح والحرق والتهجير لشعب آمن ليس من ذنب له سوى أنه يدين بغير دين حاكمه، الذي قد لا يدرك أن الله سبحانه وتعالى خلق الشعوب مذاهب وطوائف ليتعارفوا وليس ليتقاتلوا..

الدكتور باولو كازازيان، الذي ما زال يعيش آثار المذبحة الأليمة، يدرك أن هذا الألم لن يكون بذات الحرارة في قلوب الأجيال الأرمنية المقبلة التي ترى أن ما يحدث على الأرض العربية اليوم قد تكون الأكثر الماً والأشد وجعاً..

وعشية الذكرى الـ 99 للمذبحة الأليمة كان لنا لقاء مع الدكتور باولو الذي لم يعتمد فقط على قصص الجدة بل قصد إيطاليا ليبحث هناك في الكتب عن اسباب ومسببات ما تعرض له أهله وشعبه.. وهذا ما دار حوله حديثنا..

*نريد أن نتعرف على الدكتور باولو كازازيان؟

جئت من إيطاليا عام 1981، والدي كان طبيباً في زحلة، وزوجتي صيدلانية لبنانية، وأنا طبيب، اصبحت رئيس تجمع أطباء الأرمن، التابع لنقابة أطباء لبنان، عملت تسع سنوات طبيباً بالمحكمة الروحية الأرمنية، كما أني عضو بلجنة المدارس الأرمنية المرتبطة بالمطرانية، وقبل شهر كنت رئيساُ لمستشفى العازونية – الشوف، العاملة منذ 60 سنة، وهي الوحيدة في لبنان التي تعالج أمراض السل، وتستقبل جميع المرضى من اللبنانيين والأجانب الذين يقيمون بشكل شرعي في لبنان، ويتم علاجهم على حساب وزارة الصحة اللبنانية، وأنا عضو في إدارة مستشفى الحريري منذ ثمان سنوات، ومتطوع بالصليب الأحمر الأرمني، كما أشارك بالعديد من الأنشطة الصحية والإقتصادية والإجتماعية التي تعود بالخير للوطن وللشعب اللبناني عامة من دون أن نتعاطى بالسياسة. نحن أحفاد الجيل الثاني الذي شهد المجزرة الأليمة التي تعرض لها الشعب الأرمني، وقد تربينا على حكايا جداتنا تقص المآساة الأليمة.

*من أين عائلتكم تحديداً؟

قبل حضورنا إلى لبنان كنا في حلب، أنا ولدت بمدينة “أبلح” في لبنان حيث كان أهلي يقضون الصيف هناك، والدي عاش في حلب وجدي وجدتي أتيا من “عينتاب” في تركيا، وهي مدينة 90% من سكانها من الأرمن، هربوا أثناء المجزرة إلى حلب وكلهم ثقة بأنهم سيعودون بعد مدة قصيرة لأرضهم وبيوتهم وأرزاقهم، لكنهم للأسف لم يعودوا، بل عاشوا لعدة سنوات في المخيمات كاللاجئين الفلسطينيين، لكنهم مع الوقت تأكدوا بأن الأفق المنظور لا يحمل إليهم أي أمل بالعودة، بنوا المدارس ليضمنوا تعليم أولادهم، مثال ذلك أن جدي وجدتي لم يكونا يعرفان اللغة الأرمنية التي كانت ممنوعة في تركيا، بل يتحدثان بالتركية وأنا تعلمت منهما التركية وهما يخبروننا عن المذابح.

*ما هي أبرز القصص عن المذابح الأليمة العالقة بذهنك؟

جدتي شاهدت كل أفراد عائلتها يموتون حرقاً، عندما نصح الخوري أهلي القرية باللجوء إلى الكنيسة للدعاء والصلاة، ، وبالفعل دخل الجميع وتخلفت جدتي عن الذهاب إلى الكنيسة بسبب انشغالها بأولادها الثمانية. ولأنهم للأسف دائماً يدخلون السياسة بالدين حاصروا الكنيسة وأحرقوا كل من فيها، جدتي شاهدت المنظر ورأت والدتها وأختها وكافة أفراد عائلتها وهم يحترقون، فما كان منها إلا أن أخذت أولادها وهربت من البيت إلى حلب بمساعدة أكراد وأتراك كانوا يعملون في حديقة منزلها، وعلى الحواجز كان الرجل الذي ساعدها يقول: “هذه زوجتي وأولادي”، وفي نفس الوقت كان جدي عسكرياً في الجيش التركي يحارب الإيطاليين في ليبا، وعندما انتهت الحرب عاد إلى بيته لكنه لم يجد أحداً، سأل عن عائلته فقالوا له أننا رأيناهم آخر مرة في حلب، فذهب يبحث عنهم.
*تعودنا على الجدات يقصصن ما يسلي أحفادهن، لكن قصصكم مؤلمة، ماذا كنت تشعر وأن تستمع إلى مثل هذه الجراح؟

كنت صغيراً لا أفهم كثيراً عن ماذا تتحدث جدتي، لكنني عندما كبرت، ذهبت إلى إيطاليا للتخصص، وهناك قصدت الأرشيف لأعرف ماذا حصل، ما فهمته أن الأمبراطورية الإلمانية لم يكن لديها سوقاً لمنتوجاتها، وكانت تتحضر لحرب عالمية، وحتى تحارب الأمبراطورية الإلمانية أوروبا كانت بحاجة لدولة قوية ولجيش قوي في المنطقة، تكون مسرحاً لحربها مع أوروبا من دون أن تعرض الأرض الإلمانية لأي خطر، فأختارت تركيا، وبدأت بتدريب الضباط وأخترعت جيشاً نظامياً تركياً مجهزاً بسلاح قادر على خوض حرب ضد انكلترا التي أستعانت بجيوش من مستعمراتها في الهند وباكستان، وفرنسا استعانت بجيوش من مستعمراتها في أفريقيا، وهكذا استطاع الألمان أن يستعملوا تركيا لمصلحتهم والتي كان لها اساساُ مشكلة دينية مع الأمبراطور الروسي “تساب” وخصوصاً مع الأرمن الذين كانوا مضطهدين، يطالبون بالحرية في العديد من المناطق وخاصة الأناضول. وأوروبا كانت تدعم هذا الوضع، وعندما أرادت تركيا أن تدخل الحرب، حاولت الإستفادة من ذلك لمصلحتها، بحيث تتخلص من الأرمن نهائياً بحجة أنهم ماتوا، أو هربوا من الحرب.
كان رئيس الجيش التركي في ذلك الوقت الماريشال “ليمان فون ساندس”، عرف أن هناك لعبة من قبل الأتراك وانشغل باله لأنه هو الذي أسس الجيش التركي في خلال ثمان سنوات، لكنه عندما سمع عن حصول مجازر في تركيا، سأل كم عدد الأرمن في تركيا قالوا له حوالي المليونين ونصف المليون، قال إذا تسلح 10% من هذا الشعب، نجد أن هناك حوالي 250 ألف مسلح “يخربط” الأوضاع في تركيا ويؤثر على امدادات الجيوش الواصلة إلى العديد من الدول العربية التي كانت تسيطر عليها تركيا في ذلك الوقت. ولما استشار حكومته في المانيا نصحوه بأن يتحدث عن هواجسه مع القائد في اسطنبول الذي طمأنه بان الأرمن يخدمون في الجيش التركي، وعندما بدأت الحرب دخل أكثر من 130 ألف من شباب أرمني في الجيش التركي وتم إرسالهم إلى “باسورا” و”اليمن” وإلى أماكن بعيدة مثل جدي الذي تم إرساله إلى ليبيا. وبعد عدة أشهر جمعوا السلاح من الأرمن خوفاً من أن يستعملوه ضد الأتراك، ووضعوهم في مطابخ الجيش التركي وأعمال السخرة غير العسكرية، ومع الوقت بدأوا يأخذون أعداداً منهم إلى الصحراء ويقتلوهم هناك حتى أختفى الـ 130 الفاً الذين تجندوا ليخدموا في الجيش التركي. وبقي منهم عدد قليل جداً كجدي الذي عاد إلى بيته، إضافة للنساء والأطفال، الذين أقتلعوهم من أرضهم وبيوتهم بحجة أنهم في خطر من هجوم الجيش الروسي على المناطق الحدودية، فأخذوهم مشياً على الأقدام مسافة 1600 كلم إلى حلب ودير الزور ومناطق في الصحراء، وقد مات من مات، وما زلنا لغاية اليوم نسمع عن العديد في دير الزور من أصول أرمينة نتيجة بيع العديد من الذين هجروهم إلى هناك.. العرب ساعدوا المهجرين كثيراً ويوجد جيل معروف من أصول أرمينة. بعد الحرب قال الماريشال ليمان: “أن الأتراك ضحكوا علينا”، عندما جهزت الدولة العثمانية شباب الأرمن للحرب ومن ثم تخلصت منهم.

*والدك أرمني لبنان، فكيف تحمل الجنسية الإيطالية؟

حصلت على الجنسية الإيطالية من أمي، لكن زوجتي لبنانية أحبت أن نمضي حياتنا في لبنان، والدي كان عنده عيادة في فرن الشباك، عائلتي مكونة من بنتي مديرة بنك سويسرا في لبنان، وإبني مهندس ميكانيك متزوج، وهو اليوم مدير شركة كبيرة جداً في دبي.
*هل ندمت بعودتك إلى لبنان؟

أنا سعيد في لبنان لأنني تطوعت في العديد من الجمعيات، وقد أراحني ذلك نفسياً، خاصة وأنني نحجت في كل ما عملت فيه. فأنا كطبيب نسائي قد أكسب مادياً أكثر في أوروبا، ولكن في أوروبا لا توجد أسرة، ونحن الأرمن محافظين على تقاليد الأسرة بعكس أوروبا التي يستأذن الأخ أخاه إن أراد زيارته. وجودي في لبنان ربط العائلة بزيارات متبادلة، وإن كان الوضع الأمني يسبب انزعاجنا جميعاً.

*نحن عشية الذكرى الـ99 للمذابح الأرمنية، إلى أي مدى أثرت هذه المذابح على إستنهاض الأرمن ليكونوا بهذه الفعالية في المجتمعات التي عاش فيها، وخاصة في لبنان؟

الأرمن دخلوا التاريخ العثماني من خلال فعاليات مؤثرة بالمجتمع، فأمر الأطباء في قصر السلطان عبد الحميد كانوا من الأرمن، كذلك المهندسين، الجوهرجية، بمعنى أن الإقتصاد التركي كان شبه ممسوك من الأرمن، وعندما تهجر الأرمن بعد المجزرة إلى لبنان وسوريا وباقي الدول كانوا يتميزون بنشاطهم نشطاء، وبدل من أن يمدوا أيدهم للجمعيات الخيرية الدولية بدأوا يعملون ليساعدوا أنفسهم وبالتالي ساعدوا البلاد التي سكنوها، أسسوا المدارس ليتعلم الأولاد، والجدير ذكره أننا لا نرى متسولاً من الأرمن وهذا يعود للتكاتف والتعاون فيما بيننا، وهذا من ضمن سياستنا أن لا نترك عائلة محتاجة، عندنا جمعية تتكفل بالتعليم والصحة وكل ما يلزم العائلة الأرمنية المحتاجة، والمسؤولة تتوزع على الجماعة، ممنوع أن يبقى طفل أرمني من دون مدرسة، أو نراه يبيع العلكة أو أي شيء على الأرصفة والطرقات، الميسورون منا يساعدون الأطفال والمسنين، وقد علمنا أولادنا أن يساعدوا كأرمن بعضهم البعض، وهناك ثقة فيما بيننا، وحينما يطلب أحدنا خدمة لا ترفض، نحن ناكل ونطعم، العدالة موجودة فيما بيننا.

*أنت من الجيل الثالث، هل ترى أن الجيل الرابع سيحمل القضية بهذه الحرارة؟

بكل صراحة كلما بعدت الذكرى كلما بعد الجيل الجديد عن الاهتمام بها، خاصة الذين يعيشون في أوروبا أو بالخليج، ومع الجيل الخامس والسادس سينسى، لأنه يعايش عالماً يعاني المحن والمذابح والتشرد كما حصل فلسطين ويحصل في سوريا وغيرهما من دول عربية، إضافة إلى أنه لم يحس بجوع أن لجوء أو تشرد مثلنا، ولم يسمع من جدوده شهادات حية عن العذاب بعد اللجوء.

*برأيك هل هذا جيد؟

الأفضل أن يبقى أولادنا على علاقة بتاريخهم لا ينسون ماضي أهلهم، وفي ذات الوقت يسعون وبنجاح للمستقبل، مع أخذ العبرة من الماضي.

*ارمينيا اليوم جمهورية موجودة هل فكرت بالعودة إليها؟

لا.
*لماذا؟
لأن سكان أرمينيا لم يتعرضوا لأية مجزرة، الذين تعرضوا للمذبحة هم الأرمن الذين كانوا تحت الحكم العثماني. أفضل البقاء في لبنان كما أكثرية الأرمن اللبنانيين، ليس لأننا أسسنا أعمالنا، بل لأننا سعداء هنا، للأرمن في ارمينيا رؤية تختلف عن الأرمن في لبنان.

*كلمة أخيرة ماذا تقول للبنانيين وللعرب؟

علينا أن نحافظ على كل البيوت وكل المصالح، كلنا أخوة، أذا غرقت الباخرة يعني كلنا سنغرق وإذا تم إنقاذها كلنا سنصل إلى شاطئ السلامة. يجب أن نتعلم من التاريخ، الأزمات تجعلنا نخسر كلنا والتعاون ينحجنا كلنا.

فريال دبوق

مجلة “كواليس” اللبنانية، عدد خاص عن الذكرى الـ99 للإبادة الأرمنية

Share This