ليون زكي: راجعين يا حلب…!

أعتقد بأن سنتين من الاغتراب القسري تكفي لتجعل وظيفة قلبي تقتصر فقط على ضخ الدم في عروقي…

صور صغيرة في ملفاتي كفيلة بإبقاء حرارة الحياة في موتي البارد، هذا مبنى مؤسستي التجارية الجاثم عند الخاصرة الشمالية للمدينة قبل أن ينهب ويحرق ويدمر ويفقد روحه… من طوابقه المرتفعة كنت أستمتع برؤية أجمل مناطق حلب قبل ان ترقد في قيلولتها المعتمة… 40 سنة من الكد وشقاء العمر تحول إلى حطام وركام…

يسلب الهذيان ما تبقى من أفكاري، أحلق بين شوارع الشهباء في مساء صيفي مزدحم مفعم بالحيوية في منطقة المحلق وعلى الطريق الالتفافي المؤدي إلى بيتي…

أجمع ملاحظاتي، ألملم أوراقي، أتوجه لإلقاء محاضرة بقاعة مطرانية الأرمن، أنتظر طرح الأسئلة وتلقي رد فعل الحضور والإعلاميين… حتى يختفي الجميع في ظلام المكان…

الاغتراب جعلني بلا ذاكرة، بلا حاضر، أعيش مستقبلاً مبهماً… أراقب شاشة التلفزيون يومياً، أتصل بأصدقائي للاطمئنان عليهم من باب “الواجب” ليس إلا…

ألزم نفسي الجلوس على الدوام بإجتماعات المجالس مع رفاق العمر، نناقش الهموم الاجتماعية، ننظم الاجتماعات والفعاليات الثقافية والفنية… فرقة سارداراباد للرقص الفولكلوري تدق بأرجلها على المسرح… لكن بلا صوت أو موسيقى… صور الحضور جامدة ومن دون ابتسامة. الاكتئاب يدفعني إلى اللاجدوى واللاشعور واللا انتماء…

تسير ذاكرتي في شارع الشلال ونهر قويق، أمر بشوارع العزيزية، أراقب بعض المراهقين خارجين من نادي اليرموك الرياضي، أصل إلى باحة كنيسة أربعين شهيد، أنتقل إلى شوارع حلب القديمة، أدخل من باب خشبي قديم لقصر تحول إلى مطعم حلبي حيث جميع الرواد خاصتي… للسكون وقع خاص على المكان… والصور لم تعد ملونة، بيضاء وسوداء فقط…

أدخل باب انطاكيا صعوداً إلى فندق الكارلتون، الذي حولته تفجيرات الأنفاق إلى أطلال، أصعد تراسه لأطل على مقاهي الرصيف التي تضج بالحياة وعلى قلعة حلب التي تعجّ بالسهرات والحفلات والتفاصيل الجميلة المنمنمة.

ذات يوم خريفي وعلى طاولة المقهى، أرتشف قهوة الصباح وأشدو مع صوت فيروز الملائكي: “سنرجع يوماً إلى حينا ونغرق في دافئات المنى…”. تنخفض نبرة صوتي وينقطع تنفسي برهة وأصر على مواصلة الغناء: “سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا…”!

 

ملخص، معدل من مقال نشر في جريدة “الوطن” وموقع “تحت المجهر” بعنوان “نمنمات حلبية” بقلم ليون زكي

Share This