بعد مرور قرن على الحرب العالمية الاولى.. الأرمن ضمن الأقليات في العراق أكثر ارتباطا بالوطن

نشر د. رياض السندي مقالا بعنوان “بعد مرور قرن على الحرب العالمية الاولى.. الاقليات اكثر ارتباطا بالوطن” على موقع (Nala4u)، تناول فيه مصطلح الاقليات الذي ظهر بشدة في اعقاب الحرب العالمية الاولى وتنامي حركات التحرر القومي والمطالبة بالاستقلال اثر انهيار الامبراطوريات الكبرى ونتيجة لاعلان النقاط الاربع عشرة الذي اطلقه الرئيس الامريكي ويلسون عام 1918، ومنها حق تقرير المصير.

وبالتأكيد فقد كان للدول الاستعمارية دورا كبيرا في ذلك، وعلى راسها الامبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية وفرنسا، ثم التحقت بها الولايات المتحدة التي دخلت حديثا على ذلك الخط من خلال ذلك الاعلان الرئاسي، الذي حرّض قوميات كثيرة ضمن الدولة العثمانية للمطالبة بالتحرر من ربقة الدولة نتيجة للسياسات الخاطئة والقاسية التي انتهجها السلاطين تجاه رعاياها، فجرى قمعهم بدلا من احتضانهم.

وبات من المؤكد الان – وبعد مرور قرن على تلك الاحداث- ان الغاية الخفية من ذلك هو تقسيم الامبراطوريات الكبرى ومن بينها الامبراطورية العثمانية، واقامة دولة لليهود. ولاجل تحقيق ذلك، فقد بذلت الدول الاستعمارية وفي مقدمتها بريطانيا وعودا كثيرة لقوميات واقليات عديدة، لم يجري تنفيذ معظمها، كتلك الممنوحة للعرب اولا في نقل الخلافة الى العرب واقامة دولة عربية واحدة مستقلة. وهكذا نجد ان الشريف حسين قد اعلن ثورته في 10/6/1916 واعلن نفسه خليفة للمسلمين عام 1922.

وأكد الكاتب أنه منح الاكراد وعداً باقامة دولة كردية، فاعلن الشيخ محمود الحفيد ذلك ولقب نفسه بملك كوردستان عام 1919. وعلى غرار ذلك، فقد منح الأرمن والآشوريون وعدا بالاستقلال. وكانت نتيجة ذلك، ان دفعت تلك القوميات والاقليات تضحيات كبيرة وقاسية لتلك الوعود الجوفاء، فدفع الأرمن أكثر من نصف مليون ضحية، ودفع الأكراد مثلهم الآلاف من الضحايا، ودفع الآشوريون ستون الف ضحية من جراء نزوحهم من مناطقهم في تركيا وايران الى العراق .

والحقيقة التي لم يدركها الجميع انذاك، ولم يصغ لها الحكام حتى ضيعت دولا كبيرة من جرائها، الا وهي ان الاقليات يمكن ان تلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية لاي بلد رغم قلة عدد افرادها، لا بل ان تسييس مسألة الاقليات كانت من اولى سياسات الاستعمار بشقيه القديم والحديث، وان الاقليات التي تعودت على التضحية دوما لهي اكثر ارتباطا بالوطن من الاغلبية المنتفعة والتي غالبا ماترى انها صاحبة حق في الوطن بلا منازع، باستثناء من اتى ربه بقلب سليم كرئيس الوزراء الاسبق الخالد عبد المحسن السعدون، وان احتجاجات الاقليات كانت وما تزال بقصد تصحيح الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلدانها والتي كان بمقدور الحكام معالجتها بدلا من قمعها.

وان ردود افعال الحكام تجاه هذه الاقليات هو الذي رسم الخارطة السياسة لتلك الدولة مستقبلا. وقد راينا ان دولا عديدة قد انقسمت على نفسها من جراء سياساتها الخاطئة تجاه القوميات والاقليات التي كونت دولا جديدة. والامثلة على ذلك كثيرة, مثل الدولة العثمانية ويوغسلافيا والسودان, وبعضها على الطريق. وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى, نتائج تلك السياسات الخاطئة, فردود الافعال المتشنجة للدولة العثمانية تجاه الأرمن والآشوريين والأكراد قادت الى تقسيمها، فظهرت دولا جديدة كالعراق والحجاز وغيرها. وقد اوجدت الدول الاستعمارية سيناريوا خاصا لمثل هذه الحالات يتمثل في مراحل متلاحقة هي : تحريض الاقليات على المطالبة بالحقوق, ثم تشجيع دولة الاصل ودفعها الى الانتقام منهم, واخيرا اقتراح الاستفتاء، الذي ستكون نتائجه محسومة قطعا لصالح الانفصال.
وقال السندي أنه اثناء عمله لدى مكتب الامم المتحدة في جنيف اتيحت له الفرصة للاطلاع على ارشيف عصبة الامم. ولاهتمامه بتاريخ العراق فقد اطلع على كل الاف الوثائق المتعلقة بدولة العراق وظروف تاسيسها وقيامها. ومن خلال تصفحه لنتائج الاستفتاء في قضية الموصل وجدت بان ما يثير الانتباه, هو انطباعات القسوة التي مارستها الدولة العثمانية تجاه رعاياها من تلك الاقليات، ورسائلهم الى اللجنة  الاممية المشكلة حول مسالة الموصل تزخر بصور معاناتهم وعذاباتهم ومخاوفهم من عودة العثمانين لحكمهم. وهكذا فقد كان هاجس هذه الاقليات هو الخشية من العودة الى الخضوع لحكم الاتراك ثانية, لا بل ان معظمها تشترط البقاء تحت حماية البريطانيين حتى في ظل حكم عربي.

وهكذا فقد ايدت الانفصال عن الدولة العثمانية كل تلك الاقليات من العرب الأرمن والاشوريين والاكراد وحتى اليهود. والجميع يدور ضمن خطة استعمارية بعيدة المدى. الآ انهم سرعان ما ادركوا ان الاستعمار لم يأت لسواد عيونهم, بعد ان تنصل لوعوده لهم، وهكذا نجد ان الاشوريين ظلوا يرددون عبارة ( الخيانة البريطانية للاشوريين). وظهر الجيل التالي من العرب وهو يحمل كره خاص للبريطانيين تمثل في الملك غازي واتباعه, وادرك  الاكراد ان البريطانيين لن يحققوا احلامهم  ولن يفوا بوعودهم لهم فانطلقوا يبحثون عن نصير اصدق وأوفى .

وهكذا، فقد نجد انه وبمجرد ان قامت دولة حديثة على انقاض الدولة العثمانية حتى سارعت جميع تلك القوميات والاقليات – دون استثناء – الى ان تشمر عن سواعد الجد لبناء الوطن مفعمين بروح المواطنة الصادقة, التي غابت عن الاغلبية.

وهكذا نجد ان مسيحيو العراق اول من اسرع لبناء الوطن على الرغم من انهم كانوا ضحية التاريخ دوما وحملوا في اعناقهم ذنوب الاخرين. فكان الاب انستاس الكرملي حامي حمى اللغة العربية وحامل لواءها، ومجلته (لغة العرب) اشهر مجلة قبل تاسيس دولة العراق ومابعدها. ويكفي ان نذكر بان اول وزير صحة عراقي هو الدكتور حنا افندي خياط ، الذي استوزرفي الوزارة النقيبية الثانية في 12/أيلول 1921. وكذلك الصحفي روفائيل بطي صاحب جريدة البلاد والنائب عن اليصرة في البرلمان العراقي.

وكذلك السياسي يوسف غنيمة النائب في البرلمان العراقي, ومريم نرمة اول صحفية عراقية وصاحبة جريدة (فتاة العرب) 1937، التي وقفت موقفا شجاعا من السفارة البريطانية في بغداد عندما رفضت ان تكون منبرا لهم وفضلت الخسارة المالية واغلقت صحيفتها ودفعت ثمنا لموقفها الوطني  من الاستعمار البريطاني بعد ان رفضت اغرائها بالمال. وبولينا حسون التي اصدرت اول مجلة نسوية عراقية هي (ليلى) عام 1923، وهي رائدة الصحافة النسائية العراقية، والتي اضطهدت كثيرا, فتركت العراق وذهبت الى الاردن. والى جانب هولاء كان هناك العديد من المفكرين والاطباء والمهندسين والمحامين والشعراء والفنانين ويكاد لا يخلو اي مجال من مجالات الحياة من هذه الاقليات وانجازاتها.

وكانت احدى العوائل المسيحية المعروفة في الموصل  (عائلة سرسم) تقتخر بانها قد انجبت اكثر من مئة طبيب لدولة العراق. وقد  جمع سهيل قاشا في كتابه مسيحيو العراق لعام 2009 الكثير من تلك الانجازات والمساهمات القيمة.

وعلى غرار ذلك، نجد ايضا اخلاص يهود العراق للمملكة العراقية الحديثة, حيث لعب ابناء الطائفة اليهودية دورا مهما في عملية الاعداد لتأسيس  الدولة العراقية الحديثة في العام 1921, فقد كانوا من الطبقات المتعلمة والمثقفة في العراق انذاك ….

وبعد الاحتلال الامريكي في عام 2003, فان الاقليات العراقية من المسيحيين والصائبة واليزيدية قد دفعت ثمنا باهضا وصل الى حد تفجير الكنائس وقتل رجال الدين، مما دفع الكثير منهم الى الهجرة خارج العراق, مما اثار مخاوف انهاء وجودهم في ارض الرافدين.
وبعد مرور قرن كامل على قيام الحرب العالمية الاولى, فقد اثبتت الاقليات بانها اكثر ارتباطا بالوطن بعد الدرس القاسي الذي تلقته, حيث نجد ان الاقليات قد وعت الدرس جيدا وادركت تماما بان وجودها مستهدف, وان الدول الغربية – ومهما اختلفت الحجج والدوافع – فانها تسعى لافراغ الشرق الاوسط من الاقليات.

وأشار السندي أن الكنيسة في العراق بدأت تدعو اتباعها الى التمسك بالارض والوطن. ويتساءل إن كان سينجح هذا الدواء في وقف هذا النزيف المستمر. مؤكداً أن الغرب يدرك ذلك جيدا, لذا نجده يسعى الى تشجيع الهجرة الى الخارج، مما يعرّض هذه الاقليات للذوبان في تلك المجتمعات الكبيرة والتشتت في دول العالم المختلفة والمتباعدة.

Share This