قصة «الأرمنية الصغيرة» للقاص نديم عبد الهادي*

يعمل محمود العسّال، وهو شاب طويل، قوي البنية، أسمر البشرة، أخضر العينين، على سيارة أجرة عمومية، بين وسط البلد والأشرفية، ويحفظ رواد الخط واحدا واحدا. ورواد الخط أيضا يعرفونه جيدا، ويتناقلون قصصه على أنه أغرب سائق في المنطقة.

كانت له طريقة خاصة في التعارف، فهو يمد يده بالمتبقي من الأجرة، حريصا على أن يظهر اسمه المكتوب بالحديد المحمى: م ح م و د، واضحا فوق زنده الأيمن المُحمّر. وعندما يُرجع الباقي ثلاثة قروش ثلاثة قروش لكل راكب، على غير عادة السائقين الآخرين، يرجعه وكأنه يقول: «يا سيدي، خذ قروشك، والزم آداب ركوب سيارتي!».

وقد خطّ محمود العسال آداب الركوب واضحة بالأسود فوق لوحة بلاستيكية بيضاء، وعلّق اللوحة على المرآة الأمامية ليتمكن الجميع من رؤيتها:

أغلق الباب بهدوء.

ألق السلام.

حدد مكان نزولك عند دفع الأجرة.

تكلم بصوت منخفض!

ومن وراء اللوحة، عبر الزجاج الأمامي النظيف للسيارة، يمتد شارع تجاري ضيق، مثل سوار مطاطي مشقق يحيط بقاعدة الجبل، وتصطف على جانبيه محلات صغيرة لبيع الثياب والأدوات الكهربائية والأجهزة الإلكترونية والأحذية المستعملة، وتتفرع منه شوارع منحنية تهبط إلى شارع سقف السيل الشهير ببسطاته، وتجاره، ورواده، والذي يمور بازدحام السيارت، وتأرجح الأكياس، ورفرفة الأقمشة والثياب، وزهزهة الألوان في الزجاجات الرملية، والتماع النحاس، ويغلب عليه الرجال والأمّهات، والفصال والشراء والبيع، ويظهر فيه لصوص يبيعون مسروقاتهم، ومشردون، وزعران، وتظل سيارة محمود العمومية أغرب حيّز محميّ بلوحة آداب الركوب في هذا المكان.

ظهرت الصبية الصغيرة ذات الكتفين اللبنيين فجأة على الخط. مع الغروب تصل قادمة من جهة سقف السيل سيرا على قدميها، فتقف في الدور، ثم تركب إحدى السيارات، وتنزل عند دكانة البشارة، التي يقوم عليها الأرمني أبو كيفورك. تابعها محمود العسال أكثر من مرة بعد نزولها من سيارته وهي تهبط الدرج الإسمنتي الذي تقوم على جنباته أشجار الياسمين والأسكادينيا وبيوت الأرمن المطلة على مجرى السيل القديم.

وكان يحنقه أنه لا يعرف قصة هذه الفتاة. وهو الخبير بأهل الجبل. لا يعرف أهلها ولا أقاربها. وكان يشعر كأن كرسيه الأثير خلف مقود السيارة قد اتصل بنظام تدفئة كلما لاحظ النظرات الجائعة تلاحق الصبية، وتتمكن منه نار حامية، ويغلي دمه ويفور.

كانت صبية ضئيلة الجسم، هزيلة، واضحة القسمات، أنيقة دائما، متزيّنة، متعطّرة، شعرها البني الناعم ينسدل على كتفيها ولا يغطيهما تماما، وأصابعها الطويلة الرقيقة تمسك دائما بحقيبة جلدية ناعمة. ولا تنظر إلا باتجاه واحد. إذا ركبت بجوار النافذة تنظر باتجاه الشارع. ولو ساقها حظها العاثر إلى كرسي في وسط السيارة كانت تسدد نظرها نحو حقيبتها. وتنكمش على نفسها لتشغل أضيق حيز ممكن. آنئذ يراقب محمود العسال انكماشها وانفرادها عبر مرآة السيارة، بينما يشتد عليه الغيظ.

وذات يوم قدمت الأرمنية الصغيرة على عادتها، فرماها دورها إلى سيارة محمود. كان ذلك في نهايات فصل الخريف. وقد بدأ النهار يقصر. وهي في موعد عودتها الطبيعي من عملها الذي يتمنى لو يعرفه محمود. وجاء مقعدها بجوار المنجّد الذي يعمل قريبا من موقف السيارات. بجوار النافذة الخلفية جلست، ووضعت حقيبتها بينها وبين المنجد المستعد لأن يتوسع في الحيز الذي يشغله جسده العريض. وكان محمود يعرف جيدا سلوك هذا المنجّد المشين كلما ركبت بجواره فتاة.

بدأ يومها الأمر بمحمود وهو يضرب المِقوَد بقبضته في إيقاع غاضب. قال المنجد: « تحرك لو سمحت. السيارة امتلأت.» لكن محمود ظل ينظر في المرآة نحو الأرمنية الصغيرة، وكانت مثل صوص منتوف تلتصق بالباب. فقال بهدوء كاذب: «السيارة تعطلت يا إخوان. انزلوا واركبوا السيارة التي خلفي». نزلت الأرمنية فورا، وركبت المقعد الأمامي من السيارة الجديدة. وبعد أن نزل المنجد ورأى صيده الثمين قد فر، عاد لمحمود وقال: «السيارة ممتازة. ما الذي تعطل فيها؟» فنزل محمود من السيارة، وقد شمر عن ساعده، الذي كان مغطى بكم القميص، لأن هواء الخريف أصبح باردا. رفع كمه حتى برز اسمه المكتوب بالنار جيدا، وتوجه نحو صندوق السيارة الخلفي. بدأ سائقو السيارات العمومية الآخرون يتجمعون حول محمود ليعرفوا ما دفعه للتخلي عن دوره في التحميل. وتجمع الناس على تجمع السائقين. وكان محمود صامتا والمنجّد أيضا. لكن برقا كان يلمع من التقاء الضدين. سحب محمود مفك العجلات الحديدي. واتجه نحو المنجد قائلا: « انفجر العجل. انظر إليه جيدا.» ووضع يدا فوق كتف المنجد، وأشار بأخرى صوب العجل السليم، ثم تابع: « هل تساعدني في إصلاحه؟» وضحك المارة، ولم يتذمر سائقو الخط من محمود الذي يغلق الطريق بسيارته لأن الحوار راقهم. قال محمود مرة أخرى وهو يلوح بالمفك: «هل تساعدني؟» فقال المنجد بصوت متخاذل: «اعذرني فأنا مستعجل»، ثم استدار وذهب في طريقه، وركب السيارة التي تلي سيارة الفتاة الأرمنية.

يؤرخ ركاب الخط بهذه الحادثة للظهور المفاجئ في اليوم التالي للوحة آداب الركوب الجديدة في سيارة محمود العسال. فقد أضاف عبارة «الزم حدود مقعدك» إلى اللوحة، وكتبها بالخط الأحمر، تاركا بقية الآداب بالخط الأسود، فوق اللوح البلاستيكي المتدلي من المرآة الأمامية. ثم زين اللوحة بالآية القرآنية الكريمة رقم 19 من سورة لقمان. لتصبح اللوحة هكذا:

اغلق الباب بهدوء.

ألق السلام.

حدد مكان نزولك عند دفع الأجرة.

الزم حدود مقعدك!

واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير!

مع حلول الشتاء، اختفت الفتاة الأرمنية. فقد صار النهار لا يطلع حتى يجره الليل بعيدا. وخيمت العتمة في الزوايا، وعلى الطرقات، ولم يعد الخط آمنا للأرمنية الصغيرة التي تركت في نفس محمود العسال ندبا على هيئة تساؤل: «ترى قرأَت اسمي المكتوب بالنار فوق زندي؟ أم أنها في هروبها المستمر مما يحيط بها، كانت تدفع الأجرة دون أن تنظر نحو ساعدي المفرود حتى تراه؟!» وظل السؤال مفتوحا لا يلتئم، فقد اختفت الأرمنية الصغيرة نهائيا بعد فصل الشتاء، وكأنها انتقلت مع أهلها إلى حي آخر. وفكر محمود بأنها محقة، فلم تعد الأشرفية بالمكان الملائم، لكنه أراد أن يعرف، ولم يعرف، ماذا كانت تحمل تلك الأرمنية الصغيرة فوق كتفيها اللبنيين من أثقال خفية خلال ذهابها والمجيء؟

وهل قرأت اسمه فوق زنده؟

هل قرأت اسمه المكتوب بالنار فوق زنده؟!

*كاتب أردني، فلسطيني الأصل.

Share This