قدر فينيقيا وأرمينيا المشترك

بقلم  ريشار قيومجيان

لم يكن من باب الصدفة أن يتخذ الأرمن من لبنان مركزاً روحياً ثانياً لهم بعد إشميادزين في أرمينيا. فمن بين الدول والأوطان التي احتضنت الدياسبورا الأرمنية أو “سبيُورك”، يشكل لبنان حالة خاصة وإستثنائية.  بدوره، يشكل الحضور الأرمني في لبنان علامة فارقة، تتجلى بالدور الفاعل والمميّز الذي يضطلع به المواطنون اللبنانيون من أصل أرمني على كل الصعد الوطنية – السياسية، والروحية – الثقافية والإقتصادية – المهنية.

حقيقة هي قصة عشق الحرية وكرامة الإنسان – الفرد وحقوق الجماعة، التي تجمع الأرمن مع إخوتهم أبناء الطوائف اللبنانية الأخرى. هي قضية وجود وإيمان، تضرب في عمق التاريخ لتستلهم مزيداً من الثبات في الحق والدفاع عن رسالة لبنان الحضارية في هذا المشرق المعذَّب.

إننا جميعاً أبناء قضية واحدة وقدر تاريخي مشترك. هو قدر فينيقيا وأرمينيا أن تكونا مهداً للحضارة الإنسانية الجامعة وأن تلعبا دوراً عالمياً قبل “العولمة” بأكثر من ألفي سنة. عرفت المملكة الأرمنية ذروة مجدها في القرن الأول ق.م. فبعد أن امتدت حدودها من بحر قزوين شرقاً الى البحر المتوسط غرباً لتشمل منطقة القوقاز وشرق تركيا الحالية وأجزاء من بلاد ما بين النهرين وسوريا ولبنان، عادت لتتقلص وتشكّل دولة عازلة buffer state بين الامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية، ولتكون في حينه عامل استقرار وتوازن في العلاقات الدولية بين الشرق والغرب.

لم يكن دور مدن فينيقيا أقل شأناً وفعلاً في التاريخ، هي التي أمّنت التواصل اللغوي والحضاري والتجاري بين شعوب حوض البحر المتوسط وصولاً الى عمق أوروبا عبر ابتكارها وتصديرها الحرف وسيطرتها على حركة الملاحة البحرية وخطوط التجارة العالمية. لكلا “الكيانين” أكثر من قصة مع التضحية بالذات حتى الاستشهاد. فبعد واقعة حرق صور نفسها تفاديا للذل والعار أمام الإسكندر، وبعد أن سقطت قرطاجة أكبر المدن-المستعمرات الفينيقية وأجملها ضحية لحقد روما وطمعها وحسدها، انتظرت أرمينيا ألفي سنة لتقدم كيليكيا ومعها كل الأجزاء الغربية من أراضيها التاريخية، شهيدة حية صارخة في وجه الحقد الديني والتعصب القومي والتطهير العرقي.

عرف الشعبان اللبناني والأرمني معاناة مشتركة ومساراً متقارباً من الإضطهاد على يد غزاة القرون الغابرة، من الأشوريين والفرس واليونان والرومان والعرب والمماليك وصولا الى الأتراك العثمانيين. ولدت قضية إيمان الشعب الأرمني والتزامه الرسالة المسيحية الحقة، في قعر بئر على سفح جبل آرارات العظيم مع القديس غريغوار المنوِّر، فغدت أرمينيا أول مملكة في التاريخ تعتنق المسيحية وتعتمدها ديناً رسمياً لها في العام 301 م.

يفاخر الأرمن بأن غالبية رموزهم الوطنية والقومية هم كهنة وقديسون: من الراهبتين الشهيدتين هريبسيمي وغاياني، الى مسروب ماشتوتس مبتكر الأبجدية الأرمنية ورافع شأنها الأدبي، الى فارطان القائد العسكري المدافع عن الإيمان والوجود، الى غريغوار دي ناريك اللاهوتي والفيلسوف، الى كوميتاس فاردابيت حافظ الإرث الموسيقي الديني والشعبي، وصولاً الى الطوباوي إغناطيوس مالويان أسقف ماردين الذي قضى شهيداً مع كهنته ورعيته العام 1915.

من منفاه في أرمينيا سنة 405م، دعا أسقف القسطنطينية يوحنا فم الذهب القديس مارون الناسك لإرسال تلاميذه الى جبال لبنان ليبشروا بالمسيح عمانوئيل. رسالة الإيمان هذه، أصبحت قضية كيان وأمة مع القديس يوحنا مارون في أواخر القرن السابع. وبعد قرون من المعاناة والصمود ومقاومة الإضطهاد في الجبال والأودية والمغاور، زرع الموارنة والدروز بذور الوطن- الأمة فتحوّلت أرض لبنان  بمعالمها الجغرافية والدينية والإنسانية  مساحة حرية وحصناً منيعاً للعيش الكريم يحتضن كل الأقليات والمذاهب.

إن ما تعنيه لنا “آني” أو مدينة الألف كنيسة وكنيسة و”أختمار” على بحيرة فان و”خور فيراب”، يوازي تماماً ما ترمز اليه قنوبين وإيليج وكفرحي والبلمند وعين تراز والشرفة وبكركي وحريصا بالنسبة لإخوتنا المسيحيين الآخرين وبالنسبة لنا أيضاً. لم يكن وجود بطريركية أرمنية كاثوليكية في بزمار منذ العام 1749 لسبب تبشيري وعقائدي فحسب، ولا إتّخذ البطاركة من انطلياس مقراً لكاثوليكوسية الكنيسة الأرمنية الرسولية لحسن موقعها، بل لأن أجدادنا وآباءنا المضطهدين، وجدوا في لبنان ملاذاً آمناً لحرية العيش والمعتقد والرأي. استقبلهم لبنان دون قيد أو شرط، بلا منّة أو حساب. أكلوا من خبزه فأعطوه من عرقهم وتعبهم ومثابرتهم. أعطاهم المسكن والأمان فبادلوه المساهمة الفاعلة في الإنتاج والبناء والتطور. منحهم كل الحقوق فأمسوا شركاء كاملين في المواطنية يدينون للبنان الوطن والدولة بالولاء الكامل.

هكذا نفهم لبنان، أرضاً طيبة مفعمة بعطر الشهداء وبخور القديسين. قدر الوطن الصغير أن يكون أرض ميعاد لكل مؤمن بقضية الحرية والإنسان في هذا الشرق، مسلماً كان أم مسيحياً أم ملحداً؛ أرض بشارة وتفاعل وحوار، إئتمنها الله على إرث عظيم وحّد الأرض باللاهوت، وربط العيش بالقيم الروحية السمحاء، وجسّد رسالة الوطن بغائية وجود الفرد-المواطن.
لقد آن الأوان لوضع النقاط على حروف بعض المفاهيم والمصطلحات:

– الأرمن في لبنان ليسوا جالية ولا تابعية. هم مواطنون لبنانيون من أصل أرمني، يفتخرون بهذا الأصل وهو مدعاة عزّة وكرامة.

– لبنان وطن نهائي. نحبّه بشغف ونتمسك به عن اقتناع وإيمان وإدراك، ونبذل الغالي والنفيس دفاعا عن وجوده وذوداً عن حريته وسيادته واستقلاله.

– ثمة رابط روحي وجداني قومي تاريخي يجمع الأرمن قاطبة، ويطبع اللبنانيين الأرمن بخصوصية فريدة لا تتناقض مع انتمائهم وتعلقهم بلبنان.

– قضية الإبادة الجماعية التي ارتكبتها السلطنة العثمانية وحكّام “تركيا الفتاة” بحق الأرمن العام 1915 هي الوجه الآخر لما ارتكبه العثمانيون من فظائع وتعسف وتجويع بحق اللبنانيين خلال أربعة قرون من الإحتلال. إن قضية اعتراف السلطات التركية الحالية بما حصل من مجازر في تلك الحقبة والتعويض عن الخسائر البشرية والمادية والإقرار بإحتلال أراضي الأرمن التاريخية ، إنما تعني كل اللبنانيين من حيث انها قضية حق دولي وقضية إنسانية تاريخية مبدئية يفتح حلّها الآفاق على مزيد من التعاون والإنفتاح والتسامح في المنطقة.
– إندماج الأرمن في المجتمع “اللبناني” هو تطور تاريخي طبيعي، بات أمرا واقعا اليوم ويتجلى بالدور الذي تلعبه النخب الأرمنية كما عامة الشعب على كل الصعد السياسية والإقتصادية والصناعية والإعلامية والفنية والأكاديمية.

– الحفاظ على اللغة هو جزء من الحفاظ على الهوية والتراث والذاكرة الجماعية. اللغة الأرمنية، كما السريانية واليونانية واللاتينية، باتت جزءاً من مكونات الإرث الثقافي اللبناني. نريدها عامل إنفتاح وتواصل وتبادل لا سبب إنغلاق وتقوقع.

– دور الأرمن السياسي التاريخي كان على الدوام صمام أمان الوحدة الوطنية اللبنانية. كانوا في أساس مشروع بناء الدولة وبسط سلطتها على أراضيها دون سواها. راهنوا على الشرعية فرفضوا السلاح غير الشرعي ووقفوا دائماً الى جانب رئاسة الجمهورية والجيش وباقي المؤسسات. إبتعدوا عن الإصطفافات الحادة والتحالفات الخارجية وكانوا عامل تقارب وانسجام واعتدال. رفضوا الذميّة السياسية ودفعوا الثمن باهظا في ما مضى لا ليعودوا اليها اليوم بشكل مستتر. هذا هو الخط التاريخي الذي أتمنى أن يعودوا إليه والذي شكّل دائماً حاجة لبنانية حيوية. يحق لكل فرد منهم ولكل حزب أو فريق أن يتبنى الخيار أو البرنامج السياسي الذي يراه ملائما لمصلحة لبنان العليا، وأن ينسج التحالفات المناسبة لتحقيق ذلك. بيد أن الواقع يفرض عليهم اليوم تظهير موقفهم السياسي باستقلالية تامة وإرادة ذاتية، فلا تبعية لهذا أو ذاك ولا مصالح خاصة ولا مصادرة للقرار. حسبنا أن نكون السبّاقين في تطوير الذهنية السياسية اللبنانية في اتجاه ممارسة ديموقراطية عصرية متطورة واعتراف بالتنوّع داخل الطائفة نفسها والوطن بشكل عام.

مصدر المقال: www.annahar.com

Share This