الحفاظ على «الرجل المريض» وإنعاشه

سركيس بورنسسيان

في يوم 24 نيسان 1877 أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية والسبب المباشر لقيام الحرب كان استمرار المجازر في بلغاريا، وتعد هذه الحرب الروسية العثمانية الثانية عشرة. وقامت العمليات الحربية على جبهتين الأولى أوروبية والثانية آسيوية، فعلى الجبهة الأوروبية تقدمت القوات الروسية بقيادة الجنرال شرناييف والجنرال سكوبولييف واجتازت نهر الدانوب حتى وصلت إلى بلدة سان استفانو التي تبعد 16 كم عن مدينة استانبول، أما على الجبهة الآسيوية فقد احتلت القوات الروسية بقيادة الجنرال لوريس مليكوف اقاليم قارس باطوم اردهان واولطي والاشكيرد وبايازيد حتى وصلت إلى ارضروم التي تعد قلب الاناضول من جهة الشرق.

في يوم 3 اذار1878 عقدت معاهدة صلح سان استيفانو بين الدولتين الروسية والعثمانية التي تضمنت اعترافا من الدولة العثمانية بالاستقلال السياسي التام لرومانيا والصرب والجبل الأسود، والاستقلال الذاتي الداخلي لبلغاريا مع توسيع حدودها. وتضمنت المادة 19/2 ضم روسيا لجزء من أرمينيا الغربية تحوي أقاليم اردهان وارتفين وباطوم وقارس اولطي وقاغزوان وبايازيد والاشكيرد من أملاك الدولة العثمانية، وإعادة روسيا إلى الدولة العثمانية إقليم ارضروم بارمينيا الغربية التي كانت قد احتلته، كما تضمنت المادة 16 من هذه المعاهدة بتعهد الباب العالي بإجراء إصلاحات داخلية حسب الاحتياجات المحلية للسكان في ارمنستان وحمايتهم من اعتداءات الأكراد والجراكس وحسب هذه المعاهدة المادة 16 كان انسحاب الروسي يقترن بتحقيق الإصلاحات الحقيقية في أرمينيا الغربية فالانسحاب العسكري الروسي منوط بإجراء الإصلاحات في الأقاليم الارمنية.

و نتيجة لفرض روسيا على الدولة العثمانية معاهدة سان استيفانو اختل التوازن الدولي نتيجة للهزيمة العثمانية، فسرعان ما تداعت الدول الأوروبية إلى عقد مؤتمر في برلين وذلك بهدف إعادة صياغة معاهدة سان استفانو وبث الروح في الرجل المريض (الدولة العثمانية) وإبقاء السيطرة العثمانية على استنبول والمضائق وبالتالي منع تحقيق الحلم الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة. عقد مؤتمر برلين في الفترة الواقعة بين 13 حزيران حتى 13 تموز 1878. ولقد ترأس المؤتمر مستشار ألمانيا اوتوفون بسمارك وحاول موازنة أطماع كل من بريطانيا، النمسا/ المجر، وروسيا في الدولة العثمانية، وكان ظهور ألمانيا على مسرح الأحداث الأوروبية والعالمية وتحقيق الوحدة الألمانية (بقيادة بسمارك) على حساب النمسا وفرنسا، قد احدث شرخا في المبدأ الذي ظلت بريطانيا تدافع عنه وهو (التوازن الدولي) بحيث بدا اختلال التوازن داخل أوروبا لمصلحة القوة الجديدة الناشئة وهي ألمانيا، واتفقت كل القوى المؤثرة على مسرح السياسة العالمية آنذاك على مبدأ الحفاظ على الرجل المريض. ولقد حضر المؤتمر كل من وفود بريطانيا وروسيا وألمانيا والنمسا/المجر، فرنسا ايطاليا والدولة العثمانية ورومانيا ووفد يمثل الأرمن العثمانيين ولم يسمح لهذا الوفد بحضور المؤتمر بصفة رسمية، وبالنتيجة أعيدت صياغة معاهدة سان استفانو بحيث تم ضم البوسنة والهرسك للنمسا، وتم التأكيد على استقلال الصرب والجبل الأسود ورومانيا، وتم ضمان حرية الملاحة الدولية في الدانوب، وتم إعلان استقلال بلغاريا بعد تقليص حدودها كإمارة مستقلة تحت السيادة الاسمية للسلطان العثماني بحيث يكون لها حكومة خاصة وجيش وطني خاص.

أما فيما يتعلق بالمادة 16 من معاهدة سان استيفانو فقد عدلت واستعيض عنها بالمادة61 التي تتضمن أن الجيوش الروسية سوف تنسحب فوراً من المناطق التي احتلتها في الأناضول عدا اقاليم قارس اردهان، باطوم التي تنازل عنها السلطان العثماني إلى روسيا، وكذلك يتعهد السلطان العثماني في المادة61 تحقيق الإصلاحات الضرورية في الأقاليم الارمنية (ارمنستان) بأن يرفع السلطان بنفسه تقريرا عن الإصلاحات التي سوف يجريها للدول الأوروبية الست مجتمعة وبشكل دوري، وبذلك تحولت الإصلاحات التي تعهد بتنفيذها الباب العالي في المادة 16 من معاهدة سان استيفانو إلى مجرد وعد أو تعهد بالإصلاحات تجاه الدول الأوروبية مجتمعة والمعروف أن (كل ما هو مهمة الجميع هو مهمة لا أحد).

وكمحصلة تقاسم الحضور الغنائم بطريقة أو بأخرى، فبريطانيا أخذت جزيرة قبرص كعربون عن دعمها للدولة العثمانية وإرسال أسطولها للضغط على الجيش الروسي، أما النمسا فقد أعطيت لها الحق في إدارة البوسنة والهرسك، أما ألمانيا فقد استحوذت على امتياز خط السكة الحديدية المعروف بخط برلين بغداد، وأما فرنسا فقد وعدت بامتيازات واستثمارات مالية في الأناضول، ووعدت ايطاليا باحتلال ليبيا لاحقا، أما روسيا فقد اكتفت بحقها في القوقاز إضافة إلى شريحة أرض في صربيا.

أما الخاسر الأكبر فكان الشعب الارمني فقد أثر المؤتمر على القضية الأرمنية فحولها من قضية داخلية عثمانية إلى قضية دولية ولعل الخطـأ الذي ارتكبه الارمن هو تطلعهم إلى القوى الغربية الأوروبية لتحقيق مصالحهم في حين أن هذه القوى كانت مهتمة أكثر بمصالحها الذاتية التي يضمنها السلطان العثماني ودولته الضعيفة، كما أن هذه الدول لم تكن جادة بإثارة موضوع الإصلاحات إنما كانوا يستغلون هذه الإصلاحات كورقة ضغط وتهويل على الجانب العثماني، ففي عام 1881 نصح غلادستون البريطاني بسمارك بعدم إثارة موضوع الإصلاحات في ارمينيا وذلك لكي لا تثار مثل هذه الإصلاحات في إقليم الالزاس واللورين في ألمانيا، وكذلك كانت بريطانيا تستميل كلاً من الدولة العثمانية والمانيا لعدم معارضتها في مصر، وكذلك كانت فرنسا تستميل الدولة العثمانية لعدم معارضتها بتدخلها في تونس لاحقا.

اما على صعيد الحياة السياسية للشعب الارمني فقد كانت مقررات مؤتمر برلين السلبية والتخلي عن المطالب الارمنية بمنزلة شرارة لبعث نهضة ارمنية شاملة، فاثر عودة الوفد الارمني من برلين صرح رئيس الوفد الارمني المطران خريميان هايريك قوله المشهور: كانت ملاعق الجميع من معدن، اما ملعقتي فكانت من ورق، إذا شئتم أن تأكلوا فما عليكم إلا أن تتسلحوا. وسرعان ما تشكلت جمعيات ثقافية ومن ثم أحزاب ثورية في كل ارمينيا العثمانية، إلا أن نور هذه النهضة لم تستطع أن تطفئ سواد نيران أشعلت من الطبقة السياسية العثمانية، هذه النيران سوف تلتهم كل ما هو ارمني بوساطة جريمة إبادة جنس بشري وتطهير عرقي منظم بدأ عام 1890 واستمر حتى 1923.

وبالنتيجة لم يبق ذكر لأي ارمني في بلاد عاش فيها الارمن لأكثر من 3000 عام، والمادة 61 من معاهدة برلين لم يعد لها داع ولم تعد موجودة كما صرح طلعت باشا للسفير الألماني في استنبول عام 1916 لأنه لم يبق أي أثر للجنس الارمني في تركيا، والنصيب الحقيقي والواقعي للأرمن من معاهدة برلين كان جريمة إبادة جنس بشري أدت إلى قتل مليون ونصف مليون ارمني واقتلاع ما تبقى من الأرمن من وطنهم التاريخي.

وبعد مؤتمر برلين استطاعت الإمبراطورية العثمانية أن تحيا لأكثر من 40 عاماً بعد هزيمتها المذلة عام 1877 وذلك من خلال اللعب على التناقضات السياسية الأوروبية، واستطاعت أن تحافظ على بقائها بفضل تضارب مصالح الدول العظمى وليس بفضل قوتها الذاتية.

وكان الوارثون المتنافسون على ارث الرجل المريض (الدولة العثمانية) من القوة والعدد بحيث لم يجرؤ وارث واحد فقط بمفرده أن يلجا إلى القوة لأخذ نصيبه من الميراث.

هكذا استقر رأي الوارثين على أن يحل الوئام والتفاهم بينهم حول نصيب كل منهم، واستمرت حالة التعايش بينهم إلى أن انتهت عام 1914 باندلاع الحرب العالمية الأولى واقتسموا تركة الرجل المريض بمعاهدة سلام. إنه سلام لم تشهد المنطقة من بعده أي سلام.

الوطن السورية

Share This