شعر أرمني … عودة كلكامِش للشاعر الأرمني هِنريك إتويان

الشاعر هِنريك إتويان

ولد الشاعر والمترجم والباحث الأرمني الكبير هِنريك إتويان في العام 1940 في عاصمة أرمينية يريفان. بعد تلقي تعليمه الثانوي التحق بالجيش وخدم فيه إلى العام 1962، حيث دخل جامعة يريفان وتخصَّص في الدراسات الأرمنية، ومن ثم أكمل دراسته العليا في معهد مكسيم غوركي للآداب العالمية في موسكو وبعد تخرجه منه عاد إلى يريفان وباشر في التدريس في جامعتها.

منذ العام 1986 يشغل منصب رئيس كلية الآداب العالمية في جامعة يريفان، وفي العام 1990 حصل على درجة الدكتوراة في الآداب.

من دواوينه العديدة نذكر: “الآن وإلى الأبد”، 1986 – “خطوات وظلال”، 1996 – “ثلاثة أيام بلا زمن”، 2005 – “حياتان”، 2006 – “توقَّف، أنا هنا”، 2012.

له العديد من المقالات والدراسات عن قضايا الأدبَين القديم والحديث، وكذلك في مجال اختصاصه آداب وميثولوجيا الشرق القديم (سورية، مصر، إيران، الهند).

عمل في الترجمة أيضاً، ونذكر من ترجماته كتابه القيِّم “شعر الشرق القديم” (1982) و”مصر القديمة: كتاب الأموات، الشعر” (2004).

تُرجمت قصائد إتويان إلى العديد من لغات العالم كالأنكليزية والفرنسية والألمانية والايطالية والاسبانية والبولونية إلى آخره.

في العام 2013 مُنح جائزة رئيس الجمهورية للآداب في جمهورية أرمينيا.

* * *

إن هذه القصيدة الجميلة التي نقدِّم ترجمتها إلى القارئ العربي كتبها إتويان من وحي “ملحمة كلكامِش” الشهيرة التي تعتبر من أهم الكنوز الأدبية في العالم القديم، ولكي يدخل القارئ إلى الجو العام للقصيدة نعطي هنا لمحة عن هذه الملحمة التي تعتبر أقدم ملحمة معروفة في العالم.

ملحمة كلكامِش: وجدت الملحمة مكتوبة على اثني عشر لوحاً باللغة الأكادية في نينوى وكانت بداية تروى شفوياً قبل اختراع الكتابة ومن ثمَّ دوَّنها السومريون.

في اللوح الأول هناك مدح لكلكامِش (الذي يُعتقد بأنَّه حكم أوروك – الوركاء في جنوب العراق في النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد) الذي كان نصفه إنسان ونصفه إله، وهو العارف بكل شئ على اليابسة وعلى البحر، وهو كذلك المحارب العظيم والباني الكبير، لكنه كان حاكماً قاسياً على ما يبدو، ولذلك خلق الإله (آنو) إنكيدو الذي كان إنساناً بدائياً عاش مع الحيوانات ومن ثمَّ غادر إلى أوروك للقاء كلكامِش الذي كان بانتظاره، ويصف لنا اللوح الثاني الصراع بين كلكامِش وإنكيدو، حيث انتصر فيه كلكامِش وأصبح إنكيدو صديقه ورفيقه.

في الألواح الثالث والرابع والخامس خرج الصديقان لمقابلة حارس غابة الأرز، وفي اللوح السادس يرفض كلكامِش عرضاً للزواج من عشتار آلهة الحب، وبمساعدة إنكيدو يقتل الثور السماوي الذي أرسلته عشتار كي يهزمه.

يتكلَّم اللوح السابع عن حلم إنكيدو الذي رأى فيه أن ثلاثة آلهة قرَّروا وجوب موته لأنَّه قتل الثور السماوي، ومن ثمَّ يمرض إنكيدو ويموت في اللوح الثامن ويندبه صديقه كلكامِش.

في اللوحين التاسع والعاشر يقوم كلكامِش برحلة خطيرة بحثاً عن أوتنابشتيم الذي بقي حياً بعد الطوفان، كي يعرف منه سر نجاته من الموت، وأخيراً يصل إليه ويروي له المذكور قصة الطوفان ويدلَّه على مكان وجود النبتة التي تعيد إليه شبابه إذا أكل من وريقاتها، وبعد حصول كلكامِش على هذه النبتة تقوم حيَّة بسرقتها منه ويعود هو إلى بلده حزيناً.

أما اللوح الثاني عشر والأخير فيتكلَّم عن فقدان الطبل والعصا اللذين أعطتهما عشتار لكلكامِش، وتنتهي الملحمة بعودة روح إنكيدو الذي وعد بإعادة الطبل والعصا وقدَّم تقريراً مثيراً للاشمئزاز عن العالم السفلي وضرورة دفن جثمانه تحت التراب وزيارة الموتى والصلاة من أجلهم.

ومغزى الملحمة هي أن الأعمال الصالحة والجميلة هي التي تخلَّد الإنسان[1].

م. م.

* * *

عودة كلكامِش

لقد وقع طبلي أرضاً (كلكامِش، الألف الثالث قبل الميلاد)

بلاتيرو، يا أخي… (خ. ر. خِيمِينيس)

1

إن الزهرة التي استلمناها كفدية

والتي كانت سَتَهبُ الخلود لأرواحنا

قد سقطت من يدنا وضاعت في الوادي،

ضاعت تحت المياه وفي البطن المظلم للزمن

حيث تصوَّحت أوراقها وذبلت

واختفت ألوانها وزال عطرها إلى الأبد،

وطارت كالطير الطريد.

لقد أحاط بنا الظلام من أطرافنا الأربعة،

ولا ندري أين نحن،

ومن الذي يلاعب أجسادنا التي

لا فائدة منها ؟.

لقد أضعنا بعضنا البعض.

المسافة هي هي، لكن الأزمنة مختلفة.

ها نحن نقف جنباً إلى جنب،

لكن خصر الصحراء يلتفُّ من حولنا.

أين هي شجرة التين ؟

ومن هم الجالسون تحت أفيائها ؟

من الذي يستلم النور من النجوم ويجعله ناعماً ورقيقاً

كي لا يقتلنا ؟.

نحن لسنا هناك،

وأماكننا فارغة هناك

لأننا لا نصل إليها.

نحن غائبون من هناك.

ثمة صورة مغمورة بأشعة مجهولة الأسماء

فيما بعد الغرائز والأفكار

والتي يحجبونها عنَّا

عندما نريد رؤيتها.

ليس ثَمَّة سقف

يمكنه أن يمنحنا الأمان،

والظهيرة الممتدة على طول الشارع

لا تمنحنا الضمان،

وأما في البلد الصغير (كما كان يقول صاحبي)

فمن المستحيل المرور من بين الأسلاك الشائكة للمشاكل

أو الاقتراب من الجدار الشفَّاف للخلود

أو الاستمرار فيما بين نعاس وهدوء نيرفانا.

آمين. أوم. آمين.

الشمس تهب النور للحدود كافة

أمَّا القدر فيمر من دروب عالية إلى ما بعد العالم

كنجمة عمياء

لا فرق عندها بين الوجوه وبين الأسماء وضجيجها.

آمين. أوم. آمين.

2

أنا هو الملك القديم

الذي رأى كل شيء

أنا الذي تركته الآلهة هنا

واستغنت عنه كشجرة وحيدة،

وحيدة بلا حُبٍّ وبلا غايات.

لا أمل لي في العودة ولا أنا أبحث عن مُتْكَأ،

لا أحاول إيجاد جواب لسؤالي.

ثمة أيادٍ أنزلتني من الأعلى إلى الأسفل

وتركتني هنا، في القاع،

حيث يتحوَّل كل شيء حيّ إلى شيء تافه.

لقد رمتني القرون من قافلتها إلى هنا،

إلى هذه السهول، إلى البادية،

في هذا البلدالأجم

المحاط بالصخور الشقراء المتفتِّتة.

إنني لن أجد الزهرة التي ضيعتها

في البحر. إنَّها تزهر الآن في فم الأفعى.

أين هي مدينتي التي لا تعرفني ؟.

إنَّني أبحث عن نهايتي.

إنَّني أنزلُ إلى الأسفل وأنا أصعد إلى الأعلى،

وأجلب معي صورتي القديمة التي لا تشبهني،

لكنَّها ما زالت معي.

ثمة بادية ونهران يسيران

من الشمال إلى الجنوب.

ثمة مدن خارج الأهداف والمعاني،

وغابات تحترق،

وجزر وأراضِ يابسة

تغيب في المياه.

إنَّني أسير وحيداً وبلا عنوان،

في الأماكن الحارة، إلى جانب الأنهار،

أسير في الساحات، بين الأبنية الحديثة

وفي الحدائق المقفرة.

إنَّني الآن لا أبحث عن الشيء الذي كنت قد أبحث عنه،

وإن الذي انتصرتُ عليه

هو الآن ينتصر عليَّ،

ليس لي مكان أجلس فيه وأستريح

تحت قشرة الغش،

في جولة النظرات العاتمة.

إلى أين ؟ إلى الموت ؟

إلى اللاوجود، إلى صديقي الذي

ليس عندي أي خبر عن عالمه.

إلى مكان مهجور

حيث نزلتُ أنا من برج الحب وفقدتُ كل شيء،

أنا هو ذلك المسافر الذي سقط من قافلة القرون.

لقد زعزعتُ بيدي بناء حياتي.

إن ذنوبي كبيرة جداً.

وهأنذا أقف بين نهرين مرتبكاً

وليس لي من دليل.

يستطيع كل مشرَّد أن يجلس إلى جانبي

ويضع يده على كتفي ويقول:

“كيف حالك ؟ من أنت وماذا تفعل هنا ؟”.

أنا الأقدم من كل المدن،

أنا الجالس على درب الإله “إركالاَّ”،

أتأمَّل موت الشمس التي

تميل إلى الغروب،

وألمس بيدي حركة الزمان ذات الوجهين.

اركضي، اركضي يا حياتي،

ما دامت الشمس لم تغب بعدُ كاملة،

وما زال بعض الشرر يهب النور للعالم الذي

يظلم بسكون.

3

لقد وصلت مرَّة إلى جبلين،

أحدهما كبير، وأمَّا الثاني فصغير،

حيث كانت الشمس تشرق من بينهما كل يوم

ومن ثم تأفل في بحر الغرب

ماراً إلى الطرف الثاني، وهي تهب النور للأموات.

آه، أيها العالم،

أيَّتها الحقيقة ذات الوجهين،

يا عذاب الذين هم على قيد الحياة

ويا حلم الأموات.

لقد وصلت مرَّة إلى أبوابك السرِّية،

لكن روح الإنسان تحترق كما الشجيرة

من الحقيقة العديمة الشفقة لوجهك.

لقد عدت ثانية بعينين فاقدتي البصر،

عدت بحجاب أشعة الشمس

وأنا أعمى إلى الآن،

أنا الملك القديم،

أنا الذي رأى كل شيء.

لقد لامست عواميد السماء

بأصابعي الضريرة،

وأمسكت الستار السرِّي للآلهة

وجلست وبكيت

على مفترق طرق السماء والأرض.

لقد رأيت الذي

كان قد انتصر على الموت

وعدت ثانية

من الدرب الذي سرت فيه.

لقد ورثت الموت،

وهو ملكي الوحيد.

إنَّني أسير إليه بيدين عاريتين،

ولا أحد يستطيع أن يرافقني،

مثلما لا أستطيع أنا أن أرافق شخصاً ما إلى الغرب.

إنَّني هكذا،

أخسر من نفسي أنا كل يوم،

أخسر من الآلهة.

أنا لست بحاجة إلى الحنان والعزاء،

لأنَّني، كما الشمس،

قد صعدت إلى أعلى درجات الوجود،

ومن هناك نظرت إلى الأسفل

وقست المسافة التي بين العلوي والسفلي،

وتعرَّفت إلى وجهيّ الوحدة.

إنَّها رحلة، رحلة، إنَّها رحلة الأيام،

رحلة الخطوات والعوالم،

ثمة عربة قديمة، وثيران قديمة،

لكن السائق جديد،

وهو لا يملك عصاً بيده ووجهه واثق من قدرته.

العربة تتحرَّك، لكن عجلاتها بالكاد تدور.

نبيذ معتَّق وكأس قديمة،

لكنَّ الذين يشربونه

غرباء عني.

كلام ثمل وأغنية ثملة،

وصوت ثمل وضجيج ثمل،

وثمة قتال وصراخ

وصرخات تنبعث إلى الخارج

من غرائز جنسيَّة خالية من الوعي.

معابد ونساء، كاهنة وثنيَّة، خدَّام الحب،

وآلهة،

وثمة امرأة تعترض طريق صديقي “إنكيدو”

(اركضي، اركضي أيتها الروح

وأضيئي ذلك العيد).

سفينة قديمة تبحر إلى الجبال،

حيث تهبط عصا الآلهة،

والأسرار تغفو هناك

كما البذور في باطن الأرض

فيما بين اليومين الأول والأخير،

وأمَّا الآن فهي نائمة.

لا تلمسوها، لا تلمسوا الأوراق التي

تتفتَّح من جديد.

أيها الشعب، يا من تراقب حوادث العقود والقرون

وأنت تحرس الأسرار التي أؤتمنت عليها.

إنَّ كونك تعيش فذلك هو عمل بطولي بحد ذاته.

إن جسدك يُحفظ هنا كبذرة

من أجل السنابل الجديدة التي

على المستقبل أن يحصدها

بيديه المنوَّرتين في يوم من الأيَّام،

وتُخرج من باطن الأرض

الحجارة والأزهار والسهول،

وكذلك الأرواح التي تبكي الأعشاب المسجونة،

وكل الذين استشهدوا من أجل حبهم

وفي الدم النظيف انتظارهم

الذي يتساقط قطرة قطرة من صليبك

على الأدغال اليابسة للتاريخ والمكلَّلة بالأعشاب.

4

إنَّني أتوجَّه إلى صديقي

منحنياً على ضريحه المغطَّى بحجر كبير

وذلك عند المسير الناعم للريح

(تلك الريح التي تسير من الشمال إلى الجنوب

وتتحجَّر في الأحرف المسماريَّة القديمة).

إنَّني أتوجَّه إليه وأقول:

– “إنكيدو”، يا أخي،

أنت الذي عبرت من الحدود الأخرى للمملكة

وأنت تتنفَّس ذلك العالم الذي

أنا أفكِّر عنه فحسب،

أنا الذي أسير على هذه الدروب وحيداً مهمَلاً،

أنا الذي نساني الجميع،

أنا الرحَّالة الغريب الذي لا يكلِّمه أحد،

أنا الموجود تحت أذن الموت، أنا الذي لا عنوان لي،

أنا الذي لا مدينة لي ولا زمن،

أنا الموجود في المسافة الفاصلة بين نهرين متقلِّبين

ومن حولي أناس غرباء، أناس نشيطون ورجال أعمال،

رجال حقيقيون،

رجال سلَّموا قوَّتهم وفكرهم للرياح

فيذهبون ويعودون ويتكلَّمون بصوت عال،

يستعجلون وهم غير راضين

وهم بين الجهل والهدف.

قل لي: أخي،

الإنسان الذي مات وهو ملطَّخ بدماء الناس

من قدميه إلى رأسه،

مات بمخالب النسور وسمّ الأفاعي

وهو يحمل اسماً قاطعاً كحد السيف،

قل لي، ماذا يفعل الآن ذلك الرجل ؟.

“لقد وقع جسده على الرمال الحارَّة وهو منتن ومتفكِّك،

والطيور الجهنمية العمياء

ذات الأجنحة الحديديَّة تنقر جسده.

إن دخوله ممنوع إلى هناك”.

قل لي: أخي، ماذا يفعل ذلك الرجل

الذي سرق كي لا يموت طفله من الجوع ؟

“إن طفله قد شبع وهو الآن في صحة جيدة،

أما الرجل فيعاني الجوع إلى المساء. إنَّه يملك الخلاص”.

قل لي: أخي، ماذا يفعل ذلك الرجل

الذي خان نفسه

على الرغم من أنَّه كان رجلاً ذا صفات حسنة

وعقل سليم ؟.

“إنه عبدٌ هنا، وفي كل يوم

ينقل الماء من النهر بيديه.

إنه لا يرى السعادة”.

ماذا يفعل الرجل الذي فقد الحب ؟.

“إنه يسأل المارة عن أخبار

ولا ينام الليل. وله درب يسير عليه”.

قل لي: أخي، ماذا يفعل ذلك الرجل

الذي أراد أن يحب

لكنَّه لم يستطع فعل ذلك ؟

“إنَّه جالس على شاطيء النهر يبكي

وهو يحضن ركبتيه.

إن باب ذلك الرجل مفتوح على مصراعيه”.

ماذا يفعل ذلك الرجل الذي قُتل في الحرب

وهو في ريعان شبابه.

“إنَّ له وجهاً جميلاً،

ينبعث النور من جروحه وهو محاط بالأصدقاء”.

ماذا يفعل الرجل الذي قَتَل ؟

“لقد قُتل هنا بيد ضحيَّته،

وكانت هذه هي فديته”.

قل لي، ماذا يفعل الرجل الذي سلبَ

وأمر أن تتفشَّى المجاعة في البلاد ؟

“تبصق المارة في وجهه

ويعطونه روث الطيور ليأكل،

وليس له سبيل للخلاص”.

ماذا يفعل الرجل الذي كان يعيش

وهو يسأل نفسه

لكنَّه كان يبتسم صباحاً ومات في الحب.

قل، ماذا يفعل ذلك الرجل ؟

“إنَّه هنا في الأعالي، يرتدي ألبسة لامعة

وليس عليه من عذاب، والملائكة تسبِّح له”.

قل لي: أخي، ماذا سأفعل أنا

عندما أكون هناك ؟

وأصطدمتْ نجمة متلألئة بالقبر

وحل السكون.

وكأن ذاك كان

هو الجواب الذي أجاب به “إنكيدو”.

[1]- عبد الله حجَّار، “إضاءات حلبية – تاريخ ومعالم وتراث”، حلب، 2006، الصفحة 176-178. للمزيد عن هذه الملحمة انظر كتاب “جلجامش – ملحمة الرافدين الخالدة” لفراس السوّاح، دار علاء الدين، دمشق، 1996، 368 صفحة.

ترجمة: مهران ميناسيان

Share This