ربيع أنقرة وخريف المنطقة

نشرت جريدة “النور” مقالاً بعنوان “ربيع أنقرة وخريف المنطقة” بقلم جاك أوسي الذي اعتبر أن منطقة الشرق الأوسط تتعرض مُنّذُ ما يُقارب أربع سنوات لهجمة شرسة تُشن عليها، بتوجيه أمريكي – غربي، بهدف إعادة رسم الخارطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في منطقة الشرق الأوسط، لمواجهة التنين الصيني الصاعد ومحاصرة روسيا الاتحادية العائدة بقوة إلى مسرح السياسة الدولية. أما الصراع الثاني الذي يدور للسيطرة عليها فهو ذو شقين، الأول تركي – خليجي يهدف إلى محاصرة إيران وتحجيم دورها الإقليمي، وبعبارة أخرى تحطيم ما يُسمى (الهلال الشيعي) الذي يسعى لابتلاع (الأُقيانوس السّنّي). والثاني تركي – قطري من جهة، والسعودية ومعها باقي دول الخليج من جهة أخرى ميدانه طبيعة الإسلام الذي سيحكُم المنطقة. دون أن نُغّفل الدور الإسرائيلي في هذا الصراع الذي سيجعل تل أبيب القبلة لدول المنطقة المتصارعة على قاعدة (عدو عدوي.. هو صديقي).

ورأي أوسي أنه في هذه المعركة رُفِعت الشعارات الإسلامية التي توزعت بين وكيلين حصريين، وشريك مُضارب. الوكيل الأول إيراني برز مع الثورة الإيرانية عام 1979 والثاني تُركي وصل عام 2002 إلى السلطة في أنقرة بعد اضطهاد طويل انتهى (بتسوية) مع واشنطن. أما الشريك المضارب السعودي الذي يرتدي العباءة الوهابية، فهو يتجنّب الاصطدام بالأنظمة القائمة اصطداماً مباشراً ويحاول أن يشتري صمتها إن عزّ عليه شراء ولائها، فإن فشِل حرّك خلاياه النائمة كي تعيث في الأرض خراباً ودماراً.

بذلك تراجعت القضايا القومية والوطنية حتى كادت أن تموت وتندثر، لأن الإسلاميين اعتبروها  بِدعة نسبوا إليها كل الخطايا والموبقات التي كانت موجودة في مجتمعاتنا، وصوّروها قناعاً للدكتاتورية العسكرية وطغيان حكم الفرد. وبالنتيجة، كان ما يسمى (الربيع العربي) بداية المؤشر لهذا الهجوم والصراع، والقشة التي قصمت ظهر البعير، وتفّجرت بسببه كل العصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية في الشرق الأوسط.

وقال: “هذه اللحظة هي التي كان العثمانيون الجدد في أنقرة ينتظرونها كي يتقدموا ويسيطروا على المنطقة من جديد ويُعيدوا تشكيل ما يعتبرونه (العصر الذهبي) للدولة العثمانية، متناسين أن شعوب المنطقة، ومن ضمنها الشعب التركي بمكوناته المختلفة، خاضت في طريقها من أجل نيل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية صراعاً طويلاً وقاسياً ودموياً مع أجدادهم، الذين مثّلوا لهم، في تلك الفترة، آية الظلم والاستبداد وأسواً صورة للبطش والطغيان، وكانوا لهم شياطين القمع والاستغلال، احتكروا مسيرة تاريخهم واحتقروا إنسانيتهم وتحكموا في مصيرهم.

هذا التاريخ يراه العثمانيون الجدد محض هواجس وأوهام، ومليئاً بالكذب والافتراء، عناوينه تؤدي للفوضى والهياج، كتبه الحاقدون عليهم وعلى أجدادهم. وفي المقابل يُقدم سدنة العثمانيين الجدد وكُهّانهم لشعوب المنطقة التاريخ الذي يرونه صحيحاً والذي يُمثّل رواية الغالب التي دوّنها بدموع المقهورين ودمائهم وزيّنها بصيحات وصرخات المعذبين والمسحوقين من أبناء هذه الأرض الأبية.

كل ذلك من أجل محاولة وضع (النير العثماني) من جديد على رقاب شعوب المنطقة، كي يحوّلهم إلى تُجار للموت ووكلاء للخراب ورسل للدمار باسم جلالة السلطان الذي هو دُمية بيد أمير الظلام الجالس في مكانٍ ما في هذا العالم يُحركها، وغيرها من الدمى، في سبيل تحقيق أهدافه ومخططاته.

من أجل ذلك تبنّت أنقرة المعارضة المسلحة في سورية وسلّحتها ودرّبتها وقدمت لها كل أنواع الدعم، وتبارى المسؤولون الأتراك في تحديد المهل وتوجيه الإنذارات إلى الحكومة السورية كي ترحل، وحوّلوا أراضيهم إلى ممر لكل إرهابيي العالم كي يتّجهوا إلى الأراضي السورية ويمارسوا جرائمهم بحق الأبرياء، باسم الدين تارةً وباسم نصرة الشعب السوري تارةً أُخرى. وفي موازاة ذلك بدأت أنقرة تربط اقتصاد المناطق الشمالية التي خرجت عن سيطرة دمشق باقتصادها، وأصبحت المعبر الوحيد للنفط السوري المسروق إلى الأسواق العالمية، وبدأت بشرائه بأسعار زهيدة جداً وتبيعه بأسعار السوق العالمية مُكدسة أموال طائلة على حساب السوريين ولقمة عيشهم. ومع صمود المواطن السوري والتفافه حول قيادته السياسية وتجديد الدعم لتوجّهها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بدأ هذا الحلم بالأفول مهدداً بالضياع جهود العثمانيين الجدد ووجودهم”.

وأوضح أوسي أنه مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش) وسيطرته على مناطق واسعة بين سورية والعراق وإعلانه الخلافة الإسلامية، بدأت آمال أنقرة بالانتعاش مجدداً وباشرت بتنفيذ الخطوة الثانية من خطتها، حين غضت النظر عن تمدد الأكراد وسيطرتهم على مدينة كركوك وإعلان نيتهم تأسيس دولة كردية في شمال العراق، التي كان مجرد التفكير بها سبباً لشن تركيا الحرب في المنطقة سابقاً. ثم بدأت أنقرة بالعمل على احتواء الحلم الكردي وربطه بالواقع التركي إذ ستشكل أنقرة نافذتهم الوحيدة على العالم، الأمر الذي يعني ربط اقتصاد هذه الدولة التي قد تنشأ أيضاً بالاقتصاد التركي، وتكون حاجزاً لها بوجه التمدد الإيراني وخط الدفاع الأول بوجه تنظيمات الجهاد الدولي التي بدأت تتكاثر في المنطقة. هذا الأمر تكرر في الشمال السوري وخصوصاً في مناطق وجود الأكراد، حيث البصمات التركية واضحة، التي أعلنت تأسيس إدارة ذاتية وانتخبت حاكماً لمنطقة الحسكة بالآليات المعمول بها في تركيا. هذه الخطوة ترافقت مع توجيه نداء من أحد القيادات التاريخية الكردية لأنصاره ومحازبيه بالتوجّه لهذه المناطق والدفاع عنها ضد تنظيم (داعش). هاتان الخطوتان إن دلّتا على شيء فإنهما تدّلان على بداية تحوّل الأكراد إلى حرس حدود للدولة التركية، وتكون أنقرة بذلك قد طبقت الحكمة الصينية بحذافيرها: (دع النمرين يتصارعان ثم اقض عليهما بضربة واحدة)، فتحلّ القضية الكردية بتنازلات بسيطة لا تحدث اعتراضات داخلية عنيفة من جانب الجمهوريين والقوميين في أنقرة، وتستخدمهم في الوقت نفسه لقتال التنظيمات المتطرفة في حال فكّرت بالتغلغل داخل الأراضي التركية. في الوقت الذي تعمل على تقديم نموذجها الإسلامي للعالم، نموذجاً معتدلاً، يُجاري العصر، منفتحاً على العالم مؤمناً بالتعايش مع باقي شعوب العالم، حسب وجهة نظر العثمانيين الجدد. خصوصاً، بعد أن بدأت حكومات المنطقة والعالم تُطلق الإنذارات من تداعيات الفكر السلفي الجهادي المستمد من العقيدة الوهابية التي تُعتبر الحاضن الأساس لهذا الفكر، وتتوجس شراً من الطموح الإيراني الذي غُلّفَ بعباءة ولاية الفقيه وشعار تصدير الثورة الإسلامية.

وأضاف أنه في المحصلة النهائية تكون أنقرة، وهي رأس حربة حلف الشمال الأطلسي في المنطقة، ومن خلفها إسرائيل، قد نجحتا في خلق منطقة قتل ستستنزفان فيها خصومهم عسكرياً وعقائدياً واقتصادياً (محور الممانعة والقوى الدولية التي تدعمه كروسيا وإيران، والمحور السعودي – الخليجي) كخطوة أولى نحو تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. في الوقت الذي تعمل فيه هذه الدول على ترتيب بيتها الداخلي (انتخابات الرئاسة في تركيا وما قد ينتج عنها من تعديل للنظام السياسي في البلاد، ومحاولة إسرائيل القضاء على روح المقاومة الفلسطينية وحل القضية الفلسطينية على حساب دول المنطقة، منع الغرب لروسيا من التمدد في أوربا واستعادة نفوذها على دول الاتحاد السوفييتي القديم، وتفرّغ واشنطن لحل أزمتها الاقتصادية الداخلية وتركيز جهودها على محاصرة المارد الصيني).

في الختام رأي أوسي أن شعوب الشرق الأوسط انتظروا بلهفة وصبر على تقاطع الطرقات، وتضرّعوا بحرارة على أعتاب الأماكن المقدسة، واعتكفوا في الصوامع والخلوات داعين إلى الله أن يأتي المهدي المنتظر كي يملأ الدنيا عدلاً وخيراً بعد أن امتلأت ظلماً وجوراً. ولكن ما حدث هو أن الأعور الدجال أرخى بضلال عباءته على المنطقة، وكشف اللثام عن وجهه فبانت عينه الجاحظة التي لا تنشر إلا الفوضى والخراب. هذه العين هي عين الغرب وأعوانه والقوى الرجعية الطامعة بخيراتنا وثرواتنا التي تُريد حرماننا منها كي تبني مستقبلها ومستقبل أولادها. والبعض منا، مدفوعاً بعقيدة فاسدة أو رغبة حاقدة أو جهالة واضحة، ارتضى أن يكون دمية بيد هذه القوى الحاقدة ويُنفّذ مخططاتها بإدخال المنطقة في معارك داخلية ضحينا فيها بفلذات أكبادنا، لتدمير أوطاننا وإلغاء تراثنا وإرهاق اقتصادنا واستنزاف مواردنا، كي نُعمّر بلادهم ونُنشط اقتصادهم ونزيد من تكديس ثرواتهم.

Share This