مذابح الأرمن ضمن ما شهدته الحرب العالمية الأولى…

الحرب العالمية .. وذكرى أكبر خديعة سياسية راحت ضحيتها امبراطورية العرب

نشرت وسائل الاعلام مقال بعنوان “الحرب العالمية .. وذكرى أكبر خديعة سياسية راحت ضحيتها امبراطورية العرب”، تناول الكاتب ما شهده العالم خلال الحرب العالمية الأولى، “غاليبولي، لورانس العرب وخديعة بريطانيا، الاستيلاء على فلسطين وسوريا، وعد بلفور، معاناة الأرمن، تقسيم الشرق بمعاهدة سايكس بيكو” دسائس ومؤامرات كثيرة شهدها العالم العربي إبان الحرب العالمية الأولى، والتي يستعيد العالم ذكراها المئوية، منذ أطلق طالب صربي في 28 حزيران/يونيو 1914 النار في مدينة سراييفو على ولي عهد النمسا، فنشبت الحرب بعد نحو خمسة أسابيع، وحصدت أرواح ملايين البشر وغيرت خريطة العالم وتوازناته، حتى جاء إعلان معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919″.

وقال إن الحقيقة أن رجال الحكومة العثمانية، تورطوا في الحرب إلى جانب قوات التحالف مع ألمانيا والنمسا، خاصة حين تأكدت اسطنبول من فشل جهودها للحصول على ضمانات من بريطانيا، وتأكدت الاستخبارات العثمانية أن روسيا القيصرية بصدد مهاجمة المضايق ومنطقة الحدود شمال الأناضول.

حمل ربيع 1916 أنباء مؤسفة حيث كان الحلفاء يخططون في حال انتصارهم لما عرف باتفاقية سايكس – بيكو، البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، والتي أدت لتقسيم دول المشرق العربي كغنائم للقوات المنتصرة، وألحق بها وعد بلفور – من لا يملك لمن لا يستحق – بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كل ذلك في الوقت الذي يراسلون فيه قادة ثورات الاستقلال العربي بأنهم إذا ما حالفوهم سيحققوا حلمهم بالاستقلال التام عن العثمانيين والغرب .. وما أشبه اليوم بالبارحة.

في كتابه “orient express” وهو من نوعية كتب الرحلات، وصدرت ترجمته الألمانية عام 2012، نجد أن جون دوس باسوس، يضع عملا فريدا من نوعه على ما أحدثته الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية من اضطرابات في جميع جوانب الحياة في منطقتي القوقاز وشرق البحر المتوسط.

لم تكن الحرب العالمية الأولى قد انتهت تماما في الشرق الأوسط بحلول عام 1921. فقد اعتزمت القوى الأوروبية المنتصرة، لاسيما فرنسا وإنجلترا، إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط بأكملها. فبعد أن شاركت الإمبراطورية العثمانية بعد تردد في الحرب كحليف لألمانيا، في نهاية تشرين الثاني/ أكتوبر 1914، انهارت في عام 1918. فساندت إنجلترا حركات الاستقلال العربية ضد الحكم العثماني من مصر، التي كانت قد أحكمت السيطرة عليها. ويجدر بالذكر أن الإمبراطورية العثمانية شملت آنذاك ما يُعرف حاليا بالمملكة العربية السعودية وإمارات الخليج وفلسطين والعراق والأردن وسوريا ولبنان.

وفي غمرة تلك الأحداث كان الكولونيل توماس إدوارد لورنس، صاحب الشخصية الأسطورية لورنس العرب، قد وعد الملك حسين (1854-1931)، حاكم الحجاز بما فيها المدن المقدسة، مكة المكرمة والمدينة المنورة، بحكم دولة عربية عظمى ومستقلة، تخضع حدودها التفصيلية للتفاوض فيما بعد. وكان ذلك في مقابل مشاركته في المعركة ضد العثمانيين. إلا أن إنجلترا وفرنسا اتفقتا سرا، وذلك عبر اتفاق سايكس بيكو (1916) في البداية، على تقسيم الشرق الأوسط إلى منطقتي مصالح دون إيلاء أي اعتبار لرغبات العرب. ثم جاء تدخُل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون من خلال “نقاط باريز الأربعة عشر”، حيث وعد شعوب الشرق الأوسط بحق تقرير المصير عقب انتهاء الحرب ــ أو على الأقل بـ „فرصة خالية من العوائق للتنمية المستقلة“، أيا كان معنى ذلك.

إضافة إلى تلك الجوانب الغامضة، لم تكتف بريطانيا بدعم الملك حسين فحسب، بل ساندت كذلك أقرب منافسيه في شبه الجزيرة العربية، الملك عبد العزيز بن سعود (1880-1953). وفي هذه الأثناء تم تنصيب أبناء الأمير حسين، الذي يسانده لورانس، حاكما على سوريا (الأمير فيصل) وعلى إمارة شرق الأردن “عبد الله” وذلك بمباركة قوى الانتداب. إلا أن فيصل، على الرغم من كونه هو الآخر غريبا على البلاد، قد تمرد ضد الهيمنة الفرنسية وطُرد من سوريا ، فاتجه البريطانيون إلى تنصيبه ملكا على العراق (من 1921 وحتى وفاته في 1933) حيث تعّين على البريطانيين مواجهة الثورات.

يقول باسوس في رحلته: في هذا الصدد ينبغي علينا أن ندرك أن تلك البلدان لم تكن أبدا دولا تفصلها حدود صريحة أو حتى مقاطعات إدارية قائمة بذاتها. وإن تلك الحدود التي رسمتها كل من إنجلترا وفرنسا، والقائمة في معظمها حتى الآن، كانت اصطناعية ولازالت تعتبر كذلك من قبل معظم سكان المنطقة. إذ فصلت بشكل تعسفي بين مناطق طبيعية تنتمي معا وتجمع بينها روابط تاريخية منذ أزمان طويلة، وقطّعت الروابط العائلية والعلاقات التجارية، وتعارضت بشكل صارخ مع نمط الحياة البدوي لكثير من سكان المنطقة. وربما قد لاحظ القارئ بالفعل أن دوس باسوس قد سافر من دمشق إلى طهران دون جواز سفر أو وجود نقاط لمراقبة الحدود. وإنه كان بإمكانه في ظل هذه الظروف أن يصل حتى غزة، إذا ما رغب في ذلك ــ وهو أمر لا يسعنا إلا أن نحلم به في يومنا هذا، أي أن يجوب المرء الشرق الأوسط بهذه السهولة!

كان ضباط مقاومون عرب في سوريا قد دفعوا القوات البريطانية شرق نهر الخابور، بينما أطاح عبد العزيز آل سعود بحكم الأشراف في الحجاز، ووحد الجزء الأكبر من الجزيرة العربية فيما سيعرف منذ 1930 بالمملكة العربية السعودية. وهكذا، ولدت دول العراق وفلسطين وإمارة شرق الأردن، تحت الانتداب البريطاني، وسورية ولبنان، تحت الانتداب الفرنسي ، وكنتيجة للحرب وحدها.

تحت عنوان فرعي “مصارعة على غنائم العثمانيين” أوضح أنه بكتابه “سلام ما بعده سلام.. ولادة الشرق الأوسط 1914 – 1922” يذهب دافيد فرومكين إلى أن البريطانيين قلما خطرت على بالهم الإمبراطورية العثمانية وهم يدخلون الحرب إلى جانب فرنسا وروسيا ضد ألمانيا وإمبراطورية النمسا- هنغاريا في 1914.

كانت الدولة العثمانية تشهد آخر فصول تفسخها خاصة في عهد السلطان عبدالحميد “1876- 1909” إذ خضعت إيراداتها في عام 1875 إلى إشراف أوربي لسد عجز قدر بألف مليون دولار، فضلا عن وجود نظام “للامتيازات ” كانت تمنح بموجبه معاملة خاصة للأجانب. أما أراضيها فكانت في تقلص مستمر. ففي 1908 فقدت البوسنة والهرسك لصالح إمبراطورية النمسا – هنغاريا، وتوسعت إيطاليا على حسابها بضمها لليبيا 1911 – 1912 واحتلالها لجزيرة رودوس وجزر أخرى قرب الساحل العثماني. وسلب منها ما تبقى من الجزء الأوربي في 1912-1913. وكانت البلاد خربة من الناحية الاقتصادية.

يعتقد فرومكين أن مغامرات أنور باشا – قائد الجيش العثماني الثالث ضد الروس – قد أوردت الدولة العثمانية موارد الهلاك، فيصفه بأنه مغامر أكثر منه قائدا حربيا. أخذ أنور باشا يتطلع إلى الاستيلاء على أراض روسية، خاصة تلك الناطقة باللغة التركية، بعد أن احتمى بالبارجتين الألمانيتين وبعد أن حقق الألمان انتصارات كبيرة على الروس في نهاية أغسطس وعلى إثر إلغاء الحكومة “للامتيازات الأجنبية” في 8 سبتمبر وإغلاق مضائق الدردنيل في وجه جميع السفن الأجنبية في 26 منه، أوعز أنور باشا – بالتآمر مع جمال باشا- للبارجتين الألمانيتين بمهاجمة الروس في البحر الأسود فما كان من روسيا إلا أن أعلنت الحرب على الدولة العثمانية في الثاني من نوفمبر، وسبقتها بريطانيا بيومين من ذلك التاريخ، وكان هذا إيذانا برسم خريطة جديدة للشرق الأوسط.

عندها أعلن العثمانيون النفير العام، وحشد في جميع أنحاء السلطنة ما يقارب ثلاثة ملايين متطوع قتل منهم خلال القتال نحو 300 ألف وقضى نحو نصف مليون جندي بأسباب مختلفة كالأمراض والإصابات وسوء التغذية ونقص العتاد ورداءة الألبسة وقلة ملاءمتها لجبهات الحرب الشمالية.

ووفق كتاب فرومكين : بعد أن كان هم بريطانيا منذ حملة نابليون هو الاحتفاظ برجل أوربا المريض حيا، غدا همها الآن هو كيفية اقتسام الإمبراطورية بحيث يئول إليها جزؤها الأكبر، لذا شرعت بالتحرك على عدة محاور، كان أحدها إثارة رعايا الدولة العثمانية العرب على الحكم التركي.

كان اللورد كيتشنر وزير الحربية البريطاني في بداية الحرب يرغب في إيجاد خليفة عربي يحكم المسلمين بدلا من الخليفة العثماني الذي كان يراه وقد خضع كلية “للألمان واليهود”. وكان الخيار الجذاب هو الشريف الحسين بن علي حاكم مكة، الذي أعطى تعهدا – في حال ثورته – من خلال مراسلاته مع مكماهون “المندوب السامي البريطاني ” في القاهرة في 20 أكتوبر 1915، بأن يصبح حاكما للمشرق العربي. ويؤكد المؤلف أن الحسين كان مضطرا إلى عقد تلك الصفقة مع البريطانيين لأن قادة حزب تركيا الفتاة كانوا عازمين على عزله. غير أن ثورته التي أعلنها في يونيو 1916 لم تلاق شعبية كبيرة “فقد نظر إليها المسلمون عامة بعين الريبة “. لكن الحقيقة أن بريطانيا كانت ترى أن العرب لا يمكن أن يستقلوا عنها، وقالت أشهر رحالة بريطانية جير ترودبل إن “العرب لا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم “!!..

أما تحت عنوان “بروباجاندا ألمانية لـ “خليفة المسلمين فقال ألكسندر فيلّ مؤرخ ألماني، أعد شهادة دكتوراه حول السياسة الشرقية لألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى. وتحدث خلالها، حسبنا نقلت مجلة “فكر وفن” أن الأتراك والألمان تبنوا إستراتيجية عرفتها الحروب القديمة والتي يمكن التعبير عنها بالجملة القائلة: „عدو عدوي، صديقي“. إذ تمحورت إستراتيجية ألمانيا وتركيا في التلاعب بالتناقضات الدينية والإثنية والسياسية في المناطق الخاضعة للقوى المعادية بهدف خلق ثورات فيها، من أجل إضعاف موقف بريطانيا وروسيا أولا. ولم تنحصر هذه الإستراتيجية في الشرق الأدنى. فقد حاول عملاء الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية تأليب اليهود للقيام بثورة ضد روسيا في القسم البولندي الخاضع لها. وفي ايرلندا دعمت المخابرات الألمانية المتمردين الكاثوليك وفي روسيا الشيوعيين الروس. وفي الشرق الأدنى ساهم الألمان والنمساويون والأتراك في “الجهاد الإسلامي” ضد بريطانيا وحلفائها.

وقد بدا الأمر مبشرا بالنجاح من جهة تعبئة القاعدة الدينية ضد بريطانيا ومن جهة أخرى شرعنة حرب ألمانيا وحلفاءها في المنطقة عبر إعلان السلطان العثماني خليفة للمسلمين قاطبة والدعوة إلى وحدة المسلمين، بغض النظر عن قومياتهم.

وشغل البارون الألماني ماكس أوبنهايم منصب رئيس مكتب الاستعلامات الخاص بالشرق، الذي هدف إلى دعم بروبغندا السلطان العثماني ودعم الحركات المتمردة في الشرق الأدنى.

ومع انهزام ألمانيا وحلفاءها في العام 1918 توقفت محاولات التثوير جميعها. لكن التطورات اللاحقة أظهرت بأن تلك المحاولات كان لها تأثير حتى بعد نهاية الحرب. ففي مصر منعت بريطانيا بقوة السلاح بين العام 1914 و 1918 كل معارضة سياسية. ومن أجل الإجهاز التام على بروبغندا الوحدة الإسلامية التي ارتبطت بالعثمانيين مارست السلطات البريطانية إجراءات الرقابة على البريد والأخبار. كما قامت بطرد كل الألمان والنمساويين المتواجدين في البلد أو أقدمت على سجنهم، كما طردت من القطاع العمومي كل الموظفين المنحدرين من هذين البلدين.

لكن بعد ثورة 1919 تمكنت مصر عام 1922 من الحصول على سيادة موسعة. أما بريطانيا فاضطرت لكي تودع خططها بسيطرة كاملة على الشرق الأدنى. وكان الوضع شبيها بذلك في أفغانستان.

أما عن أزمة تشرشل ومعركة الدردنيل، فكتب أنه أراد أن يطرد العثمانيين من معادلة الحرب وأن يرهبهم، لكنه في منتصف العملية المعروفة بمعركة المضايق أو الدردنيل بالتحديد، توقف فجأة – ربما كان يشعر أن روسيا ستعينه وصدق وعودها الكاذبة، فخسرت بريطانيا الكثير من بوارجها أمام الأسطولين التركي والألماني .. وحتى نهاية حياته، ظل وزير البحرية البريطاني والذي قاد الحكومة لاحقا، ونستون تشرشل يعتقد أنه حين أوقف كسح الألغام البحرية بعد معركة 18 آذار/ مارس 1915 أمرا صحيحا، بالرغم من أن ذلك كان الخطأ الأكبر في هذه الحرب .

وبحسب الباحث التركي البارز شون ماكميكن تكمن وجهة نظر تشرشل في أن الهدف من الحملة ــ طرد العثمانيين من الحرب، وفتح منفذ مشترك إلى موانئ روسيا الدافئة في البحر الأسود لإرسال إمدادات الحرب وبشكل أوسع وضع حد للمطامع الألمانية في الشرق الأوسط العثماني، وقد كانت وجهة نظر سليمة استراتيجيا.

في غضون ذلك، نجد أن روسيا نفسها قد وعدت بإرسال أربعين ألف جندي إلى البوسفور لدعم قوات الحلفاء للتقدم في الدردنيل ــ لكن ورغم موافقة البريطانيين في آذار/ مارس 1915 لإعطاء روسيا السيادة على اسطنبول بعد غزوها، لكنهم لم يلتزموا بذلك.

 (بعد ذلك بأسبوع عاد الأسطول وأطلق 161 قذيفة، لكن ذلك لم يكن مقنعا للبريطانيين). بالطبع يعود فشل حملة غاليبولي بدرجة كبيرة إلى الشجاعة التركية (أشهر بطولات مصطفى كمال وعلى رأسها معركتا شُنق باير في يوم 25 نيسان/ أبريل والمرة الأخرى عندما استعاد العثمانيون الموقع في 9 آب/ أغسطس) والقدرة الألمانية على التنظيم والنظام.

وتحت عنوان فرعي آخر “مذابح الأرمن” قال: “اخترق الألمان الجبهة الروسية في غورليس ــ تارنو، ما أحدث ثغرة في السهل الأوروبي الشمالي. سيشهد هذا الصيف الانسحاب الروسي الكبير، بعد سقوط معظم المناطق الخاضعة لروسيا في بولندا، بما في ذلك مقار قيادة الجيش القيصري في بارانوفيتشي ووارسو نفسها في أيدي القوت الألمانية ــ النمساوية.

سبّب هذا الانسحاب معاناة كبيرة، ونتج عنه نزوح مليوني لاجئ من بينهم نصف مليون يهودي طردوا من مناطق الجبهات خوفا من أنهم قد يساعدون الألمان. في لحظة تصفية حساباتها مع الألمان ــ التي كادت تعصف بالحكم القيصري (تولى القيصر نيقولا الثاني بنفسه قيادة الجيش في أيلول/ سبتمبر عام 1915 لاستعادة المعنويات) ــ كانت روسيا في موقف يصعب فيه عليها حشد قوات برية وبحرية وجوية لتوجيه ضربة لاسطنبول. وفي وضع مريع من ناحية التوقيت، تكبد الأرمن التابعون للحكم العثماني آلام لحظتهم الخاصة في تصفية الحسابات في مايو 1915، عندما بدأت حملة التهجير في شرق تركيا، وبحسب السفير الأمريكي في اسطنبول آنذاك فقد كان مشهد القتل شائعا بأحياء الأرمن وراح ما يزيد عن مليون أرمني ضحية مجازر العثمانيين وانتقامهم، وبالرغم من ذلك يؤكد الجانب التركي الآن على المبالغة في توصيف أعداد ضحايا المجازر وبأنها لم تكن تصل لدرجة الإبادة الجماعية كما أعلنت الأمم المتحدة”.

وعن “المعجزة تنقذ اسطنبول من روسيا” قال انه بمجرد استقرار خطوط القتال للجيش القيصري في أوروبا في خريف 1915 بالقدر الذي سمح بإرسال تعزيزات إلى تبليسي، اندفع جيش القوقاز الروسي ليحاصر أرضروم العثمانية „المنيعة“ في شباط/ فبراير 1916، لقد دُمر الجيش الثالث العثماني، الذي كان مقر قيادته في السابق في أرضروم، عن بكرة أبيه تقريبا في عام 1916، إذ خسر 100 ألف من رجاله ومعظم أسلحته.

ونظرا لتلهفهم المسبق بدأ الروس في إنشاء خط سكة حديد بطول سواحل البحر الأسود من باتوم وحتى ترابزون، محولا الأخيرة إلى قاعدة أمامية حيوية. وبمجرد ما ذاب جليد الشتاء كان جاهزا للزحف إلى سيفا وأنقرة واسطنبول نفسها، ومتصلا بمحطة سكة حديد لتوزيع المؤن العسكرية في أنقرة.

وفي الأنفاس الأخيرة لروح “تسارغراد” مدينة القيصر او الاسم الذي كانوا يطلقونه على اسطنبول، نفذت عدة طائرات حربية روسية شُحنت على ناقلات الطائرات هجمات على اسطنبول نفسها في يومي 9 و 10 تموز/ يوليو 1917، وأسقطت عدة قنابل على منشآت في ناحية المرفأ في القرن الذهبي ووصلت إلى سان ستيفانو (يشيلكوي، وهو الموقع الحالي لمطار اسطنبول الدولي) قبل أن تعود.

والفصل الأخير في هذه الدراما كان في محله كما يشير الباحث التركي: في السادس والعشرين من تموز/ يوليو 1917، عندما اكتسحت حركات التمرد صفوف الجيوش الروسية وأنزلت الدمار بأسطول البحر الأسود، أخطأ زورق روسي وحيد مزود بمحرك طريقه في حقل الألغام الذي يحمي مضيق البوسفور، وعندئذ ألقى قائده برسالة سلام في زجاجة تجاه الشاطئ (ومفادها أن الأتراك والروس إخوة: الألمان هم الأعداء الحقيقيين لكليهما). بهذه الطريقة الغريبة والمؤثرة نوعا ما تقوضت طموحات روسيا القديمة لغزو اسطنبول والمضايق على رمال الثورة الروسية.

وعن “الشرق يتحدى” قال ان الكتاب الهام لدافيد فرومكين يعود ليؤكد أن الشرق بدأ يتحدى بثورة مصر المطالبة بالاستقلال 1919 وبالحرب التي نشبت في ذات السنة في أفغانستان وبالاضطرابات القبلية في الأردن في ربيع 1920 وبثورة العشرين في العراق. كان الاعتقاد هذه المرة في الأوساط البريطانية المتنفذة أن روسيا البلشفية هي المحرك لتلك الأحداث وأنها ضالعة في مؤامرة دولية بعيدة المدى هدفها تقويض الحكم البريطاني.

وخيم هاجس انتشار الثورات البلشفية في أوربا على مؤتمرات الصلح التي ابتدأت أواخر 918 و 1919، والتي انتهت “معاهدة سيفر 10 أغسطس 1920” بفصل الأجزاء الناطقة بالعربية عن الإمبراطورية العثمانية على أن تحتفظ بريطانيا بفلسطين وبلاد الرافدين، وتبقى شبه الجزيرة العربية مستقلة، في الوقت الذي كانت بريطانيا قد أخذت فيه فعلا مصر وساحل الخليج العربي. أما سوريا فقد أصبحت من نصيب فرنسا. إن لويد جورج “رئيس وزراء بريطانيا آنئذ”- يقول المؤلف- قد نجح بإضافة مليوني ميل مربع إلى إمبراطوريته إثر هذه المؤتمرات.

أما أمريكا التي انسحبت من التحالف في المدة 1919 – 1920 لموقف مجلس الشيوخ الرافض لاتفاقية فرساي وعصبة الأمم، فقد نادت بسياسة “الباب المفتوح ” وركزت على حرية الحصول على الامتيازات النفطية في المنطقة. وقد دعت حاجة بريطانيا إلى الرأسمال الأمريكي، واعتبارات سياسية أخرى إلى السماح للشركات الأمريكية بالدخول إلى المنطقة، بل والعمل معا مع الشركات البريطانية وبالذات حينما ثبت وجود النفط بالعراق في 1920.

واجه البريطانيون على ضفاف دجلة في شمال أرض الرافدين مقاومة شرسة، حيث استسلم الجنرال تاونسهند مع كامل فرقته في كوت العمارة (طلب البريطانيون من البعثة الروسية في إيران أن تخفف العبء عن تاونسهند بقصف بغداد ــ واختار الروس بانتهازية كما في غاليبولي ألا يمدوا يد العون

أما قلب المشكلة – رجل أوربا المريض- فقد تقرر تقطيع أوصاله، إذ فرضت معاهدة سيفر شروطا قاسية على الدولة العثمانية، حيث لم تبق لها إلا أجزاء من الأناضول.

وأضحت اسطنبول في قبضة الحلفاء، يحكمها السلطان محمد السادس الذي اعتلى العرش في يونيو 1918، والذي لم يكن له هم إلا الاحتفاظ بكرسي حكمه.

رفض الضابط كمال أتاتورك- الذي كان خارج العاصمة- اتفاقية سيفر المذلة وأخذ بتنظيم فلول الجيش العثماني المنهار. ونجح في طرد البريطانيين من المنطقة في بداية 1916. وبدا أن الحظ يحالف أتاتورك – ليوقعوا على ميثاقه الوطني بإنشاء دولة تركية مستقلة. وفي نوفمبر 1922 قرر المجلس الوطني التركي عزل السلطان وهكذا جاءت نهاية الإمبراطورية العثمانية التي عمرت قرونا.

بالطبع بدأت في هذه المرحلة سلسلة التمرد العربي وتمثل في الثورة السورية 1925، المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني الاستيطاني بعد الحرب في العشرينات، ثورة 1919 في مصر، ثورة عمر المختار بليبيا، ثورة الريف في المغرب بقيادة عبدالكريم الخطابي، وبواكير ثورة الجزائر في العشرينات، للتحرر من الاستعمار وغيرها من الثورات.

وماذا عن حصاد سايكس بيكو. بكلمات موجزة يلخص الدكتور بشير نافع المشهد العربي بعد الحرب العالمية بقوله: لو أتيح للعرب قيادة صلبة كتلك التي أتيحت للأتراك، أو أن مصطفى كمال تخلى قليلاً عن حساباته الواقعية، لربما كانت صورة المشرق غير تلك التي عرفها طوال القرن الماضي. مهما كان الأمر، فقد فرض النظام في صورته الأخيرة قسراً، بدون أن يلبي مطامح العرب العثمانيين في إقامة دولة عربية واحدة، ولا مطامح الكرد في إقامة دولة لهم. وصنع كيانات تفصلها حدود، قسمت أسراً وعشائر، لم يكن لها من مسوغ طبيعي، ولا هي استجابت لحاجات الدول الوطنية الناشئة. اقتطع جزء من سوريا لإعطاء لبنان ما يكفي من مساحة ويد عاملة لإقامة دولة، وأقيمت دولته على أساس من المحاصصة الطائفية القلقة؛ بينما لم يمنح العراق منفذاً كافياً على البحر، وكان عليه أن يعيش مهدداً بدول جوار أقوى منه، وبحركة قومية كردية لم تهدأ مطلقاً. وفوق هذا كله، زرعت الدولة العبرية، بطموحاتها التوسعية، وسياستها التدخلية في شؤون جوارها العربي.

وبالفعل كما يعلق الدكتور بشير في مقاله المنشور مؤخرا، فإن عجز  القيادات عن تحقيق طموحات شعوبها، وإخفاقها المزمن في بناء منظومة تعاون وتعاضد، لم يؤديا إلى اندلاع حركة الثورة العربية وحسب، بل وإلى أن تعمل رياح الثورة على تفاقم تأزم النظام الإقليمي كله. خلال السنوات القليلة الماضية، تسارعت تدخلات الدول في شؤون بعضها البعض، وتراجعت سيادة الدولة الوطنية لصالح التحالفات الإقليمية، ثم بدأت حدود الدولة الوطنية في الانهيار أمام ضغوط القوى من غير الدول، كما هي حالة الجماعات الكردية المختلفة، القوى المقاتلة السورية، المتطوعين الشيعة وقوات حزب الله، الجماعات الشيعية المسلحة، والثوار العراقيين وداعش.

من جهته يعلق الدكتور علي الدين هلال في مقاله المنشور بصحيفة “الشرق الأوسط” بأن هناك شعورا أن العرب يعيشون اليوم مرحلة مماثلة لخديعتهم الأولى في الحرب العالمية من قبل لندن، فإذا كانت سنوات الحرب الأولى وما بعدها قد شهدت تقسيم الدولة العثمانية وتشكيل الحدود السياسية للدول في الشرق الأوسط، فإن السنوات الحالية تشي بنتيجة مماثلة، فخريطة المنطقة يُعاد رسم شكلها وتوازناتها، فالسودان انقسم إلى سودانين، وإقليم كردستان العراق يمارس أغلب مظاهر الدولة المستقلة، وفكرة الفيدرالية نُفذت في العراق ومطروحة ومثيرة للجدل في ليبيا واليمن، والنعرات الطائفية والعرقية تفت في عضد أكثر من دولة عربية، وتكاثر الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة فرض على بعض الدول الانكفاء على شأنها الداخلي. أضف إلى ذلك زيادة المخاوف العربية بشأن أهداف أميركا والقوى الكبرى، وذلك بسبب سعي هذه الدول إلى حل مشكلتها النووية مع إيران، دون النظر إلى تجاوزاتها الإقليمية، وبسبب موقفها السلبي تجاه مصر بعد ثورة 30 يونيو (حزيران).

Share This