أردوغان – أوغلو … إلى أين تسير تركيا والمنطقة؟


كل ما خطط له أردوغان كان ممتازاً، فهو استغل إنذار 28 شباط 1997 الذي وجهه مجلس الأمن القومي التركي إلى ائتلاف أربكان – تشيللر، والذي أدى إلى استقالة الحكومة التركية وحل حزب الرفاه في 16 كانون الثاني 1998، ليقوم بتأسيس حزب جديد هو حزب العدالة والتنمية مع مجموعة من قياديي الرفاه السابقين قاطعاً الطريق على معلمه القديم للعودة إلى الحياة السياسية من جديد.

وقُبيل غزو العراق عام 2003 رفض البرلمان التركي طلب المشاركة في القتال إلى جانب القوات الأميركية. الأمر الذي استغله أردوغان، وبدعم خفي من واشنطن، ليقوم بتحجيم دور الجيش في الحياة العامة في تركيا بالتعاون مع حركة الخدمة التابعة لرجل الدين المشهور فتح الله غولن، عن طريق القضاء، حيث تمت إحالة عدد من كبار ضباط الجيش إلى المحاكمة فيما عُرف بقضيتي أرغينكون والمطرقة، وعلى إثرهما تم الحكم على عدد كبير من الضباط والصحفيين والناشطين في المجال العام بالسجن لمدد متفاوته.
وبعد احتجاجات ساحة تقسيم وعملية “الرشوة الكبيرة” التي أدت لتوجّه ضربة قوية إلى أردوغان كونها مسّت في الصميم أخلاقية بعض الأفراد المقربين من أردوغان وكشفت مدى تورطهم في قضايا فساد خطيرة. بدأ أردوغان بمحاولة القضاء على حركة الخدمة بعد أن اتهمها بمحاولة تأسيس كيان موازي للدولة.

وفي هذه الأثناء كان أردوغان يُحكم السيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ليحاول بعدها السيطرة على المؤسسات الإعلامية عن طريقة شرائها بواسطة أتباعه أو ترهيبها وذلك بزج الصحافيين في السجون، الأمر الذي أدى إلى تحول تركيا إلى أكبر سجن للصحفيين في العالم. كل ذلك حتى يقضي على كل صوت معارض له في تركيا.

مما سبق، نرى أن أردوغان في كل مرحلة من مراحل تاريخه السياسي قام باستخدام جماعة أو حزب حتى يحقق ما يُريد ومن ثم يقوم بتوجيه ضربة قوية إليها. الأمر الذي يجعلنا نتساءل إن كان مثله الأعلى هو ميكافيللي أم شخص آخر.أما على صعيد حزب العدالة والتنمية، فقد أيقن أردوغان باكراً إن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً متماسكاً أيديولوجياً. فهو يعتبر أقرب إلى تجمّع قوى يجمعها العداء لقيم أتاتورك العلمانية وحكم العسكر. لذا وجدت القوى الليبرالية وأصحاب الطرق الصوفية والفئات المهمّشة اقتصادياً فرصتها للانقضاض على هذه القيم والانتقام من العسكر عندما ساهمت في إيصال حزب العدالة والتنمية إلى الحكم وعملت على تعزيز سلطته خلال الفترة المنّصَرِّمة. ومن أجل ذلك استعان أردوغان بخدمات الأستاذ الجامعي أحمد داوود أوغلو كي يضع الأسس العقائدية للحزب ويرسم سياساته الداخلية والخارجية.
الأمر الذي أدى إلى موجة احتجاجات داخل حزب العدالة والتنمية، كون سياسة “صفر مشاكل” التي وضعها الحزب أدت إلى صفر أصدقاء في الخارج ومشاكل لا تنتهي في الداخل نتيجة الخطابات الطائفية والسياسات المذهبية التي انتهجها الثنائي أردوغان – أوغلو في الداخل، وتورطهما في لعبة صراع المحاور للسيطرة على الشرق الأوسط حيث تحالفا مع الإخوان المسلمين ضد المحوريين السعودي والإيراني، وانخرطا في لعبة واشنطن لتغيير الخريطة السياسية للمنطقة. الأمر الذي قد يرتد على تركيا ويُدخلها في صراعات داخلية في حال قرر جميع المتضررين، داخلياً وخارجياً، التحرك وتوجيه ضربة معاكسة لسياساتهما.

وبعد فوزه بمنصب رئاسة الجمهورية في تركيا، أخّر أردوغان إعلان النتيجة في الجريدة الرسمية حتى لا يُتهم بمخالفة الدستور بعد أن جمع المناصب الثلاث، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية، ليقوم بعملية تحّجيم قيادات الحزب التاريخية كعبد لله غول وبولنت آرتيش ومنعها من الوصول إلى رئاسة الحزب. ومن أجل ذلك قرر ترشيح أحمد داوود أوغلو لمنصب رئاسة الوزراء حتى يضمن أن يكون أوفى رجاله في الموقع الذي قد يُهدد طموحه بالسعي لتحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، الأمر الذي سيمنحه صلاحيات واسعة تسمح له بتصفية الإرث الأتاتوركي والبدء بعملية أسلمة تركيا. وهكذا نرى أن آخر من استخدمهم أردوغان ورماهم على قارعة الطريق هم رفاق دربه الذين مكنّوه من السيطرة على مفاصل الحكم في أنقرة.

أما خارجياً، فلن نرى تغيّر كبير في سياسة تركيا الخارجية فموجة العنف التي تضرب المنطقة ستزداد جنوناً في محاولة لتحجّيم دور المحور السعودي – الخليجي في ليبيا ومصر، ومحاولة كسر عظم المحور الإيراني في سورية والعراق بعد أن تمكنت أنقرة من نسج تحالفات استراتيجية مع الأكراد قد تؤدي إلى تأسيس كيانات كردية تدور في فلك أنقرة. هذا الأمر يترافق مع محاولة تغيير أنقرة لنظام الحكم في دمشق بالقوة والإتيان بالإخوان المسلمين للحكم الأمر الذي سيؤدي لتوجيه الضربة القاضية للمحور السعودي ويسمح بالبدء بعملية تغيير أنظمة الحكم في الخليج بما يتوافق وطموح أردوغان.
أما أوروبياً، فلن تتغير سياسة الشد والجذب حول مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، فالتعديلات الدستورية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الدول المرشحة للانضمام إليه مرفوضة من قطاعات واسعة كونها تمس وحدة البلاد، من جهة نظرهم، وما الكلام عن الفروق الدينية والعقائدية إلا لذر الرماد في العيون. وقد يشهد ملف النزاع الأرمني – الأذري مزيداً من التسخين حتى درجة الانفجار، فالسياسة الأرمنية في القوقاز تعيق الحلم العثماني بتحقيق التواصل البري بين أنقرة والقوقاز ودول أسيا الوسطى ذات الأصول التركية الأمر الذي يسمح لتركيا بالتحول إلى قوة دولية، من وجهة نظر الثنائي أردوغان – أوغلو.

إن السياسات التي انتهجها هذا الثنائي، المبنية على نزعة قومية عنصرية وطائفية صارخة، في سبيل تحقيق طموحهما بإعادة تأسيس الخلافة العثمانية واستعادة الأرضي التي فقدها الباب العالي بعد الحرب العالمية الأولى، قد حولت المنطقة إلى “سفينة نوح” بعد أن شرّعت أنقرة أبوابها لجميع شذّاذ الأفاق والسفاحين والمرضى النفسيين في العالم كي يمارسوا إجرامهم وفجورهم على سكان المنطقة. مع ملاحظة أن سفينة سيدنا نوح لم تحوي إلا عائلته وزوجين من كل حيوانات المعمورة.

جاك جوزيف أوسي

جريدة النور العدد 640 الأربعاء 27 آب 2014

Share This