جيرار أفيديسيان في “غاليري هماسكايين” دون كيشوت يوقظ الذاكرة الجماعية الأرمنية

جيرار أفيديسيان هو المسافر في الاتجاه المعاكس نحو ملحمة الجذور الحاملة مآسي تراجيدية لا تمحى ولا تنسى. إنه الدون كيشوت الذي يحارب النسيان ويحاول ايقاظ الذاكرة الجماعية كي تبقى شعلة الاستشهادات حاضرة في جينات الشعب الارمني الى دهر الداهرين.

من أجل التاريخ ومن أجل الأجيال الآتية، يتفانى جيرار أفيديسيان في بعث شخصيات يصوّرها ويرسمها ويُلبسها أفضل الملابس التي يحاول أن تكون مخملية محملة بخوراً واسراراً وحكايات تصبّ كلها في خانة البحث عن الأجداد وأجداد الأجداد وإحيائهم ليكونوا شهداء وشهوداً في الآن نفسه، من أجل الاستمرار في الوجود مهما كانت المراحل، وخصوصاً تلك التي سجلت حضورا في تاريخ الأرمن الموزعين اليوم في غالبية اقطاب الارض.
يعرض أفيديسيان في برج حمود (في غاليري هماسكايين) مجموعة من أعماله بعنوان “ظل الأجداد” إلى 30 ايلول الجاري، حيث عشرات الوجوه مجمدة في وقفات صامتة وغير متواصلة. تواجه المتلقي وتتجاوزه من دون أن ترف عيونها. هل هي حقاً آتية الينا من الماضي أم تشبه جارنا وابن عمنا وابن قريتنا والجد الذي يسكن الطبقة العليا في بنايتنا؟ كلا. طبعاً كلا. انها فقط اتية من مخزون الذاكرة التي اكتملت مع سنوات النضج وبقيت امينة لملابسها وتاريخها وشكلها وابتساماتها وملامحها. كان جيرار افيديسيان قد أخرجها في لحظة مقدسة جمعتها كلها وأخرجتها متشابهةً، صوراً لأجداده وأجدادنا مع فرق واحد هو الملابس.

الفنان بإحساسه المرهف الذي عرفناه ممثلاً ومخرجاً ومثقفاً اخذنا معه ليطلعنا على لعبته الجديدة. لاحقناه في مغامرته. فاجأنا أولاً، فاعتقدنا ان عنده “موّالاً” يريد أن يغنّيه، لكننا غلطنا. وها هو يضع نتاجه الجديد امام عيوننا، قاذفاً الى حواسنا وذكرياتنا هؤلاء الاشخاص الملتحفين بهذه الملابس الغامقة والمخملية والمرقطة التي تشبه ما كانت عليه تقاليد اجداده الارمن الذين نقلوا معهم الى الامكنة التي استقروا فيها، لغتهم وعاداتهم ومهنهم وحكاياتهم وتاريخهم المأسوي، كما اليومي والعادي الذي يخشون عليه الضياع. خطفهم أفيدسيان في غفلة عنهم وسجل وجودهم في اعمال تجمع في الوقت نفسه الارتجال والتأني. كأنه يحضرهم ليتقاسموا الادوار في مشهد مسرحي. دقته في لصق الاقمشة والحلى، تجعلها واقعية إلى درجة ان المتلقي يشعر بحاجة للمسها واكتشاف عملية تركيبها وحرفيتها الفائقة.

ليست الاعمال هواية عابرة، بل عملية جدية للغاية، حيث تؤدي الشخصيات أدوارها المهنية، وحيث يبرع الفنان في اعطائها ملامحها كأنها داخل أيقونة قديمة فيها خليط تزييني لإشارات وأشكال وطيور شرقية وألوان تضج بالحياة وتكوّن صوراً واقعية لما كان يفرش على الأرض من سجاد وبسط محوكة بأيدي الجدات والامهات.
لا يمر المتلقي بسرعة أمام الأعمال، التي تمتلئ بما يثير العين، فيشعر أحيانا بحاجة للابتسام، وخصوصاً لأن الأحمر والأسود والأصفر، هي الألوان التي تمنح شخصياته ماركة تعريفية.
علينا أيضاً أن نذكّر بأنه يقدم شخصيات مثيرة، تفتح شهيتنا لاكتشاف أسرارها، من مثل “الباش بزق”، فضلاً عن صور العازفين على الالات الشرقية والمقاتل وسلاحه والزوجين السعيدين، ومن يحمل على الرأس صينية ملأى بالفاكهة، والكثير من الاشياء شبه كاريكاتورية. تفضلوا وزوروا المعرض علّكم تتذكرون اجدادنا ايضا.

لور غريب

النهار 

Share This