معرض رافي يداليان.. تفكيك الجسد وتخييل التركيب

“شغف الإنسانية” هو العنوان الذي اختاره الفنان رافي يداليان لمعرضه الذي يقام في غاليري Art on 65th (الجميزة)، لغاية 18 الجاري. ويفسر الفنان هذا الشغف من خلال تقليب الشكل البشري في حالات وطقوس وتعبيرية شديدة التنوع، كأن التنوع ذاته والبحث عن حقل واسع من المفردات الشكلية والتآليف هو الذي يفسر هذا الشغف. بل إن التخييل الذي نراه في تشكيل الجسم البشري، من خلال انفتاحه على احتمالات تبدأ من التمثيل المبسط ولا تنتهي عند سريلة لأعضاء الجسم بلا حدود.
25 لوحة مشغولة بالأكريليك والزيت والمواد المختلطة، يعتمد الفنان في أكثرها الأسود والرمادي، وفي عدد قليل منها يُدخل ألواناً أخرى، لا سيما في الخلفية التي يفضّل فيها اللون القرميدي. إلى جانب 10 منحوتات برونزية وخشبية وتجهيز من مواد مختلفة. وما يمكن ملاحظته في كل الأعمال، تلك الحدة التي تحكم خطوط اللوحات وخطوط المنحوتات في آن، حتى لتبدو المنحوتات خنجرية جارحة أحياناً، وإن كانت تحمل ملامح وجه الإنسان أو بعض قامته.

في أي حال، نحن أمام شكل مفكك لجسم الإنسان، يعيد الفنان تركيبه كما يشاء، فيطيل عضواً ويختصر آخر. يمط ويختزل… المهم أن الخطوط لديه بارزة بقوة ومحددة، لا تشوبها ضربات عشوائية، تفصح عن الشكل لا كما هو في الواقع إنما كما يريده الفنان، كما يتخيله، أو كما يريد له أن يعبر. ولعل تلك الاستطالات والخيطية التي يمد بها الأجساد أقرب إلى ما كان يعبر به جياكوميتي، أما فصاحة الخطوط وحدتها فأقرب إلى خطوط وجوه موديلياني، وإن ابتعد رافي عن بيضاوية وجه موديلياني وعمل على تكسير خطوط الوجه. هذا التكسير الذي يتوافق مع الصيغة التفكيكية للجسم عموماً.

لا يحكم يداليان ريشته بأي نوع من التصوير التمثيلي، ولا يخضع نفسه لسلطة مرجعية الواقع، إذ يفصل شخوصه عن واقعهم ويعزلهم عن أي مشهدية، ليقول إن المشهد هو الجسد نفسه، الجسد الذي يركز عليه ويريد إبرازه وتنفيره بخطوط قاسية، حتى أنه يبرّد خلفية اللوحة، ويجعلها محايدة تماماً، ليترك الفصاحة للخطوط وحدها، لتعبيرية الوجه والجسد، لشعرية المخيلة التي تفتح مروحة احتمالات التشكيل المتمادي الحر، الذي يجعل الخطوط القاسية نفسها طيّعة مرنة، بل يهتم الفنان بتسخير الحركات التي تعتمد على ليونة مفصلية بين عضو وآخر، تجعل حركة الأطراف والجذع تتم بدينامية عالية، تقدمها تلك التقاطعات والتصادمات، بل مضاعفة الحركة أو التفصيل نفسه أو المفردة نفسها، كما في تحويل العين الواحدة، في إحدى اللوحات، إلى غابة عيون، أو رصّ مجموعة من الوجوه في اصطفاف حزين، أو تركيب الوجوه فوق بعضها، بحيث يبدو أحياناً كأنما يرينا وجهاً واحداً من جهات مختلفة، في تماهٍ أو ملامسة وإن من بعيد للتكعيبية.
ويطول الكلام على طبيعة الخطوط التي يرسم بها يداليان شخوصه، من دون أن ننسى تلك الهندسية التي تساهم في انسياب الشكل، ثم تساهم في وسم غالبية الخطوط بالأناقة، مع ما في بعضها من تكسّر أحياناً. ولا بد من ملاحظة أن التعبيرية الغالبة لشخوص المعرض تلك التي تنحاز إلى الحزن الذي يدمغ وجوه العديد من شخوص الفنانين الأرمن، الحزن المعتق الشفيف الهادئ الانسيابي.

وأهم ما في لعبة الفنان هنا أنها ترتكز إلى انفعال شعري يعتمد على فيض مخيلة ولّادة وفوارة لا تهدأ ولا تنضب، مخيلة شغوفة بخلق عالم غرائبي، فيه من جنون التشكيل ما يكفي لمخاطبة مخيلة المشاهد وإمتاعها قبل مخاطبة العين وذاكرة الواقع.

أحمد بزّون

السفير

Share This