موشيغ ايشخان،الكاتب الأرمني الذي قضى طفولته في دمشق

د. نورا أريسيان

يعتبر موشيغ ايشخان من أبرز الكتاب والشعراء الأرمن في المهجر. عاش قسطاً من حياته في البلاد العربية. ولد عام 1914 في سيفريهيسار (قرب أنقرا). تم تهجيره مع عائلته الى دير الزور. قضى طفولته في دمشق حيث أتم تعليمه الابتدائي ثم انتقل الى قبرص حيث أكمل تعليمه الثانوي. غادر الى بيروت وبعدها الى بروكسل حيث درس الأدب في جامعاتها. استقر في بيروت وتفرغ للكتابة والتدريس وتوفي فيها عام 1990.

لفت موشيغ ايشخان (اسمه الحقيقي موشيغ جينديرجيان) الأنظار منذ مجموعته الأولى وهي عبارة عن قصائد بعنوان (أغنية البيوت) 1936، وتلتها مجموعة (أرمينيا) 1946 و(حياة وحلم)1949 و(الخريف الذهبي) 1963 وغيرها. فنجد نار مشاعره الرقيقة والصادقة وغيوم الحزن ترافق دوماً سطور شعره. وترى في أعماق إبداع الكاتب نضال الأرمن للحفاظ على الهوية والوطن والطوباويات الانسانية.

كتب موشيغ ايشخان عدداً من المسرحيات حيث تتناول مواضيع وطنية ونفسية واجتماعية مثل (الرجل الذي خرج من البراد)، ومسرحية (ملك كيليكيا) وغيرها. فالألم والحزن والتمرد والغضب والابتهاج، كل هذا حاضر في كتابات موشيغ ايشخان.

من أعماله النثرية (من أجل الخبز والنور) 1951 و(من أجل الخبز والحب) 1956 و(وداعاً أيتها الطفولة) 1974. وكذلك عمله المؤلف من ثلاثة أجزاء (الأدب الأرمني الحديث) عام 1973-1975. وسمي بأمير الكتابة الأرمنية تيمناً بكنيته التي تعني (الأمير) باللغة الأرمنية.

تأتي روايته “من أجل الخبز والنور” لتروي قصة طفولة الكاتب موشيغ إيشخان التي قضاها في دمشق. إنها رواية حقيقية تدور أحداثها حول التلميذ الذي اضطر لترك المدرسة ليؤمن لقمة العيش له ولوالدته وعمل في مهنة الأحذية، (البوياجي) كما يقدم نفسه، وذلك من خلال شخصية الفتى (ستراك) البالغ من العمر 14 ربيعاً وليصبح بعد سنين طويلة الكاتب المشهور في الأدب الأرمني في المهجر.

يعود الكاتب بتداعيات ذكرياته الى مدينة دمشق بشوارعها وبيوتها الدمشقية، فنجد في الرواية التفاصيل التي لاحظها الفتى في مدينته دمشق. إنه يعيش حالة من الازدواجية بين حياة المدرسة وحياة الشوارع. تبدأ الرواية بفصل بعنوان (المبتدئ) حيث يصف اللحظة المصيرية التي ستغير حياته من طالب في المدرسة الى صانع بويا متجول. وتكون البداية بتعرفه على صندوق البويا وعلاقته الجديدة الحميمة معه. يبدو ظاهراً قدرة الكاتب العالية في وصف يومه الأول وتجواله في الشوارع بعد انقطاعه عن حياته المدرسية بسبب لقمة العيش. ومن جهة أخرى نلمس حالة حزن أمه التي “تقتلع ابنها الوحيد من المقاعد الدراسية وترميه في الشراع بين جمع الناس الغرباء والأشرار. ليس هو الذي سيرتمي تحت أقدام المارة بل قلب أمه الدامي”. (ص 7 )

لقد حفرت دمشق مكاناً لها في روحه وذكريات طفولته. ولذلك نجده يصف المنطقة التي عاش فيها بدمشق بكثير من الدقة: “كان الشارع الرئيس للحي يتوسع أمامه. وكان لهذا الطريق الذي أضحى الشاهد على نمو كل شبر من طفولته سحره الحميمي في عيون ستراك. فالأبنية والمحلات معروفة، وحتى الحجارة غير المرتبة تحت عجلات العربات. كل شيء على ما هو عليه، إلا الزمن، الذي كان يقفز بخطواته أسرع من المعتاد.

في هذا الوقت من اليوم، عندما تفتح المحلات مصراعيها المتصدئة مدوية كان يجلس لتناول الفطور أو ينشغل بمراجعة دروسه. إلا أنه كلما تقدم كانت الحياة تدخل في إطارها الطبيعي. ما الذي تغيير ؟…

بدا له وكأنه ككل يوم يذهب الى المدرسة من جديد، حاملاً على كتفه حقيبته المدرسية. يكفي أن يستمر هكذا ويقطع الجسر ويصل الى مخفر الشرطة ثم ينحرف يساراً وها هي قبة الكنيسة البهية تستقبله والى جانبها باحة المدرسة بضجيجها.” (ص 10).

إنه يعيش ازدواجية مصيره المحتم بين الحياة كما هي والحياة الطفولية داخل حضن المدرسة حيث “تذكر معلمه الأستاذ سركيس الذي كان يكرر دائماً: يا أبنائي، المدرسة شيء والحياة شيء آخر. النضال من أجل الخبز لا يعرف الرحمة. القوي هو الذي ينتصر دائماً …”. كان يراقب ما حوله وقد تعلم أول درس في النضال من أجل الحياة، ويسأل نفسه “أين يذهب هو؟ أين مصدر خبزه ؟ الى أي جهة سيتجه كي يلقى نجاحاً ؟ كيف يثبت وجوده في مد وجزر بحر المجتمع هذا ؟” (ص 12).

وفيما بعد، يصف بدقة بائع الكعك وطريقة استجذابه لأهل الحي عن طريق صيحاته ويتشجع منه ليبدأ بالتدرب على صيحات تليق بالبوياجي …

إنه يدرك أنه الأمل الوحيد الذي تنتظره أمه. فاللحظة الحاسمة أتت، ها هو ينتقل الى عالم آخر وسيترك مشاعره كطالب مدرسي في اللحظة التي سيحمل فيها صندوق البويا. وفعلاً يتخطى كل الصعوبات وينجح في عمله. ” ذلك الطالب السابق في المدرسة الأرمنية، ذاك الذي كانوا يشيرون إليه بالأصبع في الصف كطالب واعد ينتظره مستقبل باهر، وجد نفسه وحيداً مع أسى بهجة ذاهبة دون عودة. نظر الى يده البيضاء وأصابعه الرفيعة التي باتت لا تعرف بوجود لطخات الصبغة السوداء. بأي ماء تغتسل تلك الأيدي المتسخة على ساحة الحياة ؟ لقد مات شيء ما بداخله، شيء ثمين جداً. الأمر الأفظع، هو أنه اضطر ليكون شاهداً على مأتم طفولته الميتة وأحلامه المتفتحة…” (ص 17).

لا يفوت فرصة إلا ونقل مشاعره تجاه الصور الدمشقية بكلمات وصف رقيقة: “كانت الليلة الدافئة الخريفية المنسدلة على دمشق مليئة بعذوبتها الحزينة وتنثر الصلاة الممتدة من المئذنة في كل مكان. كانت المئذنة العالية للمسجد المجاور تضطرم بأشعة الغروب. ورغم اكتظاظ حركة السير كان الشارع يتدفق بمسير قافلة الجمال التي تدخل المدينة وكأنه لا يريد إزعاج سلام المساء الرحب. كان باعة جوالون وحرفيون وعمال لفحت بهم الشمس يعودون الى بيوتهم بخطوات عنيدة، البعض يحمل سلة والبعض الآخر يشد على رزمة الخبز تحت الإبط. ارتاح ستراك تحت شرفة بناء كبير على المفترق، مستسلماً لحلم خلجاته المبهمة…” (ص 19).

وها هو يشعر بدفء المدينة، فشوارع دمشق باتت أليفة بالنسبة إليه وبدأ يتأقلم لينمو إحساسه المرهف في رحابة المدينة. كتب تحت عنوان “مرايا مجوسية”: “كان صباحاً مشرقاً. إنه أحد الأيام الدمشقية المشمسة، عندما تمنح زرقة السماء الغامقة وحي الربيع، وتحت دفء الشمس العذب تحاول الأشجار بعد أن سقطت أوراقها الخريفية أن تعطي البراعم متناسية برد الشتاء ورياحه. كانت روح ستراك تشع بصورة السماء. كان يشعر بحاجته ليحول صيحة البوياجي العادية التي تشق طريقه الى أغنية بهيجة. لقد أدرك دوره وتعايش مع وضعه فهو لن يتأفأف من أحد. لقد بدا الصندوق المعلق من كتفه خفيفاً مثل الريشة، وخطواته تقوم بقفزات مجنونة على الطريق المبسوطة… استدرك الأمر وفكر ولم يجد شيئاً…” (ص 65).

ومن خلال تجواله في الأحياء الدمشقية لتلبية زبائنه كان يصادف أهل دمشق بكل شرائحهم. حتى عندما وصف إحدى الفتيات، أتى بمقاربات مع مدينة دمشق: “فتحت الباب فتاة جذابة وعذبة مثل ليالي دمشق الصيفية، وابتسمت له بابتسامة النجوم قبل أن تسلمه زوجاً من الأحذية تشبه اليمامة. وشعت عيونها نوراً غريباً بسوادها المخملي حتى تغلغل داخل أعماق روحه. وعندما انحنت الفتاة غدى شعرها المنسدل على أكتافها شلالاً متموجاً وغطى هلال وجهها كالغيمة… ومن خلال الباب نصف المفتوح ترى باحة واسعة بالبلاط الرخامي وبحرة نافورة ماء وحولها أحواض نباتات خضراء. فالسحر طاغي وكامل. كانت الفتاة تدور حول البحرة بقبقابها الخشبي المزخرف بالصدف. وكان صدى خطواتها الرنانة يختلط بأنغام لحن أغنية عربية تسيل بعذوبة من شفاهها” (ص 114).

وها هو الكاتب يصف الصبي، أي يصف نفسه، وهو على قارعة الطرق في دمشق لا يستطيع الانفصال عن الكتب: “في وقت متأخر من الليل، وفي إحدى زوايا الحي المسيحي في دمشق، في إحدى الشوارع التي تصل المدينة بالبساتين وافرة الثمار، كان المارة يتوقفون ليشاهدوا باندهاش صبي أسمر نحيل الجسد وقلق، جالس قرب حائط بيت طيني وهو يقرأ كتاباً على ضوء مصباح عامود التلغراف. كان يمكث هناك في الخارج على الرصيف، أكان القمر مضيئاً أم لم يكن، أكان المارة يسببون ضجيجاً أم لم يسببوا، إنه هناك دائماً على الكرسي الصغير والكتاب على ركبتيه… كان الجو معتدلاً، مفعماً بعبق الأزهار التي تفوح بعطر أول الربيع. ومن مكان ما، من نافذة مفتوحة قريبة أم بعيدة، كان صوت يصدح خارج الدرفات “يا ليلي ..” ليمد لحن عربي مغروم، ناثراً في الصمت الليلي أشواق القلوب وأوجاعها. منغرقاً في قراءاته، كان الصبي غير آبه بما يجري حوله…” (ص 143).

كما لم يغب عن الكاتب سرد تفاصيل مطالعته وشراهته للكتب: “خلال فترة النهار، في أي لحظة، وفي أي شارع من حي معروف وخاصة قرب الكلية الفرنسية (المشفى الفرنسي ن. أ.) حيث يسود الهدوء، كانت عيون المارة معتادة لرؤية البوياجي ذو العيون السوداء المنهمك بالقراءة أكثر من صباغة الأحذية. كان يجلس واضعاً قدميه على الصندوق والكرسي الصغير يميل الى الخلف، لاصقاً ظهره الى الحائط. وبهذه الوضعية يمكن للمرء إما أن يقرأ أو ينام. مخطئ كل من يظن أنه نائم. لأنه، إن لم يحرك شفتيه فذلك بسبب كونه قارئاً متمرساً يعرف الانزواء والخلوة. وبالعكس، أثناء مشيه، غالباً ما كان يتمتم أشياء ويعطي الانطباع على أنه بوياجي أبله يتحدث مع نفسه. من سيخمن أنه في تلك اللحظة كان هو بحوار مع أبطال الرواية التي هو بصدد قراءتها أم أنه يكرر جملة هامة تعلمها ؟…” (ص 144).

رواية “من أجل الخبز والنور” هي سيرة الكاتب المعروف بطل الرواية. إنها رواية مفعمة بالأسى والنضال في آن معاً. يطغى عليها الأسى كونها تحمل مذكرات عن طفولة سرقت منها الأحلام والكتب المدرسية من أجل الخبز والنور، إلا أن الرواية تفوح عشقاً لدمشق ولياليها وبيوتها على حد سواء.

لقد أخذت دمشق حيزاً كبيراً من مساحة الرواية كونها تشكل جزءاً مهماً من حياة الكاتب. لقد كانت المأوى الآمن له ولعائلته مثله مثل عشرات آلاف الأرمن الذين استقروا فيها أو غادروها الى بلدان أخرى. ويبدو أنها هي التي حرضت موشيغ إيشخان على الكتابة والابداع فيما بعد الى أن أضحى من أبرز الكتاب الأرمن.

Share This