رئيس تحرير “عين على السينما”: سيكون لفيلم “القطع” دور في الملف الدموي بين الأتراك والأرمن

Cut1

كتب أمير العمري رئيس تحرير عين على السينما مقالاً في موقع “عين على السينما” بعنوان (“القطع” لفاتح أكين: موضوع كبير ضاع في التفاصيل)، قال فيه: “أخيرا عرض الفيلم المنتظر للمخرج الألماني- من أصل تركي- فاتح أكين- أي فيلم “القطع” The Cutالذي سبق أن سحبه مخرجه من مهرجان كان لكي يعرضه هنا في مسابقة مهرجان فينيسيا الـ 71.

هذا بلاشك أكثر أفلام مخرجه طموحا من ناحية الامكانيات الفنية، فهو يسعى إلى أن يجعله فيلما ملحميا على غرار الأفلام الكبيرة خصوصا وأن قسما كبيرا منه يدور في الصحراء بمناظرها الخلابة التي تغري أي مخرج بمحاكاة ديفيد لين في “لورنس العرب” مثلا. لكن الفيلم الذي يبدأ بداية قوية، يضعف كلما تقدم في مساره إلى أن ينتهي تلك النهاية الضعيفة بعد أكثر من ساعتين و18 دقيقة، دون أن يضيف شيئا إلى موضوعه.

الموضوع هو ما تعرض له الأرمن عام 1915 من إبادة جماعية على ايدي الأتراك العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، وقيل إن عدد الذين لقوا نهايتهم ذبحا على أيدي الجنود الأتراك تجاوز المليون شخص. يتردد في فيلمنا هذا مرات عدة إسم “أرارات”.. ذلك الجبل الذي يعتقد- حسب سفر التكوين في التوراه- أنه المكان الذي استقرت فيه سفينة نوح، أما في الميثولوجيا الأرمنية فهو “موطن الآلهة”. وهو جبل ضخم يقع في تركيا بالقرب من الحدود مع إيران، وكان المخرج الأرمني الكندي أتوم إيجويان قد أخرج قبل 12 عاما فيلما يحمل عنوان “أرارات” يتناول مذابح الأرمن التي وقعت بالقرب من جبل أرارات، ولكن الفيلم كان يحمل بصمة إيجويان الفنية التي لا تميل الى المألوف من ناحية أسلوب السرد والتعبير بالكاميرا.

أما فيلم “القطع” فهو على العكس من “أرارات”، يروي قصة تدور في ذلك الزمن نفسه، ولكن من خلال شكل تقليدي، وأسلوب فني يميل إلى الإيقاع البطيء بغرض تحويل قصة رجل يبحث عن ابنتيه، إلى ملحمة الفقدان الأرمنية بعد أن تفرق الحال بمن نجا من تلك المذابح وانتشروا غرباء في أرجاء الأرض كلها. غير أن حتى هذه الفكرة لم تتحقق كما كان ينبغي.

قطع الرقاب

بطل الفيلم شاب يدعى “نازاريت” (يقوم بالدور الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم) وهو حداد أرمني في قرية تركية، ومع اندلاع الحرب العالمي الأولى يتم تجنيده مع غيره من شباب الأرمن للعمل في خدمة الجيش العثماني في أعمال أقرب إلى السخرة، ومع تطور الأحداث وتراجع القوات التركية أمام الحلفاء، تبدأ المذبحة التي نراها في الفيلم على نطاق صغير في مجموعة الأرمن بينهم نازاريت، يتم قطع رقابهم على أيدي مجموعة من السجناء الذين أطلق الأتراك سراحهم لهذا الغرض أي لكي يصبحوا أدوات لقتل الأرمن إلا من رغب منهم في اعتناق الإسلام ونبذ ديانته المسيحية حسبما نرى في الفيلم.

ويستمد الفيلم عنوانه من “قطع الرقاب” الذي نشاهده في مشهد شديد الدموية بكل تفاصيله على الشاشة بحيث يصبح صادما للعين باعتباره المشهد الي يريد المخرج ترسيخه في ذاكرة المشاهدين.

لكن بينما نرى الفظاعة التركية في أبلغ صورها، نرى أيضا رجلا تركيا من أولئك المساجين – لص سابق أطلق سراحه- يتردد في قطع رقبة نازاريت ثم يتظاهر بقطعها بينما يكتفي بطعنة في رقبته، لكي يصبح نازاريت الوحيد بين رفاقه الذي ينجو من تلك الذبحة، ويصحبه التركي الذي أنقذ حياته ويعطيه بعض الماء بل ويخلع أيضا نعليه ليمنحهما له. ومن هنا تبدأ الرحلة الطويلة لنازاريت، رحلة التيه في متاهة الصحراء، وصولا الى بلدة تجعى ديار العين حيث يعلم بمقتل جميع أفراد أسرته مع غيرهم، لكنه عندما يصل الى حلب في شمال سورية يلتقي بمساعده القديم في العمل الذي يبلغه بنجاة ابنتيه.

نتيجة تلك الطعنة في رقبته يفقد نازاريت القدرة على الكلام. ولكنه لا يفقد القدرة على الفهم والاستيعاب، يلتقيه تاجر صابون عربي من حلب ويصحبه معه الى حيث يمنحه المأوى والملبس والمأكل والعمل أيضا في مصنع الصابون الذي يملكه في المدينة. والعربي رجل صالح بكل معنى الكلمة فهو يقدم الحماية للأرمن الفارين بل ويأتي وقت يخصص فيه مكان مصنعه بأكمله كمقر لاستضافة اللاجئين الأرمن بعد الحرب أي بعد هزيمة العثمانيين الأتراك.

وجود نازاريت في مصنع الصابون مؤقت، فهاجسه سيصبح متركزا في أمر واحد فقط هو ضرورة العثور على ابنتيه واستعادتهما. وهذا هو موضوع النصف الثاني من الفيلم الذي يطول ويمتد وتمتد معه محاولات صاحبنا العثور على أثر لابنتبه: أولا في لبنان ثم في هافانا بكوبا ثم في مينابوليس بالولايات المتحدة.. وكلما تصور أنه سيعثر عليهما أخيرا في مكان من تلك الأماكن، سرعان ما يكتشف أنهما غادرا- أحيانا قبيل وصوله، بل ويعرف أن واحدة من البنتين قد أصيبت في ساقها وأصبحت عرجاء. ويتضاءل موضوع مذابح الأرمن، ويتحول الفيلم من الطابع الملحمي إلى طابع المسلسلات التليفزيونية التي تمتليء بالمبالغات والثرثرة البصرية والولع بتصوير أجواء الفترة في تلك الأماكن المختلفة التي ينتقل إليها البطل.

وفي تحية مباشرة الى شارلي شابلن يقدم أكين مشهدا يدور في احدى ساحات حلب لعرض سينمائي من تلك العروض الأولى في أوائل العشرينيات، لأحد أفلام شابلن، يشاهده جمهور من العامة يفترش الأرض مبهورا بسحر الاختراع، وبينه نازاريت الذي يتفاعل كثيرا مع الفيلم ضحكا ثم تأثرا حد البكاء. وهو مشهد زائد خارج السياق بكل تأكيد رغم جماله.

تراكم كمي

ويعجز سيناريو الفيلم في تطوير الموضوع أكثر خارج ما شاهدناه في الجزء الأول من الفيلم بحيث يصبح كل ما سنشاهده بعد ذلك تراكما كميا لا يضيف دراميا بل ولا يعمق إحساسنا بالموضوع.

وفي أحد المشاهد الزائدة أيضا، نرى كيف يعتدي بطلنا على رجل في هافانا قيل له إنه كان مسؤولا عما تعرضت له ابنتاه من متاعب وبعد أن يرضبه بعنف يسرق نقوده لكي يدبرالمبلغ المطلوب دفعه لمن سيقوم بادخاله الى أمريكا رغم اعاقته الواضحة التي لا تسمح له بالهجرة الطبيعية، وفي أمريكا يضطر الى التعامل بقسوة مع رجل أمريكي تصدى له محاولا قتله، بعد أن حاول اقتحام منزله لسرقة الطعام، ثم يعمل لفترة في تشييد السكك الحديدية، وينقذ فتاة تتعرض للاغتصاب على يدي أحد زملائه العمال.. وكلها مشاهد تخرج الفيلم تماما عن موضوعه الأساسي ولا تضيف الى الحبكة.

ورغم الجهد الكبير المبذول في الفيلم من ناحية الصنعة السينمائية (التصوير وتنفيذ المشاهد من ناحية الديكور والاكسسوارات والتوفيق الكبير في اختيار المواقع..) إلا أن هذا الجهد يتبدد مع ذلك الايقاع البطيء المترهل والمسار الذي لا يتطور للبطل والذي يقطعه أكين أحيانا، ببعض الأحلام التي تمنح بطله أملا في العثور على ابنتيه، لكنه يعثر في النهاية على واحدة وتكون الأخرى قد توفيت.. لكي ينتهي الفيلم تلك النهاية التي تردنا – بكل أسف- إلى ما بدأه الفيلم ولم يستطع أن ينهيه!

ولرغبة أكين في منح فيلمه فرصة العرض على الجمهور العريض في الولايات المتحدة، يجعل جميع شخصيات الأرمن في الفيلم يتحدثون بالانجليزية، حتى مع بعضهم البعض، رغم أن العرب يتحدثون العربية، والأتراك التركية. وهي نقطة ضعف أخرى في الفيلم.

ولا يسمح الدور- الصامت في معظمه- لطاهر رحيم بالتعبير عن طاقته التمثيلية، خاصة مع عدم تطور الشخصية مع تطور الزمن في الفيلم.

سيكون لفيلم “القطع” دور لاشك فيه في لفت الانتباه الى ذلك الملف الدموي في تاريخ العلاقة بين الأتراك والأقليات وخصوصا الأرمن في الزمن العثماني، وسيكون له أصداء لاشك فيها داخل تركيا نفسها، كونه قد فتح الملف المسكوت عنه طويلا، وعلى يدي مخرج محسوب- بشكل ما- على الثقافة التركية أيضا!

Share This