الأرمن العراقيون من إبادة الأتراك لهم إلى تميّزهم الإبداعي في العراق

ذكرت المجلة الالكترونية الثقافية (أدب فن) أن الدكتور خزعل الماجدي قدمفي (لاهاي) في هولندا  المحاضرة العشرين من سلسلة محاضراته عن وحدة حضارات العراق في 31 من شهر تشرين الأول 2014 وكانت بعنوان (الأرمن: طيف عراقيّ حديث مبدع) في النادي الثقافي المندائي في لاهاي. وقد بدأ المحاضر بملاحظات رأى أنها ضرورية، ولابد منها قبل الشروع في عرض المحاضرة وهي :

1.لا يوجد شعب على وجه الأرض وعلى مدى التاريخ تعرض للمذابح والإبادة العرقية (جينوسايد ) أكثر من الشعب الأرمني.

2.المصادر القديمة شبه معدومة والمصادر الحديثة قليلة وأغلبها غير علمي وغير دقيق ويخضع لتوجهات سياسية وقومية ضيقة جدا، فضلاً عن غياب الإحصائيات والبيانات.

3.التاريخ القديم والوسيط لغاية 1000 م يوضح أنهم المتاخمون لوادي الرافدين قبل أن يغزو الأتراك آسيا الصغرى ويغتصبوها من الأرمن باسم الدين الإسلامي ثم يبيدون أهلها.

4. كل الإثنيات التي هاجرت للعراق وأقامت فيه جاءت بالسيف والقوة إلا الأرمن فقد جاءوا لاجئين مهزومين من مذابح الاتراك لهم.

5. الأرمن العراقيون مسالمون مبدعون لم يحترفوا السياسة ولم يحاربوا الدولة والمجتمع العراقيين بل خدموهما وأبدعوا فيه أيما إبداع رغم قلة عددهم.

وانقسمت المحاضرة الى ثلاثة أقسام أساسية:  هي: أولاً – التسمية وتاريخ أرمينيا، وثانياً – تاريخ الأرمن العراقيين، وثالثاً – مظاهرهم التراثية والحضارية المعاصرة في العراق.

أولاً– التسمية وتاريخ أرمينيا:

بدأ المحاضر بالبحث في تسمية  (الأرمن)  وتمسك بفكرة أن اسمهم له علاقة لغوية مع اسم (آرام) الذي يشير الى الآراميين ويعني (العالي أو المرتفع)  فقد عُرفت أرمينيا في مدونات الملك سرجون الأكدي وحفيده نرام سين (الألف الثالث ق.م) باسم أرماني- أرمانم. وربما جاءت التسمية دالة على مكان وجودهم الجغرافي في أعالي وادي الرافدين أو لصلة حضارية مع الآراميين مازلنا نجهل تفاصيلها لكنهم يقيناً لاعلاقة بينهم وبين الآراميين عرقياً. أما  كون الإسم القديم لأرمينيا (هايك) الذي يعتقد انه مشتق هايك ابن جومر بن يافث بن نوح، فهي رواية دينية غير دقيقة تستطرد وتقول أن هايك كان من المناظرين على بناء برج بابل إلاّ أنه أبى السجود لبعل الجبار (وهو نمرود) الذي كان حينئذ ملك بابل فسار بعائلته وجماعته إلى الجهات الشمالية قاصداً إقليم أراراط فبنوا مدينة سموها “هايكامار” أي مدينة هايك وملكوّه عليهم فسميت بلادهم  (هايك) وكان الأرمن يسمون هايكانية ..هذه الفكرة المبنية على أسس توراتية غير دقيقة وتعطينا رواية وهمية يستحيل التأكد منها.

ثم تحدث المحاضر عن تاريخ أرمينيا بمنهج علميّ آثاري فرأى أنهم موجة آرية (هندو أوربية) جاءت الى آسيا الصغرى في القرن الثامن قبل الميلاد واختلطت بما تبقى من سكانها الأصليين  وهم (الحيثيون،الميتانيون، هاياسا- قزي، نايري، أوراراتو)، وكوّنوا خلال قرنين من الزمان أي في القرن السادس قبل الميلاد أرمينيا التاريخية (أرض أرمينيا الكبرى والصغرى) الممتدة في الأجزاء الوسطى والشرقية من آسيا الصغرى حيث أرمينيا التاريخية  تمتد إلى الشرق من المنابع العليا لنهر الفرات وحتى بحر قزوين وإيران، وتعادل مساحة أرمينيا الكبرى وأرمينيا الصغرى معاً نحو اثني عشر ضعف مساحة جمهورية أرمينيا الحالية. وقد عانت أرمينيا من احتلال الفرس والمقدونيين والسلوقيين والفرثيين والساسانيين  في تاريخها القديم .

انتشرت المسيحية في أرمينيا منذ 40 م ، وفي 301م أعلن اعتناق الدولة الأرمنية الديانة المسيحية واعتبارها دين الدولة والشعب علي يد كريكور المنوّر والملك درتاد الثالث عام 301م، وهي ثاني دولة بعد أورفا تعلن اعتناقها الرسمي للمسيحية، وجاءت القسطنطينية بعد أرمينيا بقليل والتي كونت الدولة البيزطية. ثم خضعت أرمينيا للبيزنطيين وحين تمدد الإسلام أصبحت أرمينيا امارة إسلامية  ذاتية الحكم رغم مسيحيتها في 636م. ثم استقلت عن الحكم الاسلامي وكونّت إمارتها الخاصة وقام روبن الأرمني بتأسيس أرمينيا الصغرى (قليقيلية) غرباً ، وظهرت بودار القوة والاستقلال عند الأرمنيين لكن الصراع البيزنطي الإسلامي سحقهم حتى جاء الإحتلال المغولي فابتلع بلادهم وشعبهم  وسرعان ما تلت الغزوات المغولية  غزوات قبائل أخرى من آسيا الوسطى (قراقويونلو والتيموريين وآق قويونلو)، من القرن الثالث عشر حتى الخامس عشر. حيث ضعفت أرمينيا وأنهكتها الحروب والإحتلالات بشكل كامل .وحين غزا الأتراك بلاد آسيا الصغرى عملوا على تتريكها تماماً ونجحوا في ذلك تحت ظلال الإسلام وأحكموا الخناق على كل شعوبها وفي مقدمتهم الأرمن.

اقتسمت الدولة العثمانية والدولة الصفوية أرمينيا فيما بينهم خلال القرن السادس عشر ثم ضمت  الإمبراطورية الروسية لاحقاً أرمينيا الشرقية (التي تتألف من خانات و يريفان وقره باغ في فارس الصفوية).

وهذا يعني أن الشعوب  المحيطة بأرمينيا وهم (الأترك والفرس والروس) عملوا على امتصاص بلاد الأرمن، وخصوصاً الأتراك الذين كانوا في وسط آسيا والذين احتلوا آسيا الصغرى في حدود 1017 م واستلبوا أرض ارمينيا التاريخية  وعملوا على تهجير وقتل سكانها تدريجياً، فقد كانت أرمينيا هي التي تحد وادي الرافدين من الشمال وظلت هكذا حتى ذلك التاريخ.

في عامي 1813 و1828، تحت الحكم العثماني، منح الأرمن حكماً ذاتياً واسعاً في مناطقهم وعاشوا في انسجام نسبي مع المجموعات الأخرى في الإمبراطورية (بما في ذلك الأتراك الحاكمين). رغم ذلك عانى الأرمن من التمييز لكونهم مسيحيين في ظل نظام اجتماعي إسلامي، لكن ذلك كان مجرد الهدوء الذي يسبق العاصفة، حيث بدأت العثمانيون بسلسلة من المجازر المروّعة طالت الشعوب التي كانت تقع ضمن نفوذهم أو المجاورة لهم وهم  كل من (البلغار، اليونانيون، الأرمن، الآشوريون، المارونيون، الإيزيديون، المقدونيون) وكانت حصة الأرمن من هذه الإبادة العرقية الجماعية (جينوسايد) هو مليون ونصف أرمني من القتلى وتشريد عشرات الآلاف الى المدن العربية بشكل خاص. وبلغت هذه المذابح ذروتها في عام 1915 عندما كانت الإمبراطورية العثمانية تترنح تحت ضربات الحلفاء الأوربيين الذين اقتسموا تركتها وانتهت في حدود 1924 أي قبيل تأسيس الدولة التركية بثلاثة أعوام !!

ومع ذلك لم تنعم ارمينيا بالإستقلال الحقيقي فقد  احتلتها روسيا ثم سقطت روسيا القيصرية  فظهرت جمهورية أرمينيا الديمقراطية  عام 1919 ثم ظهرت جمهورية أرمينيا السوفيتيية الإشتراكية عام 1922، ربما نعمت أرمينيا بشيئ من الإستقرار بعد هذا العام لكن حريتها الدينية بشكل خاص كانت مقيدة ووضعها الإقتصادي مرتبكاً، حتى استقلت عام 1991 بعد سقوط الإتحاد السوفييتي. وهي تنمو الآن ببطء في ظل وضع اقتصادي معقد للغاية.

ثانياً –  تاريخ  الأرمن العراقيين:

في القسم الثاني من المحاضرة ناقش المحاضر  تاريخ الأرمن العراقيين وبدأ بشرح وجودهم في العراق منذ بناء بغداد على يد المنصور حتى الوضع الحالي، فقد كانت هناك ثلاث هجرات للأرمن الى العراق وكما يلي:

1.الهجرة  الأولى بين تأسيس وسقوط بغداد على يد المغول (758- 1258): عند تاسيس بغداد كان هناك ارمن في بغداد  وكانت هجرتهم الاولى من ارمينيا بعد حوالي قرن أي في حدود 852 م كما يقول المؤرخ الارمني موسيس كغاتكوداتسي، حيث جاءت موجات من الأرمن من أرمينيا عبر إيران استوطنت جنوب العراق في بادئ الأمر حيث أنشأت أبرشية للأرمن في البصرة عام 1222م.

2.الهجرة  الثانية هجرة الموجات الثلاث في القرن السابع عشر ( 1604-1640) :

الموجة الأولى: بدأت سنة 1604/1605 من الأرمن الذين هجرهم الشاه  عباس إلى أصفهان، فهاجرت جماعة منهم إلى بغداد ويذكر البعض أنه في عام 1604 كانت توجد في بغداد وضواحيها جالية أرمنية صغيرة، وتذكر المصادر الأرمنية أن بغداد في هذه الفترة كانت من أبرز مراكز نسخ المخطوطات الأرمنية في الشرق الأدنى.

الموجة الثانية: بدأت سنة 1616 من الأناضول هرباً من ظلم الجلائريين.

الموجة الثالثة: بدأت سنة 1638 عندما دخل العثمانيون بغداد.

3. الهجرة الثالثة هجرة المذابح منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين (1850- 1924): أكبر موجات الهجرة الأرمنية للعراق كانت في بدايات القرن العشرين بعد المذابح التي ارتكبت ضد الأرمن في أرمينيا وتركيا .وقد هاجر عام 1917 من ارمينيا الى العراق 25000 أرمني، واستقبلهم الشعب العراقي في كل مكان بالترحاب  ووفروا لهم مااستطاعوا من سكن وطعام.

ثم قدم المحاضر شرحاً تفصيليا لحياة الأرمن في العراق أثناء  الفترة الملكية، وكيف بدأ نهوض الأرمن واندماجهم في الشعي العراقي وعملهم الدؤوب المخلص لتحسين حالهم الإجتماعي والثقافي والإقتصادي وخدمة العراق عبر الطاقات المبدعة الكثيرة لهم حيث برزت في قطاعات التعليم والطب والتجارة والمحاسبة والعسكرية أسماء مهمة لهم خلال هذه المرحلة.

ثم تناول حال الأرمن في الفترة الجمهوريةمؤكداً على على عدم تعاطيهم للسياسة وعدم احترابهم مع الدولة العراقية في كل مراحلها وتأكيدهم على العمل والتعليم والإبداع وهي مهمات حضارية قام بها أرمن العراق على أكمل وجه فتركوا هذه السمعة الطيبة لهم في بناء العراق الحديث والمعاصر. وقد نال الأرمن مانال غيرهم بعد 2003، حيث تعرضوا مع فئات المجتمع العراقي الأخرى للقتل والتعذيب التشريد ولكن بدرجة أقل من غيرهم لوجود أغلبهم في بغداد والبصرة وهجرة بعضهم خارج العراق.

ثالثاُ – المظاهر الحضارية لأرمن العراق:

القسم الثالث من المحاضرة تضمن الحديث عن مظاهر تراث الأرمن وحياتهم المعاصرة في العراق ففي الجانب السياسي لم يكن لهم أي نشاط سياسي يذكر ونأوا عن السياسة والأحزاب مع وجود نوادر قليلة.(تم تناوله في مقال منفرد ينشر تباعاً).

Share This