مقدمة مختصرة للأتراك وثقافة الابتزاز…المقريزي المؤرخ يسجل للأرمني بدر الدين الجمالي دوره

شهدت مصر الفاطمية عصرين متمايزين الأول عصر الخلفاء حيث كانت السلطة متمركزة بيد الخليفة والثاني يبدأ في عام 1073م حتى 1171م ويعرف بعصر الوزراء حيث أصبح القرار السياسي بيد الوزراء وتحول الخليفة إلى مجرد رمز ديني يستمد منه الوزير شرعيته واستمراريته.

عانت مصر في عهد الخليفة المستنصر 1035-1094م من أزمة سياسية داخلية شاملة ترافقت مع أزمة اقتصادية مع فقدان تام للأمن في المجتمع المصري، نتيجة لحالات التمرد الداخلي في الجيش المصري وخاصة تمرد المماليك الأتراك وعلى امتداد 3 سنوات 1066-1069م حيث نفذ المماليك الأتراك أكبر عملية نهب منظمة وسافرة بالهجوم على قصر الخليفة وتوزع المهاجمون ثروة الخليفة المستنصر فيما بينهم بما فيها نفائس الكتب، وتابع المماليك الأتراك سياسة الابتزاز والتضييق على الخليفة وبرز منهم قائدان هما ألدكز وبلدكوتس وانتشرت اللصوصية وقطع الطرق، وغدت أجهزة الدولة مشلولة، كان المستنصر بحاجة لرجل قوي يعيد للدولة هيبتها وسلطتها فوجدَ ضالته في والي عكا بدر الدين الجمالي الأرمني الذي استدعاه إلى القاهرة لإعادة فرض النظام في مصر.

الدولة الفاطمية بعد التمركز

شهدت مصر الفاطمية عصرين متمايزين الأول يدعى عصر الخلفاء 963م-1035 حيث كانت السلطة متمركزة بيد الخليفة والثاني عهد الوزراء 1073-1171م ويدعى عهد الوزراء حيث تحول القرار السياسي إلى مواقع إدارية كانت فيما مضى مجرد أدوات تنفيذية، ولم يعد الخليفة الحاكم الأعلى في البلاد، وتحول إلى مجرد رمز ديني يستمد منه الوزير شرعيته واستمراريته.

الحالة السياسية في مصر قبل عهد الوزراء

عانت مصر من أزمة سياسية داخلية شاملة بين عام 1062-1073م وأخذت الأوضاع بالتفاقم فقد شهدت مصر خلال 12 سنة ظاهرة نادرة من تاريخ الدول فقد تعاقب على كرسي الوزارة أكثر من خمسين وزيراً، ويلاحظ المقريزي أن سبب هذا التخبط يعود إلى كثرة الوشايات في البلاط، وتدخل كبار رجال الدولة ووقوع الخليفة تحت تأثير حاشيته، في عام 1054 لاحت في الأفق ملامح أزمة اقتصادية خانقة ترافقت مع موجة غلاء وانتشار الأمراض والأوبئة واشتعلت المعارك بين فرق المماليك وخاصة بين الأتراك والسودان، ما أدى إلى خلق حالة من الفوضى واضمحلال السلطة وتطور الصراع إلى صراع بين الخليفة والمماليك مما أدى إلى سوء في الأحوال الاقتصادية للدولة، وبادر الأتراك وزعيمهم ابن حمدان بالهجوم على القصر الخليفي وتنفيذ أكبر عملية نهب منظمة وسافر على امتداد 3 سنوات من 1066-1069م وتوزع المهاجمون ثروة الخليفة المستنصر فيما بينهم بما فيها نفائس الكتب، وتصف المصادر التاريخية حال الخليفة المستنصر فتصوره على نحو يستحق العطف والرثاء «فوجدوه وقد ذهب سائر ما كان بعهده من أبهة الخلافة حتى جلس على حصير» (ابن اليسر أخبار 38، أبو المحاسن النجوم 13:5).

وتابع الأتراك سياسة الابتزاز والتضييق على العاصمة وبرز منهم قائدان هما ألدكز وبلدكوتس وانتشرت اللصوصية وقطع الطرق، وغدت أجهزة الدولة مشلولة وتحكم الأتراك في العاصمة وعزلوا الخليفة في قصره، وقد أدرك المستنصر أنه لا مفر من أن يختار بين حالة الفوضى المتردية وبين فرض النظام ولو كان ذلك على حساب سلطانه ودوره كحاكم فعلي للبلاد، وكان المستنصر بحاجة لرجل قوي يعيد للدولة هيبتها وسلطتها، ولقد وجدَ ضالته في والي عكا بدر الجمالي الذي استدعاه إلى القاهرة لإعادة فرض النظام والسلطة على البلاد المصرية.

بدر الدين الجمالي الأرمني

كان بدر الدين الجمالي مملوكاً لوالي دمشق جمال الدولة بن عمار ولقد سميَ بدراً لوجهه الجميل ونسب إلى جمال بن عمار ولقب بابي النجم، في بداية حياته كان مملوكاً مغموراً ترضى هي المهام والمناصب حتى أهلته مزاياه العسكرية من سطوه وقسوة وذكاء «ليستلم أرفع المناصب ويصبح هو ومن ثم ذريته الرجل الأقوى في مصر الفاطمية». بداية حياته السياسية كان عندما عينه المستنصر والياً على دمشق 1063م و1065م ومن ثم والياً على عكا 1065م، وقد اشترط بدر على المستنصر شروطاً ليحضر إلى القاهرة أولها: حل الجيش المصري القديم وأن يحضر معه قواته الخاصة وعماد هذه القوات كانت من العنصر الأرمني ولما كان المستنصر في وضع لا يسمح له بالمماطلة والانتظار قبل شروط بدر الجمالي الذي أبحرَ من عكا مع رجاله إلى الساحل المصري وقبل دخوله القاهرة اشترط على المستنصر اعتقال الزعيم التركي بلدكوتس وبعد اعتقاله دخل بدر الجمالي القاهرة في كانون ثاني 1074م وسرعان ما جمع الأمراء والأعيان المعارضين وتخلص منهم في ليلة واحدة، وهكذا افتتح الجمالي سابقة للقضاء على المعارضين ستتكرر في مصر وسيختتمها محمد علي باشا في وليمة القلعة التي أعدها للماليك 1811م وتقبل خلعة الوزارة في عام 1074م وأطلق الخليفة يده فعلاً بموجب نص السجل الرسمي الذي قرئ أمام رجال الدولة فقد جاء فيه «وقد قلدك أمير المؤمنين جميع جوامع تدبيره وناط بك النظر في كل ما وراء سريره» (المقريزي خطط 305/ السجلات المستنصرية، سجل 56). كانت القوة التي أحضرها بدر الجمالي مكونة في معظمها من الأرمن ومن الطبيعي أن تتخذ الحكومة الجديدة في مصر طابعاً متأثراً بهؤلاء الأرمن الوافدين حتى أن المقريزي وصف السلطة الجديدة بأنها دولة أرمن (المقريزي، المقفى 402:2).

وسرعان ما انطلق الجمالي إلى تحقيق مشروعه السياسي والاقتصادي والثقافي، فحل الجيش المصري لقناعته أن هذا الجيش أصبح مصدراً للاضطراب ودمار البلاد وسكانها. (المقريزي الخطط 8:1 ابن ميسر أخبار 36) وتطلع إلى نشر الأمن في الأقاليم المصرية وأخضعها إلى السلطة المركزية وسحق مراكز القوى السياسية في العاصمة وعلى امتداد مصر واهتم بالإدارة وأجرى إصلاحات إدارية. وأباح الأرض للمزارعين 3 سنوات حتى تحسنت أحوالهم، وأشاد الصروح المعمارية منها باب ذويلة وباب الفتوح وباب النصر ومن منجزاته أيضاً دار الوزارة ودار الصناعة في عام 1078 أضيف إلى صلاحيات الجمالي وظيفتان وهما القضاء والدعوة وأصبح لعبة «كامل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين» (السجلات المستنصرية سجل 34: ص107).

بعد وفاة بدر الجمالي تدرج في منصب الوزارة الفاطمية ابنه الأفضل شاهنشاه ومن ثم احفاده أحمد بن الأفضل، السعيد أبو الفتح يانس الأرمني، بهرام الأرمني، طلائع بن رزيك، رزيك بن طلائع وغيرهم استمر ذلك حتى 1163م، وتعتبر حالة الجمالي مفترقاً مهماً في تاريخ مصر فهذه الحالة رسخت حالة من الاستقرار والأمن وسيادة النظام أنقذت الدولة من الانهيار. وأطالت من عمرها قرناً آخر. كما أعادت لها هيبتها في الداخل والخارج، لكنها قلبت الحالة السياسية، وتحول الخليفة إلى مجرد رمز وتجمعت كل السلطات في أيدي الوزير وغدا العنصر الأرمني القوة الأبرز في المجتمع المصري فرغم قلة عددهم إلا أنهم تسلموا المفاصل الأساسية الحاسمة في الدولة الفاطمية، لكن عددهم أخذ يزداد بالتدريج وذلك بفضل سيل الوافدين من آسيا الصغرى وخاصة بعد معركة الأزكيرد عام 1071. (ابن الطوير نزهة 460)حتى يمكن القول إن الطابع الأرمني في الحكم غدا سمة من سمات هذه المدة (المقريزي المقفى 402:2).

وخلاصة القول إن ما قام به بدر الجمالي كان في جوهره انقلاباً سياسياً بكل معنى الكلمة، إذ فرض نظاماً عسكرياً يرأسه قائد عسكري معتد بنفسه، وبعيد الطموح، جمع في يده السلطات السياسية والعسكرية والقضائية والدينية، لكنه بالمحصلة أعاد الأمن والاستقرار إلى مصر لسنوات عديدة.

سركيس بورنزسيان

الوطن السورية

Share This