تحولات في المشهد السياسي التركي

نشرت صحيفة “النور” في عددها 657 الصادر في 31 كانون الأول 2014 مقالاً بعنوان “تحولات في المشهد السياسي التركي” للكاتب جاك جوزيف أوسي، الذي أوضح أن منظّر (العثمانيون الجدد) أحمد داود أوغلو انطلق من التصور التالي: تركيا ستوجه دفة العالم الإسلامي، إذا استندت إلى إرثها الإمبراطوري الضخم وموقعها الجيو – سياسي الهام، لذلك على أنقرة استخلاص الدروس والعبر من الماضي والعودة إلى القيم الإسلامية العثمانية، كي تتمكن من إحياء روح (الغازي) التي خبت في نفوس الأتراك.

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، دعّم وجهة نظره بنظريات سياسية استخدمت لتبرير مشروعية التوسع الغربي الاستعماري قبل عام 1945. رغم أنه وعد الأتراك بسياسة خارجية تحاكي روح العصر الحديث ومتطلباته، فإنه استند في تطبيق أفكاره على مفاهيم جيو- سياسية مبنية على مفهوم (المجال الحيوي) الذي استخدمته ألمانيا النازية لإسباغ الطابع الشرعي على عملياتها العدوانية في النصف الأول من القرن المنصرم. إذ يرى داود أوغلو أن الدول – الأمم التي نشأت بعد انفراط عقد السلطنة العثمانية هي كيانات مصطنعة. ومن هنا، تبرز حاجة تركيا إلى تحديد (مجالها الحيوي) الخاص، كي يكون الجسر المؤدي إلى الاندماج الثقافي والاقتصادي في العالم الإسلامي الذي ستقوده تركيا في المستقبل. لذلك يرى أن بلاده أمام خيارين: إما أن تهيمن اقتصادياً على القوقاز والبلقان والشرق الأوسط، وإما أن تبقى دولة – أمة أسيرة التمزق الداخلي والنزاعات التي قد تؤدي بها إلى التفكك. وفي سبيل تحقيق هذه الطموحات لا يرى مانعاً من القضاء على الديمقراطية وحكم القانون، وإلغاء حرية الصحافة وتقييد الحريات الشخصية في تركيا.

في هذه الأثناء كان أردوغان يسير على خطا جيرون السرقسطي، الذي وصفه ميكافيللي في كتابه الشهير الأمير، قائلاً: جيرون السرقسطي، الذي صار ملكاً بعد أن كان من أفراد الرعية، لم يعضده في الوصول إلى هذا المنصب إلا الفرص وصفاته الكاملة، لأن أهل سرقسطة الذين كانوا مظلومين، مضامين ومضطهدين انتخبوه رئيساً لهم، ثم صار ملكاً عليهم. ولما جلس على العرش فرّق شمل الجيش القديم وحشد جنداً جديداً، وتخلى عن أصحابه القدامى واختار غيرهم ندماء له، كي لا يكون مديناً لأحد. بعد ذلك بدأ يشيد أسس دولته الجديدة بثبات وقوة، فتعب في البداية كثيراً ولكنه لم يلق أي صعوبة في الحفاظ على عرشه. فأردوغان في كل مرحلة من مراحل تاريخه السياسي قام باستخدام جماعة أو حزب حتى يحقق ما يُريد، ثم يقوم بتوجيه ضربة قوية إليها. وفي الوقت نفسه كان يُحكم السيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ليحاول بعدئذ السيطرة على المؤسسات الإعلامية عن طريقة شرائها بواسطة أتباعه أو ترهيبها، وذلك بزج الصحافيين في السجون، ما أدى إلى تحول تركيا إلى أكبر سجن للصحفيين في العالم. كل ذلك حتى يقضي على كل صوت معارض له في تركيا.

وأكد جاك جوزيف أوسي أنه حتى يستطيع أن ينفذ ذلك، استخدم أردوغان (نظرية المؤامرة) بطريقة بارعة جداً وأعاد إحياء أسطورة (لورنس العرب) أو الضابط البريطاني توماس أدوارد لورنس، الذي رافق قوات الأمير فيصل بن الحسين إبان الثورة العربية الكبرى، بهدف خلق شعور لدى المواطن التركي بأن بلاده محاطة بالأعداء وأنها هدف للمؤامرات الدولية، الأمر الذي أدى إلى موجة واسعة من الخوف من الأجانب لا تستثني أحداً، فكل ما هو غير تركي يعتبر غريباً، إن لم يكن عدواً. وذلك خلال خطابه بجامعة إسطنبول الذي بثته قنوات التلفزيون التركية في تشرين الأول 2014 فقد قال: (لورنس كان جاسوساً إنجليزياً متخفياً في زي عربي… هناك (لورنسات) جديدة متخفية في أزياء صحفيين ورجال دين وكتّاب وإرهابيين… كل صراع في المنطقة تم تصميمه قبل قرن من الآن).

وأشار جاك جوزيف أوسي الى أن نظرية المؤامرة تقاطعت مع اللحظة التركية التي خطط لها الثنائي أردوغان – أوغلو، فقد اعتبرا أن القدر يعمل ثانية لمصلحة العثمانيين الجدد، حتى يحققوا حلمهم بإحياء الدولة العثمانية، بعد أن كادوا يسقطون بفعل الفضائح الداخلية. فيخمدون أي صوت معارض ويقضون على أي منافس محتمل لهم في الداخل، ومن ثم يعودون إلى العراق بحجة الدفاع عن تركمان العراق وينتزعون عروس الشمال السوري حلب التي يعتبرونها من درر التاج العثماني. ويبيعون الخنجر القوقازي لمن يدفع أكثر في مزاد (الشرق الأوسط الجديد)، فمقبض هذا الخنجر بيدهم إن أرادوا أرجعوه إلى غمده أو غرزوه في الخاصرة الروسية الرخوة، وتنظيم (داعش)، الذي يعيث فساداً في بلاد الشام والعراق، طفلهم المدلل، إن أرادوا كافؤوه وإن قرروا عاقبوه.

لكن في معظم الأحوال تتحول هذه الأحلام إلى كوابيس، تنغص على هذا النوع من القادة حياتهم العامة والخاصة، على حد سواء. وتتضاعف معاناتهم كلما غاب عن إدراكهم أن السبب في تلك الكوابيس الحقيقية يعود إلى إطلاق العنان لرغباتهم وغرائزهم لتتحكم في مداركهم، وتسيطر على حركاتهم وسكناتهم، متعاملين معها كما لو كانت هي حقائق الواقع التي لا يأتيها الباطل من أي جانب من جوانبها. وبذلك يبنون مشاريعهم السياسية، وخططهم التكتيكية والاستراتيجية، على رغبات وأوهام لا مكان لها على أرض الواقع.

وخلص الكاتب الى أن العثمانيين الجدد الذي عملوا على رسم حدود المنطقة بخطوط النار ونقاط الدم، نسوا أن المجتمع التركي هو أحد مجتمعات المنطقة التي لا تزال تتراقص بين ثقافة الرماد وتعاليم الجمر الملتهب، وإن هبت ثقافة الإبادة وتعاليم (إدارة التوحش) على شعوبها، فإن النار ستحرق البيت التركي إن عاجلاً أم أجلاً. عند ذلك، قد يكتشف الأتراك وباقي المغرمين به من سكان المنطقة، أن أردوغان الذي لعب دور المقاول لمصلحة واشنطن في ملفي (الربيع العربي) و الحرب على الإرهاب، لم يكن سوى لورنس الشرق الأوسط الجديد متقمصاً دور السلطان العثماني.

Share This