صحيفة “الجمهورية” تزور مركز المسنين للأرمن في بيروت

الجمهورية

كتبت ناتالي اقليموس في “الجمهورية” تحت عنوان “كيف أمضت مُسِنّات الأرمن ليلة الميلاد؟” مقالاً عن مركز “كاهل” للمسنين الأرمن، وقالت: “لم تكن عينا ماريا فقط تتأمّلان طفل المغارة طوال الليل، إنّما معظم عيون أبناء طائفة الأرمن الأرثوذكس التي تحتفل بعيد الميلاد في السادس من كانون الثاني من كلّ عام، فيما تُحيي الكنيسة الكاثوليكية عيد الغطاس. مصابيح مشتعلة، زينة معلقة، أشجار مضاءَة، مرنّمون تصدَح تهليلاتهم في الأحياء الأرمنية، إلّا أنّ للميلاد طعماً آخر في مركز «كاهل» بيت الراحة للمسنّات الأرمن في برج حمّود، حيث يقوى الرجاء وتتغلّب إرادة الحياة.

وأنتَ تدخل مركز «كاهل» تحتار في أيّ اتّجاه تنظر. كلّ ما حولك يناديك. عن يمينك شجرة ضخمة تشعّ منها الأضواء، عن يسارك زينة تعلو الجدرانَ، من السقف تتدلّى كرات حُمر، وفي الوسط مغارة تشعّ دفئاً.

سرعان ما تقترب إحدى الموظفات بابتسامةِ وموَدّةٍ تسأل: «كيف يمكنني مساعدتكم»، وما إنْ أجبناها: «حابّين نعرف كيف بتعيشو الميلاد؟»، حتى أشارت بيدها نحو الطابق الأوّل حيث تتوزّع المسِنّات.

هيصة، أحاديث جانبية، ضجيج التلفاز، هكذا بدا المشهد في صالون الطابق الأوّل حيث يطيب للنسوة التجمّع بالقرب من شجرة الميلاد واسترجاع عادات تلك المناسبة. «نحنا كان يعمل فطاير»، «نحنا ماما بيقلي سَمك بتجيب الحظ»، «نحنا بابا تحضر بارابورما حلويات»… وغيرها من المزايدات في ما بينهنّ.

في محاذاة الصالون رواقٌ يمتدّ لأكثر من 30 متراً، خلف جدرانه، وفي غرَفِه، ألف قصّة وتجربة تدمع لها العين، تجارب بمعظمِها مجبولة بالتحدّيات، تعكس روحيةَ شعبٍ أرمني، عانى، ناضلَ، كابرَ، فكانت له الحياة.

“أتمنى بولادته أن يلمسَ قلبي”. من أعماق قلبها المتضخّم وعظامها المصابة بالترقّق، أمضَت ماريا ليلتها تحاكي طفلَ المغارة، هي التي «شافِت الموت ميّة مرّة ورِجعِت» على حدّ تعبيرها، لا تطلب لنفسِها إلّا الصحة في هذا العيد. لم يخطر في بال ماريا يوماً أنّها قد تمضي بقيّة عمرها بعيداً عن سقف منزلها ودفء أسرَتها، خصوصاً أنّها تزوّجَت وحلمَت بإنجاب الأولاد.
ولكن توفّي زوجها من دون أن ينعمَ الله عليهما بطفل… كيفك اليوم؟ سؤال سرعان ما أثار استغرابَ ماريا، فأجابت: “معي كلّ شي، تضخّم بالقلب، فقر دم حاد، ضعف حديد، ترقّق بالعضم، مشاكل بالفقرات… من مرض إلى مرض”. وتضيف بروح منتصِرة: “سبق أن صلّى عليّ الكاهن بعدما سحبَ الأطبّاء أيديهم من وضعي الصحّي، ولكن قدرة إلهية أبقتني على قيد الحياة، الحمدلله بإمكاني تحريك جفوني، رؤية ما حولي، والتحدّث ولو ببطء، نِعَمُ الله وافرة”.

على رغم ما تعانيه من أوجاع، وعجزِها عن مغادرة سريرها، تؤكّد ماريا أنّه «يبقى للميلاد مطرح»، موضحةً: «أرى الجميعَ يُزيّن، يرنّم، يتفاعل، حتى إنّه يخرج للصالون أو عند أقاربه، وأنا طريحة الفراش، لذا كلّ ما أشعر به من وجع أو مرارة أواجهه بالصلاة. صحيح أنّني أجد صعوبة في التركيز، ولكن أردّد ما أتذكّره من الأبانا والسلام وفعل الندامة… ميلاد يسوع أقوى من أيّ شيء”.

أكثر ما يحزّ في نفس ماريا أنّها ما عادت تقوى على الذهاب إلى الكنيسة، فتقول: «لم أكن أترك مناسبةً في شبابي إلّا وأزور الكنيسة، أمّا اليوم، فأعيش مشتاقة لشذا البخور، ودفء جدران بيت الله، ما يُعزّيني أنّني في ذروةِ صحّتي وحركتي لم أنسَ ذكرَ الله”.

تحرَص ماريا على أن تنقلَ رسالةً واحدة لكلّ من يتعرّف إليها، «الميلاد ليس مجرّد حال وتمضي، إنّما نمط عيش نختبره بعد درب طويل من الجلجلة، إنّه القيامة لروحنا المريضة والخلاص لأوجاعنا».

ونحن نخرج من غرفة ماريا محمَّلين بإرادة فولاذية، استوقفَنا مشهد مسِنّةٍ تجرّ نفسَها على كرسيّ متحرّك في الرواق، تبعناها بهدوء. ما إنْ وصلت إلى جانب المغارة حتى رسمَت إشارة الصليب وتمتمَت: «أشكرك يا ربّ على ما سأتناوله من طعام، فقد حان موعد الغداء، وهناك مساكين يشتهون فتات الخبز». كلامها أثارَ فضولنا ودفعَنا للتعرّف إليها أكثر. لقد رفضَت أن نذكرَ إسمَها الحقيقيّ، واكتفَت بسرد قصّتها لنا.

لماذا أنتِ هنا؟ تجيب الجَدَّة: «هربتُ من سوريا، تحديداً العزيزية، مع ابني، بعدما تدهورَت الأوضاع، وما عاد بوسعِنا تحمُّل مشاهد الدمار وأزيز الرصاص، حتى إنّ المؤسسات الاجتماعية والطبّية باتت في الويل، معظم الأطبّاء البارعين هجروا سوريا، والنتيجة أخطاء طبّية بالجملة”.

وتضيف مشيرةً إلى كرسيّها المتنقّل: «إنّني واحدة من اللواتي دفعنَ ثمن تلك الأخطاء، فقد خسرتُ قدرتي على السير نتيجة وصفةٍ طبّية خاطئة. ولكنّ الأطبّاء في لبنان وعدوني خيراً وبأن تتحسّن صحتي”.

تنظر تلك الجدّة إلى شجرة الميلاد المزيّنة، عينٌ تحبس فيها دمعة، وأخرى تنضح أملاً، قائلةً: «أبكي على العائلات المشتّتة في سوريا، أبكي على الميلاد المغلّف بالدم، الجَمعة العائلية التي سُلِبَت منّا. فقد حُرِمنا من أبسط مقوّمات العيش، لا كهرباء، لا مياه، لم يعُد بوسعنا إعداد الطعام، ما مِن قوارير غاز تصل إلى المنازل… بعدما كنّا نعيش بأمان”.

تغرق في صمت طويل قبل أن تتابع: «لكنّ للميلاد في لبنان طعماً آخر، في هذا المركز وُلِدنا من جديد، رعاية، حنان، متابعة، نستقبل ونودّع زوّاراً، جمعيات شبابية، طلّاب مدارس، ما يخفّف عنّا وحشة الأيام ومرارة الغربة”.

في هذه الليلة، تُصِرّ الجدّة على الصلاة من أجل السلام، قائلةً: «حياتنا، عمرنا، صحّتنا، كلّها مرهونة بالسلام، سواءٌ الخارجي أم الداخلي، لذا أطلب من طفل المغارة أن يحمل بقدومه السلامَ لشعبه، بصرف النظر عن جنسيّاتهم أو طوائفهم”.

أمّا بالنسبة إلى وركين، فتأبى أن تطلب أو تتمنّى شيئاً في ليلة الميلاد، فتقول: «أريد فقط أن أشكر الله على ما منَحني إيّاه في حياتي، زرتُ نصفَ بلدان العالم، رأيتُ كلّ ما في الدنيا من جمال، فوالدي كان ميسوراً، وفُتِحَت أمامي أبواب العالم، ولكن بعدما أصبحتُ وحيدةً، قرّرت الانتقال للعيش في بيت الراحة هذا”. وتضيف وهي تتأمّل شجرة ميلاد صغيرة علّقتها إلى جانب سريرها: «لم يكن سهلاً عليَّ الانتقال إلى بيت الراحة، لكنّ الحياة تفرض علينا أشياءً، خصوصاً أنّني لم أتزوّج، تقدّمتُ في العمر وبدأتُ أعاني من مشاكل صحية، وأحتاج لمن يساعدني”.

سرعان ما تلمع عينا وركين، ما إنْ نسألها عن الميلاد، فتجيب بنبرةٍ واثقة: «أموال الدنيا كلّها تزول ويبقى جوهر الإنسان… والميلاد ميلاد أيّاً يكن التاريخ، لكنّ الأرمن يعطونه نفحةً خاصة، فهم يتبادلون الهدايا في رأس السنة، لذا يتركّز الميلاد على الحدث الديني وخلفيتِه بعيداً من المسائل المادية والاستهلاكية، فنزور الكنائس، نقرع الأجراس ليلاً، وفي العيد نزور مَن افتقدناهم، الميلاد يعيدُنا إلى الجذور”.

“الميلاد عندنا لا ينتهي”. بحماسة متناهية يتحدّث مدير المركز القس سيبوه ترزيان لـ«الجمهورية» عن أهمّية الأجواء الميلادية التي يوفّرها «كاهل» لساكنيه، قائلاً: «لا يكفي تقديم الخدمة الإنسانية، وأمور لوجستية، فلا بدّ من إضفاء أجواء عائلية، كي يشعرَ المريض أو أيّ مسِنّ بأنّه بين أهله”. ويضيف: “تبدأ احتفالاتنا في عيد الميلاد قبل 25 كانون الأوّل وتستمر حتى بعد 6 كانون الثاني. أكثر ما يُساعدنا في ذلك كثافة الجمعيات الأرمنية، الأندية، المدارس التي تزورنا لتحييَ الاحتفالات، وتوزّع الهدايا على المسنّات، وتخلق حركة وتزرع ابتسامة”.
وردّاً على سؤال: لماذا العيد في 6 كانون الثاني، يجيب: «تختلف الحسابات بين الشرقيين والغربيين، ولكن ما من تاريخ دقيق، يحتفل المسيحيون في 6 كانون الثاني بعيد الظهور الإلهي والغطاس، وقد حافظَت الطائفة الأرمنية الأرثوذكسية والأرمنية الإنجيلية على هذا الموعد، في حين تُعيِّد الكنيسة الكاثوليكية في25 ك2 الذي كان مخصَّصاً لعبادة إله الشمس، كغيرِها من المناسبات التي حَلّت مكان الأعياد الوثنية”.

Share This