القضية الأرمنية في الذاكرة الألمانية

نشرة “أريك”

ترجمة: فهيمة شافعي

أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، تحالفت الدولة العثمانية مع ألمانية و النمسا –المجر مشكلين معا كتلة الوسط في مواجهة كتلة دول الوفاق المكونة من تحالف بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا القيصيرية. ورغم الشراكة الألمانية العثمانية فإن ثمة أصوات ألمانية قد انبثقت وسط هذا التحالف منددة بما اقترفه النظام الاتحادي في حق الأرمن. ومن بين هذه الأصوات، تلك الخطابات التي نشرت بدرزدن عام 1911 تحت عنوان “طريق اللاعودة إلى الوطن”.

أبو هرارة في تشرين الأول /اكتوبر (1916)

الجثة الأخيرة؟ عندما دخلنا إلى سلسلة القوافل المتروكة و التي كانت تمتلئ برائحة القاذورات الكريهة، كان يرقد بالباب المفتوح جسم متدهور جوعا لصبي أرمني ذى اثنا عشر عاما، بشعره الأصفر مثل القش وجسده النحيل “جلد على عظم” و يديه وقدميه مثل العصى، و ذراعه الأيسر فقط مازال مكسيا بالملابس.

وعندما وصلت إلى النهر وجدت الكثير من المقابر و أعدادا لا تحصى من مواقع النيران القديمة. هل هذه هي نهاية صيد مرعب و قاس.؟!

مرة أخرى تمر إحدى قوافل الشعب المرحل أمام عيني و التي كنت قد دخلت هائما على وجهي بروح فزعة إلى معسكرهم الملئ بالألم- وقد كان ذلك في العام الماضي و سرعان ما قابلنا اللاجئ الأول.

كانت جوانب كل الطريق مليئة بعظامهم التي توهجت تحت أشعة الشمس و فقدت لونها. وفي ماردين قابلنا المعسكر الأول. أطفال و سيدات تدافعوا إلى مركباتنا، يضربون بعضهم بقسوة من أجل الحصول على كسرة خبز أو قشرة بطيخ خاوية.

و في تبيني قاموا بإنشاء بازار صغير. الخبازون و الجزارون وصانعو الأحذية يجلسون تحت أشعة الشمس الحارقة، يحتمون بمنديل مفرود و ممزق، يجلسون على الأرض و يعرضون بضاعتهم. لقد رأيت ضابطا تركيا يشتري قطعة لحم محمرة، و تسأءلت بتعجب لقد قادوك إلى الموت لكن أنت تقدم لقاتلك في الصحراء قطعة لحم أيضا و ذلك من أجل قطعة نقود معدنية!

وعند الرقة حيث يوجد معسكر قذر تماما، هناك قابلت صبيا في الثالثة عشر من عمره، كان اسمه مانويل يربط خرقة بيضاء حول راسه ليحمي نفسه من أشعة الشمس. كان يجري و هو ينفخ في قرن يقرة ضاحكا بين كومة من الجوعى و المرضى و الذين هم على فراش الموت يرقدون هناك دون حراك أو الذين هم على حافة الجنون يأكلون برازهم كطعام. و قد أعجبني بنيانه الذي مازال قويا ووجهه البشوش. وقد أردت أن آخذه في مركبتنا لكي أحضره معي إلى ألمانيا. فعيناه الثاقبتان كانت تلمع لى بلونها الاسود (وفكرت للحظة، أمي سوف أهديك ابنا جديدا) تركته ياخذني إلى أبيه و هو تاجر من الأسكندرونة، و قد عينوه حارسا للمعسكر لانه يستطيع القراءة و الكتابة. وبالرغم من أن وجهه قد أشرق بالسعادة، فإنه كان مرهقا جدا و مصعوقا و خوفه من المعسكر و خوفه على حياته كان كبيرا جدا لدرجة أنه لم يتمكن من إيجاد مخرج لهذا. ولذلك ذهبت بنفسي إلى المراقبين العرب. وقد جلست معهم ساعتين على الحصير. وقدمت لهم ما تبقى من نقودي، و قد وعدتهم أن أتقدم بطلبه في حلب لدى هاكي تيسن قائد المعسكرات، لكنهم لم يقبلوا أن يطلقوا صراح الصبي. فضغطت على أيديهم مرارا و تكرارا مودعا إياهم و قلت لهم: إنني سوف أفكر فيكم في ألمانيا. و قد اصطحبني مانويل حتى بوابة خروج المعسكر. و لقد حاول في الليلة التالية أن يجري وراء قافلتنا، لكن لا أعتقد أنه قد تمكن من الفرار تحت ظلال طلقات نيران العسكر.

مسكنة 15 تشرين الأول / اكتوبر (1916)

حين حل الظلام جلست مع القس بيري أستان داداشاد أمام باب خيمته المفتوح وحكي لي عن معاناتهم. عن الـ1800 أسرة بالمدينة الذين انتقلوا معه وعن الآلاف الذين قام بدفنهم في الصحراء و من بينهم 23 راهبا و قسا.

نظراتهم تستصرخني “أنت بالفعل ألماني”، يقولون هذا” ومتحالف مع تركيا. فالأمر إذا حقيقي إنكم أنتم أنفسكم قد أردتم هذا !” طأطات رأسي. فبماذا يمكنني أن أرد عليهم؟

و من جيب ردائه أخرج القس صليبا ملفوفا في خرقة مهلهلة، و بعد أن أمطره بالقبلات لم أستطع أن أتمالك نفسي فضممته كذلك إلى شفتاي. كان هذا الصليب شاهدا على الكثير من المعاناة و الألم. و نظرت للخيام التي يتصاعد منها الدخان، و القمر المضئ الذي بزغ على السهول المحمرة، إن هذا الوضع كله بائس جدا لدرجة ألا يمكننى أن أتخيل للحظة واحدة صورة سليمة لنساء يرتدين تنانيرهم الطويلة الفضفاضة و بلوزات مفتوحة ويتنزهن نزهة المساء القصيرة، و صرخات الأطفال الذين يلعبون تصدح هنا و هناك.

وحينما أسمع مرة أخرى أصواتهم الخائفة الباحثة و المتسائلة: إذا كنت قد قابلت أرمنيا في المدن الواقعة على نهر الفرات؟ أسمعهم يقولون “… سوف نموت، نعرف هذا”. يشير إلى أغراضه المهلهلة.

وسرت على ضفاف النهر في الظلام. و في إحدى الحفر وجدت كومة من الأضلع الآدمية مكومة فوق بعضها. جماجم بيضاء مازالت مغطاة بالشعر، حوض و قفص صدري يخصان طفلا نحيلا و منحني تماما مثل خلة الأسنان.

وللحظة غمرني يأس كامل جعل الدموع تنساب من عيني كما لوكان الأمل و كل النبتات على وجه الأرض قد أبيدت تماما و لم يعد لها وجود.

الحبة التي تربطني بالأحياء. والنهر الاسطوري اللانهائي يجري إلى العزلة و الوحدة البعيدة ليصب مهددا في الكتل الترابية للأرض كاسحا إياها. و أنا متروك أخطو و حدي على ضفافه كما لو كنت آخر إنسان على وجه الأرض.

Share This