المسألة الأرمنية في عصر العولمة: الواقع والآفاق المستقبلية

الدكتور مسعود ضاهر

يصادف هذا العام 2015، الذكرى المئوية للمجزرة الأرمنية التي أودت بحياة مليون ونصف المليون أرمني في إبادة جماعية عام 1915.وليس هناك وصف لهذه المجزرة البشعة سوى أنها حرب إبادة جماعية.وهذه حقيقة تاريخية مثبتة بالأرقام والوثائق تدين سياسة عبد الحميد الثاني، ومن بعده سياسة جماعة الإتحاد والترقي ضد الشعب الأرمني وضد شعوب أخرى خضعت لسياسة الطورانية والتتريك. وهي تمثل واحدة من الجرائم الأكثر بشاعة في مطلع القرن العشرين.وبما أن تلك الجريمة بقيت بدون عقاب فقد تكررت باشكال أخرى،وبخاصةفي فلسطين،والفيتنام،والعراق،ونيجيريا،وغيرها.

قبل إرتكاب تلك المجازر مرت العلاقات بين الأرمن والسلطنة العثمانية بفترات طويلة من الإستقرار السكاني،والرعاية الإجتماعية،وإحترام الشعائر الدينية لدى جميع رعايا السلطنة. وقد تبوأ عدد من الشخصيات الأرمنية مراكزعليا في السلطنة،وبخاصة في الأمور الإدارية والمالية.بدأت المسألة الأرمنية في عهد السلطان الدموي عبد الحميد الثاني الذي تميز بالإرهاب، وبإرتكاب مجازر متلاحقة،وبالتهجير الجماعي.

فتعرض الأرمن لمجازر متدرجة حلت بهم تباعا في الأعوام 1890-1896. فهزت تلك المذابح الرأي العام الدولي،وسارعت دول أوروبية كبرى معنية بالأزمة إلى إطلاق الوعود لحماية الأرمن دون أن تسارع إلى نجدتهم في محنتهم.وبعد أن دخلت السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إتهم الأرمن بإثارة الفتن ضدها، وإعلان العصيان عليها بالتحالف مع دول خارجية.

وفي أذار 1915،وضعت السلطنة المائة وخمسين ألف أرمني الذين كانوا يقيمون في إسطنبول تحت رقابة مشددة.ثم شكلت عمليات الطرد المنظمة مقدمة للمذبحة التي إرتكبتها السلطات العثمانية ضد الأرمن في ليل 24-25 نيسان 1915 وتمت مصادرة بيوتهم بشكل إعتباطي بحجة البحث عن السلاح.وأعطيت أوامر مشددة بالقتل الجماعي مع التنفيذ بطرق متنوعة.وكان الإبعاد مجرد غطاء شكلي لقرار الإبادة الجماعية.

نصت إتفاقية سيفر للسلام الصادرة في 10 آب 1920 بين الحلفاء والسلطنة العثمانية ، على الإلتزام بمحاكمة المسؤولين الأتراك عن إرتكاب جرائم حرب ضد جماعات عثمانية محلية من أصول مختلفة كالأرمن وقوميات أخرى،وأعبرت جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية. ومع دخول وحدات من الجيش الأحمر إلى أراضي الجمهورية الأرمنية أعلنت الجمهورية الأرمينية،وكانت أصغر الجمهوريات السوفياتية. وسرعان ما برز تعاون كبير بين الإتحاد السوفياتي والجمهورية التركية التي باتت دولة إقليمية هامة، وتراجعت فرص المطالبة بإستعادة وحدة أرمينيا التاريخية، وتحولت القضية الأرمنية إلى قضية إدانة لجريمة إبادة جماعية ذهبت ضحيتها أعداد كبيرة من الأرمن، ثم وقعت دولالحلفاء مع الجمهوررية التركية معاهدة لوزان في 24 تموز 1923،تخلوا بموجبها عن إجراء محاكمة دولية عادلة لمعاقبة مجرمي حرب الإبادة الجماعية من الأتراك العثمانيين ضد الأرمن.

بعد الحرب العالمية الثانية،إستخدم مصطلح ” الإبادة الجماعية” رسميا في محكمة نورمبرغ في 18 تشرين الأول 1945.وأكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قراراها رقم 96 الصادر في 11 كانون الأول 1946على أن “جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة في القانون الدولي يدينها العالم المتحضر ويعاقب على إرتكابها المجرمون الأساسيون والشركاء.وطبقتإتفاقية الإبادة الجماعية بمفعول رجعي على الهولوكست فقط بذريعة أنها إبادة لعدد كبير من اليهود في ألمانيا النازية .فاصر المناضلون الأرمن على أن تطبق إتفاقية مماثلة بمفعول رجعي على إبادة الأرمن. وإعترفت حكومة ألمانيا بالتزاماتها الدولية لتعويض الممتلكات المسروقة من ضحايا الهولوكست،ودفعت تعويضات للناجين من الضحايا.فحري بالدولة التركية أن تقوم بعمل مماثل لحل المسألة الأرمنية وفق نظام القيم الإنسانية والحفاظ على هوية الشعب الأرمني التاريخية.

المسألة الأرمنية في زمن العولمة

دخل الشرق الأوسط في دائرة العولمة من خلال دول أوروبية إستخدمت النزعة العسكرية ،وحملت معها الأفكار التحررية للثورة الفرنسية. ثم أضافت إليها الولايات المتحدة مباديء الرئيس الأميركي ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها،بالإضافة إلى دخول الأفكار الإشتراكية المطالبة بالعدالة الإجتماعية. هكذا بدأت عولمة الشرق الأوسط في مرحلة السيطرة الأوروبية والنضال من أجل الإستقلال،والسيادة الوطنية،وقيام دول عصرية وفق إتفاقيات سايكس-بيكو الشهيرة. وبالإضافة إلى الإبادة الأرمنية،شهدت تلك الفترة موت ثلث سكان جبل لبنان جوعا، وبداية إطلاق المشروع الصهيوني إستنادا إلى وعد بلفور، وتقسيم الشرق الأوسط بين الإنكليز والفرنسيين،وصعود التيارات النازية والفاشية والديكتاتورية في عدد من الدول الأوروبية، وإنفجار الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى مقتل عشرات الملايين من الناس، وإستخدام الأميركيين للقنابل النووية لأول مرة في التاريخ بهدف إبادة جماعية ضد اليابانيين.

فعصر العولمة الأميركية هو عصر الحروب المتلاحقة بإمتياز.وقد نالت منطقة الشرق الأوسط الحصة الأكبر منها. ويبدو أن العولمة الأميركية دخلت مؤخرا في منعطف بالغ الخطورة لم تعد فيه الولايات المتحدة قادرة على لجم النزعة العسكرية في داخلها كأسلوب فاعل للسيطرة على العالم عسكريا.وهناك دلائل كثيرة تبشر بقرب ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب،وعولمة أكثر إنسانية بقيادة آسيوية،وتحديدا الصين والهند. وتزامن صعود الصين ومعها دول البريكس مع إنتشار نظريتين متناقضتين حول مستقبل العولمة:

الأولى: تؤكد على إستحالة إنفجار حرب عالمية ثالثة لأنها تدمر البشرية بأسرها.وبالتالي، فإعتماد حروب فرعية أو حروب بالواسطة لن يحل مأزق الهيمنة الأميركية على العالم.

الثانية: تؤكد على ان القوة الناعمة قادرة على مواجهة النزعات العسكرية وإلحاق هزيمة بعولمة القطب الأميركي . فعولمة القوة الناعمة ترفض النزعة العسكرية لحل المشكلات الدولية، وتتبنى شعارات الديموقراطية،والليبرالية ،وتعمل على بناء دولة العدالة الإجتماعية ،تطالب بإيجاد حلول سلمية وعقلانية للمشكلات المزمنة،وبخاصة المسألة الأرمنية والمسألة الفلسطينية.

المسألة الأرمنية وآفاقها المستقبلية في زمن التبدلات الإقليمية والدولية

طوال المائة عام المنصرمة،بقيت المسألة الأرمنية حية من خلال نشاطات ثقافية وإجتماعية وفنية متعددة قامت بها القوى الحية في صفوف الشعب الأرمني.فعقدت مؤتمرات دولية ذات أبعاد حقوقية وإنسانية هدفها الحفاظ على هوية الشعب الأرمني التاريخية،وولديها مواقف ثابتة لنيل حقوقها المشروعة كاملة.

توزع الأرمن بين مقيمين ضمن حدود دولة مستقلة ذات مساحة جغرافية ضيقة على جزء من أراضي أرمينيا التاريخية،مقابل أعداد كبيرة منتشرة في الشتات الأميركي، والروسي، والأوروبي والعربي.بالإضافة إلى جالية أرمنية مهمة ما زالت تقيم داخل تركيا، وبعد إنهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991 سنحت الفرصة لأرمينيا السوفيتية لكي تتحرر من النفوذ الروسي،وتعلن عن قيام جمهورية أرمينيا المستقلة.لكن أجزاء منها ما زالت تحت سيطرة جورجيا،ولا زال إقليم ناغورني كاراباغ موضع نزاع عسكري مع أذربيجان. وما زالت أرمينيا الغربية بأكملها،والتي تضم أهم الرموز الأرمنية وبخاصة جبل أرارات،تحت السيطرة التركية .مع ذلك ،شكل الإعلان عن جمهورية أرمينيا المستقلة بداية مرحلة جديدة من مراحل نضال الشعب الأرمني لإسترجاع حقوقه المشروعة بالطرق السلمية. إنضمت جمهورية أرمينيا إلى “مشروع منطقة البحر الأسود للتعاون الإقتصادي”، الذي دعت إليه تركيا. وفي أيلول 2008 زار رئيس الجمهورية التركية، عبدالله غول، يريفان في محاولة إختبار النوايا لتطبيع العلاقات بين البلدين الجارين.

وفي العام 2014 أقدم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على خطوة غير مسبوقة حين قدم تعازيه عن المجازر الارمنية.وفي 20 كانون الثاني 2015 ،أعلن رئيس الوزراء التركي احمد داود اوغلو عن “بداية جديدة” في العلاقات التركية – الأرمنية التي يشوبها خلاف تاريخي مرير بشأن عمليات الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الأول، ودعا جميع الارمن،وجميع من يؤمنون بالصداقة التركية – الارمنية الى المساهمة في بداية جديدة، “والبدء بمعالجة الالام العظيمة التي جمدها الزمن منذ العام 1915”.

ختاماً، بعد نضال مستمر منذ مائة عام، داخل جمهورية أرمينيا المستقلة ولدى أرمن الشتات،تأكدت الجماهير الأرمنية ونخبها السياسة والثقافية والإقتصادية أن ميزان القوى الراهن على المستوى الدولي لا يسمح بإعادة كامل أراضي أرمينيا التاريخية.مع ذلك،لا تزال إستراتيجية المنظمات الأرمنية لحل المسألة الأرمنية بالطرق السلمية صائبة وذات أبعاد مستقبلية واعدة.

فإعتراف دول كبرى ومنظمات دولية كثيرة بالإبادة الأرمنية يتضمن إعترافا صريحا بمسؤولية الجمهورية التركية في إيجاد حل عادل ودائم للقضية الأرمنية بصفتها قضية عادلة ومحقة.وبعد مائة على على الإبادة الأرمنية ما زال الشعب الأرمني مستمرا في نضاله بوتيرة متصاعدة رغم أن مواقف الدول الكبرى لم تكن فاعلة.كما أن موقف الرأي العام الدولي بات مستهجنا لأنه يؤكد على تقاعس المجتمع الدولي في إدانة الإبادة الجماعية للأرمن والتي تركت جرحا داميا لدى الشعب الأرمني وفي الضمير العالمي. وهناك آفاق مستقبلية واعدة لحل المسألة الأرمنية سلميا . فالشعب الأرمني لا يخوض صراعا عسكريا ضد الدولة التركية،بل يبحث عن حل سلمي لقضيته العادلة. وهو يريد إقامة علاقات طبيعية مع تركيا، في حين أن مواقف الحكومة التركية تشير إلى أنها تعتمد سياسة تطبيع الأمر الواقع. بيد أن نجاح تطبيع العلاقات مع تركيا يتطلب إعترافها بالإبادة الأرمنية،والتعويض المبرمج على ضحاياها،وإعادة الرموز الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية للمؤسسات الأرمنية. وهنا بالضبط تكمن أهمية تغليب الصراع الحضاري على المستوى الكوني لوقف النزعة العسكرية ومحاولات السيطرة على العالم تحت ستار الحرب على الإرهاب.

فالشعب الأرمني يطالب بحقوقه المشروعة وفق مباديء الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي. وليس لديه نزوع لإستخدام القوة والأعمال الإرهابية ضد المؤسسات التركية.

وإذا كانت تركيا تريد اليوم أن تفتح صفحة جديدة لحل المسألة الأرمنية،فعليها الإعتراف بوقوع الإبادة الأرمنية،وتعويض ضحايا الإبادة إنطلاقا من توقيع الجمهورية التركية على شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة. وما يريده الأرمن اليوم هو التاكيد الثابت والواضح على عدالة قضيتهم بهدف التأسيس لعدالة دولية تعاقب جميع من إرتكبوا جرائم إبادة جماعية بحق الشعوب في مختلف دول العالم.وقد وعى المناضلون الأرمن منذ زمن بعيد أن الإعتماد على الدول الكبرى هو مجرد أوهام لأن تلك الدول لا تفنش إلا عن مصالحها. ونعيد التأكيد على أن المستقبل دوما لإرادة الشعوب التي تتمسك بحقها في تقرير مصيرها مهما طال الزمن. فهل تجد المسالة الأرمنية حلا عادلا ودائما في حال نجح العالم في حماية ما تبقى من الممارسة الديموقراطية، وفي إطلاق عولمة أكثر إنسانية؟.

النص هو مختصر للكلمة التي ألقاها مسعود ضاهر في افتتاح مؤتمر نظمته جامعة هايكازيان في بيروت في 31/ 1/ 2015.

Share This