في الذكرى الخامسة والعشرين بعد المئة لوفاة أديب اسحق أحد رواد النهضة القومية

عندما نتعمق في نشأة وتكوين العلاقات العربية الأرمنية عبر القرون نجد بروز عدد من الشخصيات التي أسهمت في العلاقات المتبادلة في مجالي التاريخ والأدب على حد سواء.

أما في الحياة الثقافية فقد لعب عدد كبير من المثقفين الأرمن دوراً لا يمكن إغفاله في سوريا ولبنان ومصر وفلسطين والعراق، إذ تركوا بصماتهم في أدب تلك الدول العربية وفي الثقافة العربية عموماً.

سأحاول الاضاءة على شخصية عربية من أصول أرمنية من دمشق، اعتبر اللحظة الفارقة في الفكر التنويري العربي في القرن التاسع عشر، وهو الاديب والصحفي البارز أديب اسحق. وتصادف هذا العام الذكرى الخامسة والعشرين بعد المئة لوفاة أديب اسحق، أحد رواد النهضة القومية.

توفي أديب اسحق عام 1885 وفي مصادر اخرى عام 1884 قبل ان يكمل التاسعة والعشرين من عمره، رغم ذلك تميزت اسهاماتـُه في النهضة العربية الحديثة، بالأصالة والجدية والجرأة في الدفاع عن قضايا العرب.

فقد أفلح في تناول عددٍ من الموضوعات المحورية في الحياة الاجتماعية والسياسية بروحٍ تأملية نقدية ثورية، لا تزال تحظى باهتمامٍ واسعٍ في الفكر العربي المعاصر حتى يومنا هذا، فمن أبرز الموضوعات التي تناولها: الوطن والمواطنة والحرية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وسيادة القانون، والدعوة للحداثة والنهوض والمقاومة، لذلك سمي بالمفكر النهضوي المحترف.

وبرأي الباحث زهير توفيق أن أديب اسحق هو مثقف نهضوي مختلف، حيث يقول عنه:

“عبّر اسحق في كتاباته عن الواقع الذي يعيشه المشرق العربي، مستخدماً مفاهيم عصر التنوير والثورة الفرنسية مقولاته كالحرية والمساواة والوطن والأمة، ونادى بالاصلاح الشامل ناقداً الاستبداد واعتبره آفة الشرق الاساسية. وأكد على ضرورة الحرية مستلهماً الحرية الليبرالية في القرن الثامن عشر.”

تناول الباحث زهير توفيق الاشكالية الفكرية التي حركت اسحق وغيرَه، والتي شكلت الاطار التكويني للفكر العربي الحديث والمعاصر وهي اشكالية النهضة والاصلاح.

ويرى توفيق أن أفضل مقاربة لفكر اسحق هي التي تعتمد المنهج التكاملي الذي يوظف عدة منهجيات للوصول الى النص… لقد ركز اسحق على الاصلاح الشامل وكان للشيخ جمال الدين الأفغاني تأثيراً واضحاً عليه اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، الى جانب التأثيرات الأخرى.

عاش اسحق عصراً اتسم بالتحولات السياسية والاجتماعية العميقة فرصد تلك التحولات بالتقدم والنهضة. وتأثرت حياة اسحق السياسية والفكرية بالأحداث السياسية والاجتماعية في الدولة العثمانية ومحاولات الاصلاح فيها وانعكاساتها على البلاد العربية.

ومن المصادر العربية التي نهل منها إسحاق: إبن خلدون وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني.

ويعدُ أديب اسحق نفسه شرقياً إلى جانب كونه مصرياً وسورياً، ويهتم بالشرق ويحثه على النهوض. وقد ثمن الباحثون العرب في الفكر العربي الحديث دعوة إسحاق الى تحرير المرأة، واعتبروه في طليعة أنصار المرأة الذين نادوا بمساواتها مع الرجل. وسمي هذا الكاتب الارمني الاصل، عربي اللسان باعث النهضة القومية.

أما عن نشأته، فقد ولد أديب اسحق عام 1856 في دمشق من أسرة أرمنية. وتوفي في قرية الحدث قرب بيروت. تعلم في مدرسة الآباء اللعازاريين حيث درس اللغتين العربية والفرنسية، ودرس لاحقاً اللغة التركية. بدأ نظم الشعر في الثانية عشرة من عمره. اشتغل بالصحافة منذ مطلع شبابه. غادر إلى بيروت وتولى تحرير جريدة «ثمرات الفنون» ثم جريدة «التقدم» ودخل جمعية «زهرة الآداب» التي كان يرأسها سليمان البستاني.

ثم انتقل إلى الاسكندرية حيث اشتغل في الترجمة والتأليف للمسرح مع سليم النقاش ومثّل بعض المسرحيات معه، ثم قصد القاهرة وهناك تعرف إلى جمال الدين الأفعاني، فانضم إلى حلقاته، وأصدر جريدة «مصر» عام 1877 في مدينة القاهرة أولاً ثم في الاسكندرية، وبعدها أصدر جريدة «التجارة».

وعندما هاجر إلى باريس عام 1880 أنشأ فيها جريدة «مصر القاهرة». وهناك وسع ثقافته الغربية. وعمل في الصحافة الفرنسية وترجم الروايات والمسرحيات عن اللغة الفرنسية الى العربية. وقد عبّر الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هيغو عن اعجابه به بقوله: “هذا نابغة الشرق”.

لاحقاً عيّن اديب في مصر ناظراً لقلم «الإنشاء والترجمة بديوان المعارف». لكنه اضطر إلى العودة إلى بيروت فأقام في بيروت متولياً تحرير جريدة «التقدم» للمرة الثالثة.

كان أديب إسحاق يؤمن بحرية الفكر وسيادة العقل، وكان يدعو إلى الحياة الدستورية ويطالب بالحريات الديمقراطية القائمة على الشورى، ويدعو إلى التقدم والإصلاح بعيداً عن العنف وقد تأثر في ذلك كله بجمال الدين الأفعاني والثقافة الفرنسية.

وأما الصحافة العربية فقد كان له تأثير في تطويرها ودفعها إلى الأمام. ويقوم منهجه الصحفي على حسن الاختيار وتهذيب العبارة. أما مقالاته فأكثرها افتتاحيات مهمة أو مقالات مترجمة كان يتناول فيها الموضوعات العلمية أو الاجتماعية أو السياسية.

وكان أسلوبه أدبياً بليغاً يشبه نثر القرن الرابع الهجري في تفصيل الفقرات، والأخذ بالسجع، واستعمال المحسنات البديعية والصور البيانية.

وعلى الرغم من حذقه اللغتين العربية والفرنسية يقال أنه في ترجماته كان يعنى بنقل المعنى المجمل بالصيغة البليغة التي يتحرى فيها تناغم الفقرات، وموسيقى السجع، شأنه في ذلك شأن مترجمي عصره.

ترك أديب إسحاق مجموعة من الآثار، بعضها مطبوع وبعضها مخطوط، وقد جمعت آثاره مع ترجمة لحياته، وأقوال الصحف فيه في كتاب سمي «الدرر».

ومن آثاره: «نزهة الأحداق في مصارع العشاق» وكتاب «آثار الأزهار» وقد شارك سليم الخوري في تحريره.. و«تراجم مصر في هذا العصر»، وله كتاب بعنوان “الأعمال السياسية والاجتماعية”.

كما ترجم ثلاث مسرحيات عن الفرنسية: (أندروماك)، و(شارلمان)، و(غرائب الاتفاق) (مفقودة)،

يذكر أنه ترجم مسرحية أندروماك للشاعر الفرنسي راسين بطلب من قنصل فرنسا في بيروت عام 1875 وأضاف إليها شعراً نظمه وجعله ألحاناً، لتمثل على المسارح في بيروت. وبذلك يكون أديب اسحق قد شارك في الحركة المسرحية وساهم في التأليف والترجمة والتمثيل.

كما وله مقالات وخطب ورسائل، تضمنها كتاب (الدرر)، ولايزال قدر منها لم يجمع إلى الآن،وهي أعماله المبكرة. وبالاشتراك مع سليم الخوري ألف كتاب (آثار الأدهار)، كذلك ترجم بعض الكتب المعجمية والأخلاقية.

وتجدر الاشارة الى الجانب الصحفي لأديب، فمعظم مقالاته كانت تبحث في الحقوق والواجبات وتلازمهما، وفي الواجب والحق وفي الحقوق والواجبات الطبيعية والذاتية والنوعية وفي القضاء والاجراء وغيرها. ومواضيع في الزواج وتربية الصغار. ولعل من أهم الأبحاث التي كتبها في التقدم ما تحدث عن الصحافة والصحف وأهميتها .

وأما عن إنتاجه الشعري: فقد تجمع لديه قدر كبير من المقطوعات والقصائد، لكنها لم تنل عنايته ففقد الكثير منها، وقد ذكر أخوه عوني إسحاق، الذي جمع آثاره النثرية والشعرية في كتاب بعنوان (الدرر) أن لأديب عدة قصائد ومقطوعات في ديوان صديقه يوسف الشلفون (أنيس الجليس).

حسب عدد من الدارسين، لايرقى شعر أديب إسحاق إلى مستوى نثره، فقد تجلت بلاغة شعره في صنعته البلاغية، وتكلفّه البديعي في الجناس والطباق والمقابلة والتورية. وقد أحسن اختيار الألفاظ الرنانة التي يطرب لها السمع، ويتقبلها الذوق السليم، وله قصائد رائعة جرت مجرى الأمثال، وسارت بين العامة كقوله في المرأة:

حسب المرأة قوم آفة  من يدانيها من الناس هلك

ورآها غيرهم أمنية  ملك النعمة فيها من ملك

إنما المرأة مرآة بها  كل ما تنظره منك ولك

فهي شيطان إذا أفسدتها واذا أصلحتها فهي ملك

وأتت عناوين قصائده كالآتي: املأ الأرض غراما، حسدتُ البهائم، يخاطبنا الزمانُ، في المرأة، وموشح.

أما اسلوبه، فيمكننا القول أنه حذق العربية والفرنسية وتعمق في دراستهما على مستوى واحد. فكان يسلك المسلك الخطابي الحماسي في كتاباته. فكان السجع قوام فن أديب اسحق فقد اعتمد على تنميق التعبير وكان يراعي الموسيقى في نثره أكثر من شعره. فهو بحق من رواد النهضة الحديثة في النثر والترسل، فقد جمع في كتابته بين جزالة الترسل القديم وأناقته وعذوبة الانشاء الحديث وسهولته، كما أنه جعل من الخطابة فناً أميل إلى القديم بإيقاع قوافيه، وإلى الجديد بتنوع مواضيعه.

كقوله: “وتململت الأرضُ من أعمالِ الانسان، فزلزلت زلزالـَها، وكادت تـُخرج ثقالـَها، فارتعد الرعديد… “.

لقد قال اسحق الشعر في العديد من المواضيع مثل الغزل والمدح والرثاء والوصف والعتاب وغيرها. كتب أيضاً ما كان يسمى في القرن التاسع عشر بالتأريخ الشعري. فلم يترك لوناً من ألوان العروض أو باباً من أبواب النظم إلا ولجه. فقد نظم في المعارضات والتشطير والتوشيح ولها بمعظم ضروب البديع اللفظي من جناس وطباق وتورية وتضمين.

وله الى جانب البهلوانيات بعض المنظومات في الألغاز والأحاجي. ويستعمل في شعره بعض التعابير التي كانت مظهراً من مظاهر الحذق والبراعة في أيامه.

سمي بأديب الشرق الادنى. حيث كان في طليعة خطباء عصره بلا منازع. فكانت الخطابة من ابرز الفنون التي اهتم بها اديب اسحق وأولاها عنايته بعد الصحافة. فتأتي الخطبة مشحونة بالثورة، اضف الى ذلك اللسان الفصيح وتصريف الألفاظ وتكييف العبارات حتى كادت مقالاته كلها تغدو خطباً. لذلك وضعه البعض في طليعة رجال الصحافة والبعض الآخر في طليعة رجال الخطابة.

وله قول مشهور:

قتل امرئ في غابة  جريمةً لا تغتفر

وقتل شعبٍ آمن  مسألة فيها نظر

والحق للقوة لا   يعطاه إلا مَن ظفر

ذي حالة الدنيا فكـُن  مِن شرها على حذر

د. نورا أريسيان

Share This