رحيل الكاتب التركي يشار كمال الذي تناول في كتاباته مجازر الأرمن

كتب اسكندر حبش مقالاً في جريدة “السفير” بعنوان “يشار كمال.. رحيل هوميروس التركي” ذكر فيه أن يشار كمال، الكاتب التركي (ذو الأصول الكردية) ـ الذي رحل ليلة السبت الماضي عن عمر يناهز 92 عاما (من مواليد 1923) ـ هو آخر كبار الروائيين الكلاسيكيين في العالم. وما تعبير «الكلاسيكية» هنا، إلا للدلالة على تلك الرواية التي تعتمد على «الحبكة» التي عرفناها مع روائيي القرون الماضية؛ فمن الدخول إلى توصيف الشخصيات، ومن ثم الدخول في عقدة متصاعدة تدريجيا، لتنتهي بالحل.

بهذا المعنى، كان يشار كمال كاتبا من «القرن التاسع عشر» (بالمعنى النبيل للكلمة)، عاش وكتب في القرن العشرين، معتمدا على بيئته التي غرف منها جُلّ رواياته، لذلك لا يقلّ شأنا، عن غابرييل غارسيا ماركيز، مثلا. فإذا كان الكاتب الأميركي الجنوبي، غرف ممّا أسماه «الواقعية السحرية» ليصف قارة بأكملها، نجد أن يشار كمال غرف من «سحر الواقعية» ليصف جبال الأناضول وأساطيرها وعاداتها وتقاليدها وأغانيها ويومياتها… ليجعل منها قارة قائمة بذاتها.

وأوضح أن يشار كمال المنحدر من أسياد الكرد القُدامى، من «عصابات قطاع الطرق» الشهيرة، من «الشعراء المتسكعين» (التروبادور)، و «راوي ثورات الشعوب» في هضاب الأناضول، لوحق على الأقل أكثر من عشرين مرة من قبل «العدالة» التركية، بسبب التزامه ومواقفه السياسية والإنسانية (والإنسانوية)، وعرف كيف يترك لنا أدبا «إنسانويا» ـ توزع على أكثر من أربعين كتابا ـ عبر أسلوب يقترب من «حكاية شعبية»، تشبه المأساة الإغريقية، مليئة بدورها بالواقع والخيال.

يصف يشار كمال نفسه بأنه كاتب من أصل كردي يكتب بالتركية: «لأنني لا أفكر بالكردية، حتى وإن كانت لغتي الأم فأنا أميّ بهذا المعنى». بقي لفترة طويلة مفتونا، مثله مثل العديد من أقرانه في اليسار الجمهوري التركي، بصورة مصطفى كمال. إلا أن السنوات الخمس عشرة من «الحرب القذرة» ـ (بين عامي 1984 ـ 1999، التي خلفت أكثر من 37 ألف قتيل) ـ التي شنتّها السلطات ضد الثائرين الأكراد في حزب الـ (PKK) دفعته إلى تشديد التزامه وفي طلب الاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية الكردية. وعلى الرغم من المخاطر التي تعرض لها بسبب موقفه هذا، إلا أن شهرته العالمية قد تكون هي من حمته: «أنا شخص رعديد، لكن، كما الكثير من الناس، لا أستطيع أن أمنع نفسي من الركض أمام خوفي». ومع ذلك أكدّ مرارا على خيار الاعتراف بذاكرة تركيا المتعددة. بعض أصدقائه القدامى في «اليسار الكمالي» لم يفهموا هذا «الانحراف نحو العثمانية الجديدة»، وعلى الطرف الآخر، أخذ عليه أصدقاؤه الملتزمون بالقضية الكردية «عدم التزامه الكافي» معهم…

أما عن الذاكرة والأقليات فقال الكاتب أن تركيا الأقليات، أو تركيا الذاكرة المتعددة، هي الفكرة الأساسية التي نجدها في رباعيته الأخيرة «قصة جزيرة» وهي «رواية شاملة حول انهيار السلطنة العثمانية كما حول مآسي الحداثة التركية الأصلية التي لا تزال حيّة في ذاكرتنا: الحروب، ترحيل الشعوب بالقوة وتغيير أمكنتها، المجازر، المذابح، وتدمير الطبيعة». يتحدث الكاتب في الجزء الأول «أنظر إلى الفرات» عن «جزيرة النمل». هي جزيرة صغيرة، غير موجودة في الواقع، لكن يمكن لها أن تكون في أي مكان قبالة هذا الساحل الذي سكنه اليونان خلال قرون عديدة. توجب على الجميع أن يغادروا «بلادهم» العام 1923، خلال عملية تبادل السكان الكبيرة التي تمت يومها ـ مليون ونصف مليون يوناني من تركيا مقابل نصف مليون تركي من اليونان ـ وهي العملية التي وسمت ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ميلاد «الدولة الأمة، للجمهورية التركية الحديثة والعلمانية، التي أسسها مصطفى كمال وفق النمط اليعقوبي.

ويروي يشار كمال في كتابه هذا عن «مواجهة» بين رجلين «ولدا من رماد الحريق عينه». هي قصة فاسيلي اليوناني، الذي يرتدي بذلة السلطنة العثمانية، والذي بقي مختبئا وحده على الجزيرة بعد رحيل كلّ سكانها اليونان والذي أقسم على الكتاب المقدس، بأن يقتل أول شخص يطأها. هي أيضا قصة موسى بويراز، الشركسي المعتد بنفسه والبهي الطلعة، الضابط المرافق لمصطفى كمال خلال الحرب، وفيما بعد في نضاله لطرد الفرنسيين واليونانيين. كان موسى يريد الهرب من رعب ماضيه ومن انتقام العائلات التي قتل أبناءها.

ما يؤرق هذين الشخصين كانت الذكريات عينها: مذبحة الدردنيل (التي وصفت بـ «فردان الشرق») وما رافقها «من أمطار أجساد مقطعة ممتزجة بالطين وبالحصى كانت تسقط من السماء عند كل قصف مدفعي». كانا يهربان من ذكرى جبهة القوقاز حيث الغابة التي قتل فيها ألوف البشر إذ تجمدوا من الثلج وهم واقفون. كانا يستعيدان الصور عينها، الجنود الذين ضلّوا الطريق ليَنهبوا ويَقتلوا قبل أن يُقتَلوا، نزوح اللاجئين وهم يموتون من جراء الجوع والأمراض، التصفيات التي ارتكبت بحق الإيزيديين، الأكراد الزرادشتيين الذين اتهموا بأنهم عباد الشيطان: “نساء ورجال، شبان وعجائز مروا على نصل السيف، او رموا في دجلة والفرات كما نهود الشابات المقطعة التي كانت سالت دما في الصحراء”.
مشاهد تستدعي أيضا، وبشكل بديهي، المجازر التي ارتكبت بحق مئات الآلاف من الأرمن، حتى وان كان يشار كمال لا يذكر ذلك إلا بشكل عرضي، كما لو أنه يتردد هنا في مواجهة هذا «التابو» الكبير الذي تغلق عليه الذاكرة التركية. مع ذلك، فهذه الذاكرة هي التي تمسه بشكل مباشر، لأنه ينحدر هو نفسه من عائلة تنتمي إلى منطقة «بحر فانٌّ»، أي تلك البحيرة الكبيرة الواقعة في الشمال الشرقي. فأمام تقدم الجحافل الروسية، كان على أهل تلك القرية أن يغادروها والتي كان يسكن فيها بسلام، حتى تلك اللحظة، كل من الأكراد والأتراك والأرمن.

بدون شك، روايته هذه هي عن «عواصف التاريخ وانهيار عوالم»، وهذه الفكرة وجدناها منذ روايته الأولى «ميميد الناحل» (أو «محمد النحيل»، 1955) التي كانت شخصيتها الرئيسية تتحدى سلطة الأغاوات. رواية تدور على إحدى هضاب طوروس، في قرية يملكها آغا محلي يدعى عبدي، يجبر رجال القرية على زرعها وهم حفاة الأرجل، ليسيروا في أرض مملوءة بالعوسج والشوك، وليعود ثلثا المحصول للآغا.

كان ميميد فتى يافعا أحب «حتشه» وهرب معها، فالآغا كان يريد تزويجها لابن أخيه. وعندما طُورد ميميد، قتل ابن أخ عبدي وجرح الآغا نفسه، فلم يعد أمامه إلا أن يصبح قاطع طريق فانضم إلى عصابة «دوردو المجنون» وهو قاطع طريق بدون أخلاق. يتركه ليكون لنفسه عصابة خاصة به. ويصبح ميميد شخصا مرموقا وجريئا يخشاه الأغنياء والمضطهِدون ويعشقه الفقراء، ليصبح شخصا أسطوريا عبر سهول الأناضول وجبالها.
أهمية الرواية من أنها تسجل أحداثا تدور في العقد الأول من عمر «الجمهورية التركية»، أي في هذه الفترة الانتقالية التي يتواجه فيها «مفهومان في الحياة أو نظرتان إلى المجتمع وتطوره. فمن هذه الجدلية نجد أهمية الكشف عن مقاومة الأشياء التي يساندها التقليد وعن مدى قدرة الجديد على إرساء قواعد بديلة. لكن من دون أن ننسى أن البيئة التي نشأوا فيها هي بيئة اختلطت فيها أعراق عدة حملت موروثاتها وأوضاعها الاجتماعية المتباينة التي تتأرجح بين حياة قبلية أو زراعية بدائية لا تزال تتسم بشكل من الاقطاع الشرقي». هي أيضا، وكما يعتبر الناقد التركي ابراهيم تاتارلي، رواية عن «المقاومة العفوية الشريفة والانتفاضة الشعبية… فالرواية مبنية على الصدام ما بين ميميد والملاّك الاقطاعي الذي بدا عفويا وعلى أساس شخصي، لكنه نما وتطور إلى مواجهة مسلحة ضد الملاكين الاقطاعيين وعناصر السلطة المحلية من أجل الدفاع عن الحركة الفلاحية المسلحة التي بدأت تتخذ صفات واعية»…

ميميد الناحل رواية عن خليط رائع من الملحمة الغنائية ومن نشيد تمرد للمحرومين… وخلص الكاتب الى أن هذا النشيد الذي يأتي عبر لوحات مشاهد وتشعب أحداث وحكايات، وقال: “نجده في رواية أخرى له، «سلمان المتوحد»، التي تروي سيرة اسماعيل آغا «النبيلة»، وكأننا أمام ذلك البطل الإيجابي الذي نجده في الحكايات التقليدية، إذ أن سيرته مشابهة لسيرة حياة قائد قبيلة كردية شديدة الاحترام، منحدر من عائلة غنيّة تتساوى فيها قيمة المادة وقيم الضيافة والكرم والمرؤة.وعلى عادته في كتابة «ملحمياته» يصور يشار كمال الحقبات المؤثرة في حياة اسماعيل آغا منذ هجرة عائلته وتبنيه لولد وجد صدفة على قارعة الطريق وقد «أكله الدود» (سلمان) مرورا بالأعمال الشاقة التي سيجبر على القيام بها تلبية لحاجات عائلته ـ التي تضم أفرادا فقراء ـ إلى حياة تستمر بدافع الفناء والوفاء.على مشارف قرية تعلو وادي شوكوروفا (وهو مسقط رأس الكاتب)، كان اسماعيل قد بنى بيته الفخم، لكنه اضطر إلى الهجرة بعد اجتياح الروس لموطنه، ليكتشف في المغارة التي يسكنها ابنه بالتبني، سلمان، حكاية دامية عن المجازر والانتقامات، من الحقد والصداقة.يشار كمال، الناطق باسم الفلاحين، بصوت ثوراتهم، يضع قلمه ويمضي… بعد أن أعاد في كتابته الوعي بهذا التاريخ الذي لا يريد أن يغادرنا..”.

Share This