عملية (نمسيس) ومهمة الثائرين الأرمن وفق تقييم التأريخ العربي الحديث

لذكرى الشهداء الأرمن والعرب

يعد مفهوم (الدولة المبيدة) و(المجتمع المبيد) أحد أهم المصطلحات العلمية الحديثة في علم الإبادة التي دخلت في النصف الثاني من القرن العشرين الأوساط العلمية الدولية، ومن بينها أكبر منظمة دولية لاختصاصيي الإبادة.

وتعد الإمبراطورية العثمانية من الدول الكلاسيكية التي ارتكبت الإبادة أو (الدولة المبيدة) التي ارتكبت أول إبادة في عام 1915 الإبادة الأرمنية، وألمانيا الفاشية التي ارتكبت إبادة اليهود الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية.

ومن الآراء المتداولة أن سياسة الإبادة في الدولة العثمانية المبيدة كانت موجهة ضد المسيحيين، وفي الدرجة الأولى الأرمن وكذلك اليونان والسريان والكلدان. هذا صحيح، ولكن بشكل جزئي، لأنه تم تجاهل المسلمين غير الأتراك في الإمبراطورية العثمانية، بالدرجة الأولى العرب وكذلك الشيعة العلويين ومسلمين آخرين، الذين تعرضوا للإبادة، وواجهوا خطر الإبادة.

ولاحقاً ظهر في دوامة الإبادة القاتلة المسلمون الأكراد الذين باتوا اليد اليمنى لسفاكي الدماء الاتحاديين عام 1915.

وتعرفنا أكثر على خطر الإبادة ضد المسلمين حين تعمقنا في كتابنا (الإبادة الأرمنية في ضوء التاريخ العربي)، الذي صدر باللغة الأرمنية عام 2004، وباللغة الإنكليزية عام 2005 ، والعربية عام 2011 في القاهرة. حيث درسنا الوثائق العربية والأدب المختص به، واستنتجنا أن إدراج المسلمين غير الأتراك من قبل القيادة الاتحاديين كان أمراً منطقياً، لماذا؟

فالاتحاديون أتوا الى سدة الحكم في الإمبراطورية العثمانية عام 1908، وبمرأى من كافة الشعوب، أعلنوا أن قضيتهم الكبرى هي تحويل الإمبراطورية العثمانية الى دولة تركية “نقية” من كل الأعراق. وبالنسبة للمسيحيين من أرمن ويونان وسريان وكلدان فيتحقق ذلك من خلال تغيير الدين والمسيحية، والتحول الى الدين الإسلامي، وثم التتريك، إن كان بمحض إرادتهم، أما في حال الرفض فإنهم يتعرضون للافناء. وبطبيعة الحالة بالنسبة للمسلمين من عرب وغير أتراك فإنه لا حاجة لتغيير الدين، إنما كانوا معرضين للتتريك، وكذلك سيكون الإفناء مصيرهم في حال الرفض.

وعبرنا عن هذه الناحية، بأن الأرمن والعرب، المتواجدين تحت النير العثماني، هي شعوب تواجه المصير الواحد، وهذه الفكرة ذكرت في التأريخ العربي.

فكتب المؤرخ د. صالح زهر الدين “أنا أوافق تماماً رأي البروفسور نيكولاي هوفانيسيان بأن المصالح الوطنية للعرب والأرمن تتلاقى، بما أنهم لديهم العدو ذاته ألا وهو الدولة العثمانية، وتعرضوا لنير العثماني، ولذلك فهم شعوب تواجه المصير ذاته”. إن موقف العرب الإيجابي من عملية “نمسيس” ومهمة الثائرين مرتبطة بذلك.

في التاريخ العربي هيمنت فكرة أن الاتحاديين كانوا، الى جانب إبادة الأرمن، يخططون خلال الحرب العالمية الأولى الى إبادة العرب، لأن خلق دولة تركية “نقية” وإقامة امبراطورية طورانية واسعة لايمكن أن يتحقق بوجود الهوية العربية، أضف الى ذلك أن العرب كانوا يشكلون أكبر شعب في الإمبراطورية، ويفوق عددهم عن الأتراك.

ومن هنا جاء مطلب الاتحاديين لنفي العرب، الأمر الذي تناوله مروان المدور مشيراً الى أن الاتحاديين كانوا يسعون الى خلق “امبراطورية جديدة، مؤلفة فقط من الشعب التركي، حيث لا مكان للشعوب الأخرى، مثل العرب والأرمن. لأن هذه الشعوب تعرقل طريق الطورانية والتتريك القسري، وهي معرضة للابادة والإفناء”.

برأي صالح زهر الدين فإن “الأرمن والعرب هما شعبان تعرضا لسياسة العنصرية والنفي أكثر من غيرهما”، في حين يعتبر الفيلسوف اللبناني حسين مروة أن “الطورانية كانت فكرة مثالية للقضاء على الأرمن والعرب والتي نفذت عملياً بنفي الشعوب كلها”.

أما المؤرخ أمين سعيد فيعتبر الاتحاديين أكبر المدافعين عن الطورانية ويكتب: “لقد قرروا أن الوقت المناسب (أي الحرب العالمية الأولى) قد حان لنفي وإبادة أكبر حركتين وطنيتين قويتين هما: حركة الوطنيين العرب في سوريا والعراق والحجاز، والحركة الأرمنية في الأناضول الشرقية”. مشيراً الى أن طلعت باشا قام بقيادة حملة إبادة الأرمن واستكملها أمين سعيد، “لقد اتخذ وزير البحرية وزميل طلعت بك أحمد جمال باشا (الملقب بالسفاح في سوريا) على عاتقه إبادة العرب في سوريا. فجرى تجهيز المشانق في بيروت ودمشق وغزة، وكان أحمد جمال باشا يقوم بتعليق المشانق والنفي والسجن”.

لاحقاً، تم تعليق المشانق في عالي والقدس وحلب. وبأوامر من جمال علق على المشانق جيل من المفكرين المناصرين للأرمن أمثال عبد الحميد الزهراوي وغيره. ويعتبر مسعود ضاهر ذلك “مجزرة جماعية للقادة الوطنيين العرب قام بها جمال باشا”.

إن سياسة الإبادة التي نفذها الاتحاديون بحق العرب تؤكد حقيقة أن الدولة العثمانية هي دولة مبيدة. وللأسف الاتحاديون لم ينجحوا في انهاء خطة إبادة العرب، نتيجة للدور الذي لعبه شريف مكة، الحسين بن علي الهاشمي، خلال الثورة العربية عام 1916.

في بداية القرن العشرين، هزت إبادة الأرمن في عام 1915 وجدان العرب الذين باتوا شهود عيان على تلك الجريمة، حين مرت قوافل الأرمن من قراهم ومدنهم. وليس من سبيل الصدفة أنهم يعتبرون الإبادة الأرمنية “صفحة سوداء في تاريخ الإنسانية في القرن العشرين”.

لقد ذكرت قضايا الإبادة الأرمنية في التأريخ العربي الحديث في إطار معاقبة المجرمين الرئيسيين في إبادة الأرمن من قبل الثائرين الأرمن، التي تحققت في عملية “نمسيس”.

من المعروف أن الإمبراطورية العثمانية خسرت في الحرب العالمية الأولى، وفر أعضاء حزب الاتحاد من البلاد. وتشكلت حكومة جديدة في تركيا، وفي آذار 1919 تشكلت بأمر من السلطان العثماني وحيد الدين محمد السادس مجلس محكمة عسكرية استثنائية لمحاكمة القادة الاتحاديين، وذلك بتهمة جر الإمبراطورية العثمانية الى الحرب العالمية الأولى، وكذلك القتل الجماعي والتهجير القسري بحق الأرمن.

وأصدرت المحكمة حكماً قضائياً غيابياً بحق القيادة العليا للاتحاديين: الوزير الأعظم ووزير الداخلية طلعت (1916-1918)، ووزير الحرب أنور، ووزير البحرية جمال، والدكتور ناظم، والوزير الأعظم سعيد حليم باشا (1913-1916)، وزعيم “التنظيمات الخاصة” بهاء الدين شاكر، ووالي طرابزون عزمي، وغيرهم من القادة يصل عددهم الى 11 شخص.

وبما أنهم المتهمين فارين، أخذ الأرمن على عاتقهم تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة العثمانية، وجاء ذلك القرار في المؤتمر العام التاسع لحزب الاتحاد الثوري الأرمني عام 1919. وبذلك، ولدت فكرة عملية “نمسيس”، وتعني آلهة الانتقام عند الاغريق، وترأسها أرمين كارو وشاهان ناتالي، وساعدهم بعض الأرمن المفكرين والوطنيين. وتمت العملية بنجاح.

اغتيل طلعت باشا وأنور وجمال وبهاد الدين شاكر، وعزمي وغيرهم على يد الأرمن. وينبغي أن نقول ودون التقليل من قيمة أبطال آخرين في التاريخ الأرمني، أن هذه العملية ليس لها مثيل.

وتطرق التاريخ العربي الى هذه العملية وكتب المؤرخون العرب عن منفذي عملية “نمسيس” وقاموا بتقييمها. ونشير الى أنه في هذه القضية كان المفكرون العرب الى جانب الأرمن. فهم يتحدثون عن منفذيها ليس بصفة إرهابيين بل أنهم مقاتلي القصاص العادل، وثائرين لهم حقوق مشروعة. الا أنهم استخدموا تعبير “الفدائي”، المصطلح الأقرب والمفهوم أكثر لدى العرب.

فجاء في الموسوعة اللبنانية “الفدائيون هم أناس سخروا أنفسهم من أجل قضية عادلة ومقدسة”. وكذلك يصف المؤرخ المصري فؤاد حسن حافظ وأسعد داغر ومروان مدور هؤلاء الأرمن الشجعان الذين نفذوا عمليات اغتيال الاتحاديين بالفدائيين. من المثير أيضاً رأي الكاتب اللبناني يوسف خطار حلو في مقاله بعنوان “الأرمني رفض أن يطأطئ رأسه” مشيراً الى أن “الأرمن الثائرين هم أبطال الشعب الأرمني”.

أما أمين سعيد فيجد من الطبيعي أن يقوم الشبان الأرمن بعد الحرب باغتيال سعيد حليم وأحمد جمال باشا وطلعت باشا”. حيث يقوم المؤرخون العرب بالإشارة الى الثائرين بأسمائهم: صوغومون تيهليريان وسديبان زاغيكيان وأرشافير شيراكيان وارام يرغانيان وبيدروس دير بوغوصيان، زاريه ميليك شاهنازاريان، أرداشيس كيفوركيان وهاكوب ميلمكوموف، وأماكن العمليات، والتواريخ ما يعطي الفرصة للتعرف أكثر على عملية “نمسيس”.

إن تأريخ العرب لعملية ومهمة الثائرين الأرمن لاتتناول القضية فقط من وجهة نظر معاقبة مرتكبي الإبادة الأرمنية. فالعرب لم يتمكنوا معاقبة جمال ومجرمي الاتحاديين الذي علقوا مشانق قادة الحركة الوطنية العربية. لذلك، رأى الكتاب العرب بأن الثائرين الأرمن بمعاقبتهم طلعت وأنور وجمال وشركائهم المتواطئين، قاموا بتنفيذ الحكم الشرعي الصادر عن المحكمة العثمانية، فعاقبوا مرتكبي جريمة الإبادة الأرمنية، وكذلك ثأروا للعرب أيضاً. هذه الفكرة واضحة لدى فؤاد حسن حافظ “عمليات الثائرين الأرمن هي عقاب عادل ليس فقط لإبادة الأرمن في عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، بل لقادة الثورة العربية أيضاً الذين علقوا على المشانق عام 1916 في سوريا وولايات أخرى على يد قائد الجيش الرابع جمال باشا”.

يبرئ الكاتب سمير عربش عملية الأرمن، ويقول بأنها عملية عادلة ليس فقط لإبادة الأرمن، بل هي تتعلق بقتل قادة الثورة العربية، التي نفذتها قيادة الجيش الرابع.

أما أسعد داغر فأدرج صور الثائرين الأرمن في كتابه، وقال: “الأبطال الأرمن بيدروس دير بوغوصيان وسيتبان زاغيكيان الذين اغتالوا جمال باشا في تبليسي عام 1922 ليثأروا من أجل مليون ونصف المليون من الشهداء الأرمن والشهداء العرب”.

فهذا الموقف من العرب لا مثيل له، فقد قيّموا تلك العمليات التي قام بها الثائرون الأرمن الذين اغتالوا منفذي إبادة الأرمن والعرب، فعملية “نمسيس” هي مهمة لها ارتكاز تاريخي.

البروفسور نيكولاي هوفانيسيان،

مجلة “العلوم”، أكاديمية العلوم الوطنية في أرمينيا، أيلول 2014 ص 2-5.

Share This