بطريركية الأرمن الكاثوليك في لبنان تحيي الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية..

عون: “إنكار الجرائم السابقة سمح لقوى مجرمة أن تقترف مذابح جديدة” والجميل: “ينبغي على المجتمع الدولي الاعتراف وإدانة كافة عمليات النفي الجماعية”

 

برعاية مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان، أحيت بطريركية الأرمن الكاثوليك في لبنان الذكرى المئوية للابادة الأرمنية، في جامعة سيدة اللويزة، بحضور عدد كبير من الشخصيات السياسية والثقافية ورجال الدين والسفراء وحشد كبير من نواب ووزراء واعلاميين.

بعد النشيدين الوطنيين اللبناني والأرمني افتتاحية من الاعلامي جورج قرداحي بدأها بالقاء قصيدة بالعربية بعنوان “حفنة رماد” للشاعر الأرمني سيامنتو وأتبعها بمداخلة استذكر فيها الابادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن.

وتكلم المونسينيور جورج يغيايان باسم بطريركية الأرمن كاثوليك فطالب باعتراف الحكومة التركية بجريمة الابادة التي ارتكبها حكام تركيا الفتاة انور وطلعت وجمال، راحة لارواح الشهداء الابرار المليون ونصف المليون وضد الانسانية جمعاء وبالتعويض عن الاديرة والكنائس والمدارس والقصور والنوادي والصروح الحضارية والممتلكات والعقارات الارمنية التي تحولت في زمن التوحش والهمجية والارهاب مزارب حيوانات وثكنات عسكرية ودوائر حكومية، وانتهكت حرمتها وقضيتها ودمرت وتبعثرت اكواما من الحجارة والغبار، وباستعادة الارض ورمزها جبل ارارات الدهري وسهول قيليقيا اليانعة الخضراء.
ثم القى الشاعر انطوان رعد قصيدة بعنوان “بشري يا شقائق النعمان”.

ثم القى العماد ميشيل عون الكلمة الآتية: “ما أشبه اليوم بالأمس، فالتاريخ يكرر اليوم نفسه، ويذبح المسيحيون وغير المسيحيين، ويهجرون من أرضهم وبيوتهم، تنفيذا لفكرٍ إلغائي يرى في الآخر عدوا توجب إزالته والقضاء عليه، تماما كما حدث منذ حوالي مئة عام عندما كان الفكر العثماني يرى في من يخالفه المعتقد الديني عدوا تجب إبادته.
فالمجتمع الأحادي، وإلغاء التعددية ليسا بالمشروع الجديد كما قد يعتقد البعض، إذ قد راود هذا الحلم السلطان سليم الأول، مؤسس الدولة العثمانية، فقرر تخيير المسيحيين واليهود بين اعتناق الدين الإسلامي أو الرحيل عن الدولة. إلا أن شيخ الإسلام آنذاك في السلطنة “ذينيلي علي أفندي” رفض هذه الفكرة قائلا للسلطان بأن “المسيحيين واليهود قد عصموا منك دماءهم وأموالهم”، فتراجع عن قراره، وطوي هذا المشروع لفترة من الزمن. ولكن، مع بداية تفكك السلطنة العثمانية ظهرت حركات استقلالية وانفصالية في أرجائها، وبدأ الحكم العثماني يقمعها بارتكاب المجازر بحق الأرمن وغيرهم من المسيحيين، خصوصا على عهد السلطان عبد الحميد الثاني ما بين 1894 و 1896، وقد عرفت هذه المجازر بالمجازر الحميدية حيث سقط فيها أكثر من ثلاثمئة ألف شهيد. وينقل عن السلطان عبد الحميد قوله “بدي اقتل كل الأرمن وخلي واحد حطو بالمتحف”.

أما الذروة فكانت خلال الحرب الكونية الأولى، خصوصا بعد الانقلاب الذي قام به أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا في العام 1913، فتولوا الحكم الفعلي في السلطنة وصار السلطان محمد الخامس دمية في أيديهم، وأحيوا فكرة السلطان سليم الأول بتوحيد كل الأقوام والأعراق الخاضعة للسلطان العثماني، بغية خلق وطن عظيم وأبدي بلغة وديانة واحدة تسمى توران Turan أو الدولة الطورانية التركية. كان فكر أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا فاشيا إجراميا، استباح القتل والدمار حتى غدت كلمة تتريك مرادفة للإبادة. ويروي “حسن جمال” وهو حفيد جمال باشا، أن طلعت باشا قال لجده جمال: “لو انفقنا كل القروض التي أخذناها، لستر شرورك وآثامك لما كفتنا”. كما يروي والي ديار بكر محمد رشيد باشا بأنه استلم برقية من وزير الحرب (أنور باشا) تحتوي على ثلاث كلمات فقط: “أحرق – دمر- أقتل”. (وما أشبه اليوم بالأمس)، التنفيذ العملي لهذا المشروع بدأ بشكل تدريجي وممنهج؛ فمع دخول السلطنة الحرب وإعلان الجهاد “على أعداء الإسلام”، بدأ التجنيد الإلزامي لكل رعاياها. وبلغ عديد الأرمن في الجيش العثماني حوالي اربعين ألفا. في خريف 1914 صودرت جميع اسلحتهم واقتيدوا الى السخرة، فمات قسم كبير منهم أو قتل على يد الأتراك، ما حدا بالمجلس الوطني للأرمن أن يبلغ العثمانيين رفضه الانضمام مجددا الى الجيش، فاتخذ الاتراك من هذا الرفض حجة للقضاء عليهم. وقامت الحكومة العثمانية بناء على اقتراح أحد منظريها، الدكتور بهاء الدين شاكر، بالإفراج عن المجرمين في السجون التركية، وتنظيمهم ضمن تشكيلات وظيفتها ملاحقة الأرمن والقضاء عليهم. (أيضا ما أشبه اليوم بالأمس) فنفذت تلك العصابات عملها على أكمل وجه، ولاحقت الأرمن عبر الجبال والبراري وتفننت في التنكيل بهم وقتلهم، بالإضافة الى سرقة مقتنياتهم.

كل هذه المجازر حصلت تحت سمع العالم وبصره، ممثلا بالقناصل والسفراء الذين اقتصر دورهم على تدوين الأحداث وإرسال التقارير عن أساليب القتل وعدد الضحايا، أما دول الغرب فقد اقتصر دورها على فتح أبواب الهجرة الى أراضيها. (أيضا وأيضا ما أشبه اليوم بالأمس). لقد وضع الأتراك خطة تهجير المسيحيين وابادتهم وراحوا يفتشون لها عن الأسباب والمبررات، فتحدثوا عن التوسع المسيحي في الأناضول، وعن حركات تحرر وانفصال عن السلطنة، وألصقوا أيضا بالأرمن تهمة التعاون مع الروس والفرنسيين. ولكن، الطريقة المعتمدة والمنهجية المنظمة في تنفيذ عمليات القتل تشير الى أن الهدف كان القضاء على الشعب الأرمني بكامله، بخاصةٍ وأن حملة الإبادة هذه لم تقتصر على الأرمن الذين سقط منهم قرابة المليون والنصف مليون شهيد، ولكنها طالت أيضا اليونانيين بالإضافة الى السريان والأشوريين والكلدان وعرفت باسم مجازر “سيفو” لأن معظم الضحايا والذين يقارب عددهم النصف مليون، قتلوا بالسيف، هذا بالإضافة الى حرب الإبادة الصامتة بالمجاعة التي طالت مسيحيي جبل لبنان وحصدت منهم قرابة مئتي ألف شهيد، أي حوالي 40% من سكان الجبل. صحيح أن اليوم يشبه الأمس، ولكنه يختلف عنه في ناحية ملفتة، فقافلة الشهداء قد ازدادت وتنوعت ولم تعد مقتصرة على المسيحيين، بل شملت أيضا المسلمين بكل مذاهبهم، كما سائر طوائف المشرق، أما المجرم فيحمل نفس الذهنية الإلغائية لجميع من خالفه المعتقد والرأي. ولا شك أن عدم الاعتراف بمجازر الماضي شجع على ارتكاب مجازر الحاضر، ومن يعلم كيف ستنتهي هذه المآسي المتنقلة من بلد لآخر.

ولكن، كما أن التضييق المعيشي والظلم والإجرام التي عانى منها المسيحيون في السلطنة العثمانية لم تمنعهم من التمسك بإيمانهم وهويتهم ولغاتهم وثقافاتهم المتنوعة، ولم تقتل فيهم نزعة السعي الى العيش بحرية والتفاعل مع محيطهم والتناغم معه، إيمانا بقول السيد المسيح ” تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة”، فإن الإجرام الذي يمارس اليوم، والعنف، والمجازر التي ترتكب بحق شعوب المشرق بكافة تلاوينيها ومعتقداتها قد وحدت جميع الطوائف، الاسلامية والمسيحية، بمواجهة التكفير الذي ينقض جميع الأديان ويعمل لمحو ذاكرة الشعوب. وإيماننا، أنه مهما فعل فلن يتمكن، من إيقاف مسيرة الحضارة وإعادتها الى عصور البربرية.
إنها مأساة مئة سنة، رغمها، وبسببها، قررنا أن نكون غدا، وأن يكون غدنا مختلفا عن اليوم وعن الأمس، فنحن أبناء الإيمان والرجاء، نحن أبناء الفداء والقيامة، وأبواب الجحيم لن تقوى علينا.

ثم تحدث الرئيس الأسبق أمين الجميل وقال: “تحية من القلب الى أهلنا الأرمن في لبنان، وفي كل العالم بمناسبة الذكرى المئوية للمأساة الكبرى في تاريخ الانسانية.تحية وجع ذاقها لبنان واللبنانيون، تحية الى الطائفة الأرمنية الكريمة، المجبولة بالقيم اللبنانية والمسيحية والانسانية، تحية الى الشعب الأرمني الذي عانى دون أن يتوانى، وقاسى دون أن يتناسى، وثار دون أن يثأر، فانتصر واستعاد حقه المسلوب، ووطنه المصلوب، استعاد أرمينيا سيدة حرة كريمة مستقلة، دولة أخذت مكانها بين الدول، وموقعها على خارطة الامم. الارمن شعب مؤمن، والطائفة الأرمنية، مكون عريق بمسيحيته، وأرمينيا كانت بين الدول الاولى التي اعتنقت المسيحية رسميا في العام 301، ولعل الراهب القديس مسروب Mesrop قد اخترع خصيصا الابجدية الارمنية لترجمة الانجيل المقدس الى لغته الام. والحضور الارمني شراكة في تاريخ لبنان وتراثه، شراكة مع موارنة لبنان الذين قدموا كنائسهم ليمارس أهلنا الارمن طقوسهم الايمانية. ففي العام 1749، وهب آل الخازن وآل قبلان تلة بزمار للأرمن، ويحوي دير سيدة بزمار على ذخائر من الارض المقدسة الأرمنية. ودير خشباو، بيت التضرع والصلاة الذي شيد من قبل الرهبان الأرمن في العام 1750، جعل من اديرة لبنان مقرا للبطاركة الارمن، وايضا مدافن لهم. والوجود الأرمني في لبنان متجذر منذ قرون من الزمن، وطريق الحج الى القدس كانت تمر حكما في لبنان. ولا مكان لمن لا يحترم شعبا عاش في خيم غمرتها المياه والمستنقعات في الكرنتينا والمدور، فعملوا على تجفيفها، وحولوها الى دور سكن لائقة، ومنطقة تجارية مزدهرة أنعشت اقتصاد الوطن.لا مكان لمن لا يحترم شعبا بنى كنائسه قبل منازله، شعب عمد الى محاكاة الجماعة قبل الفرد، الى التحدث بلغة النحن لا الانا، ونحن أحوج ما نكون في هذه المرحلة الى هذه الثقافة، الى هذا الفكر الجامع، الى الاجتماع، الى الاتحاد، الى الانقاذ.
وأضاف:”نحن شعب واحد، نحن معاناة واحدة، ومصير واحد. ولبنان لن يبقى لبنان الذي عرفناه، يصبح غريبا عن ذاته، فاقدا معناه الانساني ودوره العالمي اذا فقد هذه الشراكة الخلاقة بين مكوناته. ولا ننسى وجه الشبه الحقيقي بين اللبنانيين والارمن، يكفي ان نعرف ان عدد سكان ارمينيا هو بحدود الثلاثة ملايين نسمة، مع وجود تسعة ملايين أرمني في الانتشار. قصة لبنانية باللغة الأرمنية”. وتابع:”تعددت الالفاظ توصيفا لواقع مأساة الارمن ابان الحرب العالمية الاولى وقبلها، وتعددت مفرداتها: القتل الممنهج، الترحيل القسري، الترانسفر ! إلا أن النتيجة واحدة: مأساة لاقاها الشعب الارمني بايمان وعزيمة وصمود وتشبث بالقيم والتراث، مقابل بيئة دولية متواطئة حينا، ومنكفئة أحيانا، ولاهية في كل حين، استفادت منها السلطنة العثمانية لتحقيق أهدافها وأغراضها. ان تهجيركم كتب بالدم، متزامنا مع تهجير طوائف مسيحية أخرى. عشنا معا المآسي، ومشانق ساحة الشهداء في بيروت في السادس من ايار من العام 1916 أبلغ إنباء من الكتب، وأصدق من كل الروايات. وهنا يصح القول إن دماء الارمن امتزجت بدماء المسيحيين المشرقيين الآخرين، من السريان والكلدان والاشوريين، وسواهم من الجماعات المسيحية التي عانت القتل والترحيل قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الاولى. ولا فرق ان قضى الانسان قتلا كما حصل مع الشخصيات الارمنية في اسطنبول في 24 نيسان عام 1915، او تشريدا وتجويعا في البوادي بعد اجبار النساء والاطفال والشيوخ على الرحيل ضمن ما عرف بمسيرة الموت باتجاه الصحراء السورية”. وقال:”قد يصح الحديث عن أرمن الشتات الا عن المواطنين الارمن في لبنان، قد يصح الحديث عن الرعايا الارمن في العالم الا في لبنان، فهم على رغم حداثة وجودهم: هم جذور لا مجرد أغصان، اصل لا فرع، شركاء ثابتون، دائمون، لا مؤقتون، ولا عابرون، ولا راحلون، بل مكون مهم في الوطن، وعامل توحيدي في الوطن، وركن ميثاقي في الدولة اللبنانية التي تقوم على الشراكة الكاملة. لا بد هنا من التذكير أن هذه الشراكة في هذا الظرف تمر بمنعطف خطير مع استمرار الشغور الرئاسي الذي سيبلغ بعد فترة وجيزة عامه الاول. هذه مسؤولية وطنية مشتركة، ولن نتخلى عن حقنا وواجبنا في إنجاز هذا الإستحقاق، لما لموقع الرئاسة من رمزية في جمع اللينانيين في الداخل وفي الدفاع عن لبنان في الخارج. حقنا ان يبقى مصانا المنصب الاول في الدولة المعقود للمسيحيين بشراكة كاملة من اخواننا في الوطن، والوحيد في العالم العربي. ان في واقع رئيس الجمهورية المغيب تغييبا لموقع ميثاقي ودستوري في هرمية الدولة اللبنانية، وتغييبا لرسالة وطنية داخلية تجسد وحدةاللبنانيين، وتغييبا لدور تفاعلي مع العالم دفاعا عن لبنان، وطن الحرية والإنسان. وواجبنا التزام ادبيات الديمقراطية في انبثاق السلطة وقواعد الدستور والانصراف الى انتخاب الرئيس من دون انتظار بيئات خارجية صديقة، او معادلات جديدة في المنطقة وفي العالم. ان مسؤوليتنا في لبننة الاستحقاق هي مسؤولية وطنية، والتاريخ لن يرحم. هو واجب وطني ودستوري ووجودي أن ننتخب رئيسا للجمهورية صنع في لبنان، دون كلمات سر، دون انصياع الا لاوامر الدستور، ولن يكون بمقدور اي نظام قديم او جديد، قائم أو مفترض، ان يطيح برئاسة الجمهورية تحت اي مسمى، لا في الجغرافيا ولا في الديموغرافيا، لانعقاد هذا المنصب ميثاقيا، وانبثاقه عن ارادة المكونات الوطنية الواجبة الوجود لا سيما في السلطات الدستورية الثلاث. هذه هي أبجدية لبنان، والا نكون من حيث ندري او لا ندري، قد قضينا على لبنان الرسالة، وهو أجمل تعبير عن لبنان أطلقه البابا القديس يوحنا بولس الثاني”.

وسأل الجميل: “لماذا نسترجع معا اليوم وبعد مئة عام، هذه الحقبة الاليمة من التاريخ؟ بالتأكيد لسنا ولستم من هواة نبش الماضي، ولا من محترفي نكء الجروح وصب الزيت على النار. بدل نراجع لاننا لم نتعلم من تجارب التاريخ، لأننا لم نعتبر من الماضي وأحداثه. لان المآسي مستمرة وباتت نمطا وسلوكا ومنهجية معادية للانسانية ومتنقلة في الزمان والمكان وحيث تدعو الحاجة والمصلحة. لان العالم بعد مئة سنة لا يزال يشبه ذاته، قتلا، وذبحا، وخطفا، وتهجيرا، وتعذيبا، واقتلاع شعب من جذوره، دون أن يتحرك ضمير أو تنهض همم لوقف هذه المشاهد الحاقدة، القاتلة، المجرمة. لأن العالم بعد مئة سنة لم يتغير، حرب مباشرة بين الكبار، وحروب الصغار بالواسطة نيابة عن الكبار، وحرب باردة في أحسن الاحوال، واصطفافات داخلية وإقليمية تحشد الدعم لهذا او ذاك من المحاور. نراجع الزمن وأحداثه دون ان نتراجع، لان الاحداث لا تنتهي بادارة ظهر المرتكب، وغسل يديه، ومكابرته، ورفضه الاعتراف بهول ما جنت يداه.
نسترجع الماضي لان المأساة تركت بصماتها العميقة على مدى أجيال، وبقي وجعها بالدم الذي سال، وبأنين الاطفال والنساء والشباب والشيوخ، محفورا في الذاكرة الفردية والجماعية للشعوب، وتنقيتها تحتاج الى وقفة شجاعة، الى فعل ارادة حرة، الى وقف مسلسل الغرق في المآسي وتحويلها قارب نجاة وسترة واقية من مظالم الحياة. نراجع ونسترجع الماضي لنكون قادرين على كتابة الحاضر ومواجهة المستقبل.

وقال:”في التاريخ القديم والحديث، يجب أن يعتبر عالمنا من كل الحروب. فحرب الابادة في روندا بين الاقلية التوتسية الحاكمة وبين اكثرية الهوتو المحكومة، قضت على أجيال وأجيال. ولم ينفع العيش المشترك والمصاهرة بين القبيلتين. وفي كمبوديا، يتحمل بول بوت او الاخ رقم واحد كما كان يطلق عليه، وجماعته من الخمير الحمر مصائب شعب فقد ربع عدده بسبب الاعدامات والجوع، فهلك اكثر من مليوني نسمة من أصل ثمانية ملايين كمبودي. كل هذا، ولم تتعظ الشعوب ولم يتحرك الضمير العالمي. ولماذا نذهب بعيدا في التاريخ والجغرافيا، بل آن لنا أن نعتبر من مآسي الحرب اللبنانية وما رافقها من خطف وقتل على الهوية، هوية الجغرافيا بين شرقية وغربية، وهوية الطائفة بين مسلم ومسيحي. هذه الحرب التي فرضت على اللبنانيين وكانوا وقودها، تشهد على المصير المشترك بين كل اللبنانيين. كل هذا ولم يتحرك الضمير العالمي، ولكن عسانا نكون قد اتعظنا كشعب واحد في وطن واحد من خطر واحد. عسانا نعي المخاطر فنتوحد لبنانيين بوجه مخاطر المنطقة وحرائقها التي تدور بين حروب المحاور والمذاهب، وبين الاصولية الزاحفة والتكفير المتنقل في الزمان والمكان. وما يحصل للمسيحيين في العراق وللجماعات اليزيدية والصائبة والشبك، وما حصل للأقباط في ليبيا، وللاشوريين في الحسكة ونينوى، يشي بمواسم خصبة لانتهاكات حقوق الانسان، قمعا وقتلا وذبحا وحرقا وتهجيرا. كل هذا ولم يتحرك الضمير العالمي ! وما يحصل في فلسطين ما هو الا حرب ابادة بالتقسيط، ومآسي شعب تهدف الى الغائه بدلا من إيجاد دولة. ولو تحرك الضمير الدولي منذ مئة عام، لما توالت المآسي، ولما بلغنا اليوم عصر الداعشية وأخواتها. فسياسة المحاور الدولية في التاريخ ولدت المآسي والحروب، الساخنة منها والباردة، وسياسة المحاور الحالية تولد الانقسامات الداخلية، والاصطفافات في محاور اقليمية، وولدت ايضا الاصولية الزاحفة حربا وخطفا وقتلا وشنقا وحرقا ورميا بالرصاص، في العالم العربي، وفي الغرب أيضا. وإنه لم يتعظ.

وظيفة، لا بل واجب المجتمع الدولي وقف الجرائم الكبرى، ومعاقبة المجرمين، أدول كانوا أم جماعات أو أفراد. واذا بقي ساكنا جامدا لاهيا متفرجا منسحبا منكفئا أمام هذه المخاطر، تستمر المآسي، ولن توفر لا دول، ولا جماعات ولا أفراد.

وكم يحتاج العالم الى منظومة علاقات تلغي الفوارق وتحتكم الى الديمقراطية وانبثاق السلطة وتداولها، وبهذه الطريقة، نجنب دولنا فوارق الاقلية والاكثرية، ونجنبها التفتت والتقسيم وخطر الخرائط الجديدة التي ترسم للمنطقة وتنقح وتعدل تباعا لزوم المصالح السياسية للدول الكبرى.كل هذا، ولم تتعظ الشعوب، ولم يتحرك الضمير العالمي”.

ورأى اجميل ان الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاقرار واجب، والاعتذار وملحقاته ليس عيبا بل كبرا، وعندها يصبح طي الصفحة الاليمة والظالمة ممكنا، وتصبح المصالحة مقبولة، لان الانسان اقوى من التجارب على قساوتها ومرارتها. فلننظر الى المانيا التي اعتذرت عن المحرقة ووقعت اتفاقية لوكسومبورغ في العام 1952 وتحملت مسؤولية تاريخية عن الرايخ وارتكاباته. فلنسترجع ما قاله أول رئيس لالمانيا الموحدةRichard von Weizs?cker” وقال:” على الالمان ان يواجهوا مسؤولياتهم عن التاريخ بموقف رسمي وعلني، ولا تكفي المواقف الملتوية او الغامضة. هكذا تكون الدول، اقرارا واستمرارية ومسؤولية، لا طمسا وإنكارا ومكابرة. أما الاتحاد السوفياتي السابق فاستمر ينكر مسؤولية ستالين عن مجزرة KATYN التي أتت على النخب العسكرية في بولونيا بغرض كسر العمود الفقري للجيش ومنعه من النهوض، مما يسهل إخضاع شعب بكامله، الى ان أقر الدوما في العام 2010 بالمسؤولية التاريخية. فكانت المصالحة بين الشعبين. ان خطأ بسيطا في المخاطبة او في السلوك يحتاج الى الاعتراف والإعتذار، فكيف بمأساة انسانية بحجم هذه المأساة الأرمنية التركية. والاعتذار يأتي تراتبيا بعد الاعتراف والاقرار، وقبل التعويض، وعندها يمكن الحديث عن صفحة جديدة في العلاقات، وعن صفح وغفران. أقول بكل صدق، ان الوقت حان لطي هذه الصفحة الاليمة والظالمة من تاريخ العلاقة بين تركيا والشعب الأرمني. فالانكار لم يعد ينفع، وكذلك المكابرة، بل ان اهل البيت سبق واستعاذوا بما ارتكبه الباشاوات العثمانيين الثلاثة.  تذكروا ما قاله ولي العهد الامير عبد المجيد الذي ندد بالمجازر وقال عنها “انها الوصمة الكبرى التي تخذي أمتنا وعرقنا”.

وقال عاكف باشا، “أنا اخجل كمسلم واخجل كرجل دولة عثماني. يا لها من لطخة في سمعة الامبراطورية العثمانية”. وكتب جمال حسن جمال وهو حفيد جمال باشا: “لا يمكن بلوغ السلام والراحة الا بتصالحنا مع التاريخ الحقيقي”.

أعتقد ان من مصلحة تركيا الحديثة وقد حققت إنجازات ضخمة على كل الصعد، احترام قواعد القانون الدولي، والقرارات الاممية، وعدم الرهان على مرور الزمن.فالقانون الدولي لا يعترف بمرور الزمن المئوي المسقط للتبعات القانونية للجرائم الكبرى. ويحضرني هنا ما قاله الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عن مآسي الأرمن، وقال “ان على كل دولة واجب مراجعة الماضي بالتطلع وجها لوجه الى الجرائم المرتكبة”.نعم الاعتراف والاعتذار، يبقى واجبا ادبيا وانسانيا وضميريا وقانونيا، وبعدها لن تجد أرمينيا الدولة، ولا الشعب الارمني المسيحي غضاضة في الصفح والغفران، لان مصالحة الشعوب هدف اسمى. نعم حان الوقت لإلغاء الفقرة 301 من القانون التركي الذي يجرم الاعتراف بالارتكابات في تركيا، واتخاذ موقف تاريخي، خاصة وانه سبق للرئيس رجب طيب اردوغان وقدم، وفي سابقة، تعازيه في ذكرى المأساة العام الماضي، وكان رئيسا للوزراء في حينه، وتحدث عن وجع مشترك. وفي العام 2009، قال اردوغان ان اصحاب الهويات الاثنية المختلفة تعرضوا للطرد من تركيا وكان ذلك نتيجة مقاربة فاشية. وبعد ان تولى الرئاسة، أكد استعداد بلاده لتحمل تبعات مجزرة العام 1915، اذا ما اثبت مؤرخون مستقلون ارتكاب المجازر.ودعا رئيس الوزراء احمد داود اوغلو الى ما اسماه “بداية جديدة” في العلاقات بين ارمينيا وتركيا، وذلك خلال مشاركته في الذكرى الثامنة لاغتيال الصحافي التركي الأرمني هرانت دينك، الذي كان يعمل على المصالحة بين الدولتين الجارتين”. وأضاف:”يبقى الاعتذار، وهو الاساس، وللاعتذار قواعد وأصول، لا أن يكون استعراضيا، او احتفاليا، او فوقيا، او ضبابيا.الاعتذار وجع عن الغير ومع الغير، الاعتذار تفاعل ايجابي بين المرتكب والضحية،الاعتذار فعل ندامة عن الماضي وثقة بالحاضر وايمان بالمستقبل، الاعتذار ليس فعل منابر بل ضمائر، ليس افتراضا بل لحظة توبة حقيقية، ليس الاعتذار لفتة إعتراضية في سياق موقف سياسي، ولا استطرادا عن الاساس، ولا خروجا عن الاصل بفتح مزدوجين لقول كلمتين عابرتين، الاعتذار تعبير صادق عن حالة جديدة ترجم الماضي وتدفنه الى غير رجعة، الاعتذار يمر بالضحايا، يتوجه اليهم، بل هو فعل ايمان وصرخة وجدان يصدر من العقل والقلب لا من أطراف الحنجرة واللسان.هكذا اعتذار جدير بالاهتمام، وقادر على طي صفحة أليمة في تاريخ الشعوب، وبلسمة مآسيها، والانطلاق نحو مستقبل مشرق للعلاقات. ولبنان اختبر المعاناة، واختبر ايضا المناجاة، منذ 1860 وما قبلها وما بعدها، والحرب اللبنانية تروي حكايات من دم ودمع، وهي لم تمنع من دفن الماضي الاليم وفتح آفاق الغد. سنة 2008 كان مؤتمر للمصارحة والمصالحة بين المسيحيين والفلسطينيين والحركة الوطنية، وبيت الكتائب شاهد حي على التواصل في أصعب اللحظات. ومآسي الشوف لم تحل دون المصالحة التاريخية التي رعاها البطريرك الماروني السابق الكارينال مار نصرالله صفير مع النائب وليد جنبلاط، وسبقتها وثيقة المختارة بيني وبين وليد بك جنبلاط بتاريخ 20 آب 2000. ولو بقي اللبنانيون أسرى ساعات الالم والغضب، لما قامت للبنان قيامة، ولبقيت مربعات طائفية، ولبقي مشروع الفرز على الهوية يقظا وجاهزا للحظة المناسبة. هذا هو الاعتذار الكبير، فعل ايمان حقيقي، كما فعل البابا القديس يوحنا بولس الثاني بالصفح عن مطلق النار عليه، وهو المواطن التركي محمد علي آغا، بل باعتذاره العلني وغير المسبوق عن كل أخطاء الكنيسة الكاثوليكية، طالبا الصفح من الله عما أسماه خطايا جميع المؤمنين، وندد باستخدام الاكراه والعنف خدمة للحقيقة. عندها لا يبقى امام الآخر سوى التجاوب، فيتعالى عن الوجع ويغلب الألم، وعندها تكون المصالحة الحقيقية بين الشعوب”.
وختم الجميل:”لا بد من وقفة تأمل وأمل، تأمل في الماضي وأهواله، تأمل في الحاضر ومخاطره الزاحفة أصوليات وارتكابات، واعتقال حريات، وخنق هويات، وتطهير عرقيات، وأمل في نهضة ضمير للانسان والمجتمع، تعيد الحق الى اصحابه، والقانون الى نصابه، والشعب الى صوابه. نحن اللبنانيين مدعوون الى كتابة خلاصنا بيدنا، بتجاوز الانانيات والعصبيات والمذهبيات،وبل بتجاوز الذات لنبني معا وطن الانسان، وطن الرسالة الذي يشكل مانعا صلبا لكل أنواع الحروب والمآسي. أنتم أهل حق، ومأساتكم مأساتنا، وجعكم وجعنا، نحن واحد في بلد واحد، وستبقى الشعلة الابدية مضاءة في يريفان تخليدا لذكرى الشهداء الارمن. وسيبقى النصب التذكاري في بكفيا شعلة مضاءة في سماء لبنان.عاش لبنان.

وقال البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في الذكرى المئوية للابادة
الأرمنية: “يسعدني أن أشارك في الاحتفال بإحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية، التي تدعو إليه بطريركية الأرمن الكاثوليك، وتستضيفه، مشكورة، جامعة سيدة اللويزه – زوق مصبح هذه. فيطيب لي أن أحيي أخي الجليل صاحب الغبطة البطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر الكلي الطوبى على الدعوة، وكل الذين شاركوا في إعداد هذا الاحتفال. كما أحيي المتكلمين قبلي من أصحاب الفخامة والدولة والمقامات الروحية والإعلامية والأدبية، مع التقدير للذين أحيوا الرقصة والوقفة الموسيقية.
ويطيب لي أن أقول كلمة في المناسبة باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان الذي يوضع هذا الاحتفال تحت رعايته. مئة سنة مرت على الإبادة الأرمنية في تركيا. فما بين سنة 1915 و1918 حلت المأساة الكبرى: في جميع قرى أرمينيا التركية وسائر مناطق السلطنة، قتل رجال بالسواطير والرصاص، ورحل الأطفال والنساء إلى صحراء بلاد الشام (دير الزور)، سيرا على الأقدام، فمات كثيرون منهم تعبا وجوعا وعطشا. وشحن أرمن طرابزون في السفن، ورموا في البحر الأسود. وهكذا هلك من أرمن تركيا حوالي مليون ونصف المليون نسمة، ولم يصلْ إلى مواطن الجلاء سوى مئتي ألف شخص. واستمرت الإبادة حتى سنة 1922. فحصلت مجازر في إزمير وجوارها، غربي تركيا الحالية، ضد الأرمن واليونانيين، قضى في إثرها نحو عشرين ألف نسمة، ومجازر أخرى متزامنة في مدن كيليكيا وقراها راح ضحيتها أيضا نحو عشرين ألف نسمة، وأخرى في شمالي غربي أرمينيا الحالية وقضى فيها نحو ثلاثين ألف أرمني. فيكون المجموع سبعين ألف نسمة. وفي أعقاب تسليم الفرنسيين لواء الاسكندرون إلى الأتراك في العامين 1938-1939 توالت عمليات تهجير أصابت من بقي من الأرمن هناك وسواهم من المسيحيين والعلويين. فغادر الأرمن في حينه وبمعظمهم إلى لبنان .ولكن قبل سنة 1915، ولأسباب سياسية تتصل بتنظيم أرمن تركيا للتحرر من السلطنة العثمانية، وتوسع روسيا على حساب “الرجل المريض”، وموقف الدول الأوروبية ضد هذا التوسع، كانت المجازر بين أيلول 1894 وصيف 1896، فذبح نحو ثلاثماية ألف أرمني، تحت نظر المراقبين الدوليين. وفي ليلة 28 و29 كانون الثاني 1895 أحرق ثلاثة آلاف أرمني أحياء، وكانوا قد لجأوا إلى الكاتدرائية في الرها ثم كانت مجازر 1909، بعد إعلان حركة “تركيا الفتاة” في تموز 1908. فقتل من الأرمن نحو ثلاثين ألف نسمة في كيليكية والقرى الأرمنية غربي ولاية حلب .

في هذه الذكرى المئوية لشهداء الإبادة الأرمنية، والشهداء الذين قضوا قبلها بإحدى وعشرين سنة، والذين ذبحوا بعدها بأربع سنوات، ثم بعدها بعشرين سنة، نحن اليوم ننحني أمام ذكراهم، آسفين ومنددين بهذه “الجريمة ضد الإنسانية”، التي لا يجرؤ مقترفوها الاعتراف بها وتحمل مسؤوليتها رغم شهادات الشهود العيان المنشورة في العديد من الكتب العربية والفرنسية والانكليزية. ولا المجتمع الدولي يتجرأ على قول الحقيقة أمام التاريخ الملطخ بدماء هؤلاء الشهداء، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ولا نستطيع في المناسبة إلا أن نذكر أيضا الإبادة التي طالت سنة 1915 المسيحيين الأشوريين والكلدان والسريان، فأبيد منهم أكثر من مئتي وخمسين ألفا على يد الأتراك والأكراد وآخرين استخدموا لهذه الغاية. وتم ذلك في مئات من البلدات والقرى، حيث خلف هذا القتل عددا كبيرا من اليتامى والأشخاص المتروكين من دون معيل، وفتيات ونساء مخطوفات، وأرامل، ولاجئين ومنفيين، وبعض الذين اعتنقوا الإسلام عنوة .هذه الإبادة الجسدية رافقتها إبادة ثقافية ودينية وجغرافية – سياسية. وقد اتسعت لتشمل الأناضول الشرقية وإيران ومقاطعة الموصل. والهدف إلغاء التعددية في السلطنة، واقتلاع كل فئة مغايرة إتنيا ودينيا .فكان اغتصاب الأراضي وسلب الممتلكات. وكانت تعديات على الإرث الثقافي: مبان تاريخية ومدارس هدمت، كنائس دنست، مكتبات ومخطوطات وكتب قديمة أتلفت، كانت محفوطة في الكراسي البطريركية والأسقفية وفي دير طور عبدين. أكثر من 250 كنيسة وديرا أشورية وكلدانية وسريانية هدمت. ما أشبه اليوم بالأمس، في ما يجري في سوريا والعراق من النوع نفسه، وكأنه مخطط استراتيجي متواصل؛ أعني المجازر البشرية والثقافية والأثرية والدينية، التي نراها بأم العين وتنقلها وسائل الإعلام وتقنياتها الحديثة. وكأن حضارة العالم تسير إلى الوراء، بالرغم من التقدم الثقافي والتطور التقني والاكتشافات العلمية. السبب واحد ومعروف وهو أن الإيمان الحقيقي كاتحاد بالله والتزام برسومه ووصاياه لم يواكبْ هذا التقدم وهذه الاكتشافات. والأدهى أن الدين استخدم وسيلة للتعصب الديني، فبات الإرهاب والعنف يمارسان باسم الدين. وهذه إساءة كبيرة لله نفسه، لا يمكن أن يقبل بها أي إنسان مؤمن حقا بالله، تجب إدانتها والعمل الجدي على وضع حد لها. وتزامنت هذه الإبادة، التي طاولت أبناء كنائسنا في هذه المنطقة من العالم، مع المجاعة في لبنان التي أرادتها السلطنة العثمانية سنة 1914، على يد جمال باشا، المعروف “بالسفاح”، قائد اللواء الرابع في الجيش العثماني. فراح ضحية هذه المجاعة مئتا ألف لبناني أي نصف سكان لبنان آنذاك، ومعظمهم من المسيحيين بأكثرية مارونية ولاسيما في دير القمر والمتن وكسروان والبترون.

فانتقاما لهزيمته المذلة على قناة السويس، أراد تعويضها من سكان لبنان. فكانت أولا أوامر، فضلا عن التوقيفات وأحكام الإعدام، بتعليق عشرات المشانق وكان أهمها في 6 أيار 1915، الذي أصبح عيدا وطنيا للشهداء، ثم قرار بتجويع السكان. فأقام حصارا بحريا على جميع المؤن، والجبل القاحل لا يستطيع إطعام الشعب، والسهول الخصبة كانت قد سلخت عنه إلى أن استعادها البطريرك الياس الحويك في مؤتمر Versailles للسلام سنة 1919. فضربت المجاعة سكان البلاد، بالإضافة إلى جحافل الجراد التي التهمت كل غصن أخضر، وسقوط قيمة العملة. فكان اللبنانيون يموتون من الجوع بالعشرات والمئات يوميا في الشوارع وعلى الطرقات، والعربات تلملم جثثهم وترميها في المقابر. إن وصف هذه المآسي في العديد من الكتب وبالصور تدمي القلوب من جهة، وتبين وحشية الحكام من جهة أخرى .

إننا نتساءل، أمام هذه الإبادات وهذه المجازر، وهي ظاهرة تتفشى أكثر فأكثر في غالبية الدول الإسلامية والعربية في زمن العولمة والتعددية: لماذا هذا العداء للمسيحية المشرقية وللمواطنين المسيحيين؟ وهم أصيلون وأصليون في صلب تكوين هذه البلدان، وصنعوا مع المواطنين المسلمين تاريخها وتراثها وحضارتها وعيشها معا. وكان جميلها أكثر بكثير من قبيحها. وبات السؤال العالمي يطرح شرقا وغربا: كيف يمكن للمسلمين أن يعيشوا مع غير المسلمين؟ وكيف يمكن لغير المسلمين أن يعيشوا مع الإسلام والمسلمين، إذا استمر تقبيحهم بهذه الظاهرات من التعصب والعنف والإرهاب؟

إن هذه المسألة مطروحة على المسلمين أنفسهم، فيما ظاهرة الإرهاب والتعصب في صفوفهم تطعن جوهر الإسلام. إنها حركات وتنظيمات سياسية تستغل الدين الإسلامي وتستخدم إسم الله، لكي تقتل وتدمر وتهجر وتكفر وتستبيح كل الحرمات. وفوق ذلك فإنها تحمل أبناء الديانات الأخرى التي تكفر بالدين، وتعمل على إخراجه بكل قيمه وإخراج الله من الحياة العائلية والاجتماعية والوطنية. أما نحن في لبنان فمتمسكون بميثاق العيش معا، مسيحيين ومسلمين، في دولة تفصل بين الدين والدولة، مع احترام كل دين وتعليمه؛ ولا تعطي امتيازا لأي دولة شرقية أو غربية؛ دولة تنتمي إلى الأسرة العربية وتحفظ التوازن بين جميع الدول، ولا تميل مع أي فريق. ونحن متمسكون بصيغة المشاركة في الحكم والإدارة بالمناصفة والإنصاف، وبديمقراطية التنوع القائمة على قبول الآخر المختلف، على أساس من الحريات العامة وحقوق الإنسان الأساسية، وفقا للدستور. فلبنان يقدم تجربة خاصة في حوار الحياة والثقافة والمصير. وكان للمسيحيين فيه دور مثمر في تعزيز التعددية الثقافية والدينية. ونحن كمسيحيين مشرقيين نعتبر أن وجودنا في بلدان هذا المشرق حاجة حيوية ماسة لها. يعود هذا الوجود المسيحي في إسهاماته الفكرية واللاهوتية والحضارية إلى ما قبل الإسلام، وتواصل معه ومع الشرق العربي، فأغنى الإنسانية بإنجازات ثقافية وعلمية وعربية معروفة؛ وأقام مع الغرب جسرا ثقافيا وعلميا أطلق قيم الحداثة ومناخات التفاعل والتحاور والتعاون بين هذين العالمين. نحن نعتبر بالمقابل أن الإسلام، بقيمه الغنية والمتنوعة، حاجة أيضا لعالمنا العربي، شرط عدم اعتباره عالما إسلاميا وحسب. ونعتبر أن المسلمين المعتدلين حاجة لوضع حد للتنظيمات الإرهابية والتكفيرية، ولاستخدام العنف باسم الله والإسلام.

إننا والمسلمين مدعوون للمحافظة على وجه الشرق العربي الجميل، ولحمايته من الجنوح به إلى رفض التنوع دينيا كان أم مذهبيا، إتنيا أم لغويا . واسمحوا لي أن أوطد هذا التأكيد على خبرتنا نحن الموارنة، وقد عايشنا العهود الإسلامية المتعاقبة، من الخلفاء الأمويين إلى العباسيين، ومن المماليك إلى العثمانيين. تعايشنا بالرغم من كل المصاعب والاضطهادات والتنكيل، وكان لنا شهداء عديدون، من بينهم ثلاثة بطاركة في عهد المماليك وهم: دانيال الحدشيتي ولوقا البنهراني وجبرايل حجولا، وذلك حفاظا منا على ثلاثة كانت الأغلى وهي: الإيمان الكاثوليكي والوحدة الداخلية والاستقلالية الذاتية. واستطعْنا بالصبر والتفاهم، وإيمانا منا بالتعددية الثقافية والدينية العبور إلى لبنان الكبير المستقل الذي أعلن في أول أيلول 1920، وتفصلنا عن الاحتفال بمئويته الأولى خمس سنوات. فيما نحن أمام شهدائنا الذين نحيي ذكرى استشهادهم المئوية وسائر شهداء كنائسنا المشرقية، نسأل الله أن يقبلهم قرابين روحية مع قربان ابنه الوحيد لحياة هذا الشرق وشعوبه.

واختتم الاحتفال بصلاة خاصة تلاها البطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر جاء فيها:”الابادة الارمنية جاءت دفاعا عن حرية ضمائرهم ومعتقداتهم الايمانية وسيادة كرامتهم الانسانية واستقلال اوطانهم، وتعلقهم بالقيم والمبادىء الانسانية التي ساروا على هديها طيلة حياتهم ليشهدوا امام ظالميهم وجلاديهم وامام العالم اجمع على سمو الحقيقة والعدل والحق وعلى قدسية اوطانهم وحضاراتهم وثقافاتهم وتراثهم الروحي والاخلاقي، ها اننا في ختام هذا الاحتفال نرفع اعيننا اليهم شاخصين ومدافعين عن كرامة الشخص البشري وعن كرامة كل مواطن يعيش على ارض الوطن العربي، وطن التجليات الالهية، ولينعم الجميع بالطمأنينة والاخوة الصادقة والسلام. فيا ايها الاله الرحيم المحب للبشر ارح نفوس ابنائك الشهداء في مقر القديسين وهب لنا ان نحيا بمقتضى ايماننا حياة لا عيب فيها، وثبتنا بكل عمل صالح بنعمة ورأفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي به يليق المجد والسلطان والعزة، الان وكل اوان والى دهر الداهرين امين.”

بعدها وزع على الحضور خمسمئة وخمسون نسخة مجانية من المجلد الذي حمل عنوان “مئة… وتستمر الابادة” للباحث ناجي نعمان، والصادر عن مؤسسة ناجي نعمان من سلسلة الثقافة بالمجان والذي يقع في 512 صفحة، ويتضمن مدخلا بعنوان “الابادة كيف لها ان تستمر بعد مئة”، ومقدمة بعنوان “هكذا لفظت المجازر حممها وثلاثة ابواب: الارمن شعب شاهد وشهيد ملخص تاريخي، شهادات في شهدائه 256 شهادة جمعت من 35 بلدا في لغاتها الاصلية ونشرت مع ترجمتها العربية، لشهود عيان وشخصيات تاريخية وفكرية وامنية من غير الارمن، تغطي الفترة الممتدة من المجازر الاولى الى اليوم، واخيرا باقة ورد وقرنفل جنى لبنان والعالم، 80 شهادة وضعت لمناسبة المئوية بأقلام باحثين وشعراء وادباء واصدقاء للمؤلف الباحث ينتمون الى 24 بلدا، وقد كتبوا في 14 لغة، كما تخلل الاحتفال عزف موسيقى وانشاد الالحان من التراث الأرمني قدمتها جوقة غرونغ البطريركية.

Share This