المسألة الأرمنية في زمن العولمة (1)

سياسة الخداعومصطلح “الإبادة الجماعية

تصادف هذه السنة، 2015، الذكرى المئوية للمجزرة الأرمنية التي أودت بحياة مليون ونصف مليون أرمني في إبادة جماعية. ليس هناك وصف لهذه المجزرة البشعة سوى أنها حرب إبادة جماعية، وهذه حقيقة تاريخية مثبتة بالأرقام والوثائق تدين سياسة عبد الحميد الثاني، ومن بعده سياسة جماعة “الإتحاد والترقي” ضد الشعب الأرمني وضد شعوب أخرى خضعت لسياسة الطورانية والتتريك، وهي تمثل واحدة من الجرائم الأكثر بشاعة في مطلع القرن العشرين. وبما أن تلك الجريمة بقيت من دون عقاب فقد تكررت باشكال أخرى، وبخاصة في فلسطين، وفيتنام، والعراق، ونيجيريا، وغيرها.

مرت العلاقات بين الأرمن والسلطنة العثمانية بفترات طويلة من الإستقرار السكاني، والرعاية الإجتماعية، وإحترام الشعائر الدينية لدى جميع رعايا السلطنة. تبوأ عدد من الشخصيات الأرمنية مراكز عليا في السلطنة، وبخاصة في الأمور الإدارية والمالية. يكفي التذكير بأن تطبيق نظام المتصرفية في جبل لبنان بدأ في العام 1861 بحاكم أرمني هو داود باشا ممثلا للسلطنة العثمانية، وانتهى بحاكم أرمني في العام 1914 هو أوهانس باشا.
بدأت المسألة الأرمنية في عهد السلطان الدموي عبد الحميد الثاني الذي تميز بالإرهاب، وبارتكاب مجازر متلاحقة، وبالتهجير الجماعي، واعتمد سياسة التهجير الجماعي للأرمن من جهة، وخداع الجماهير العربية والإسلامية بأنه منع الحركة الصهيونية من إقامة مستوطنات على أرض فلسطين من جهة أخرى. لكن الوثائق التاريخية، العثمانية منها والعبرية، أثبتت مساندته للحركة الصهيونية على إقامة العديد من المستوطنات. وهذا ما أكدته دراسة علمية رصينة للدكتورة فدوى نصيرات، صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية في العام 2014 عنوانها “دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين”.

تعرض الأرمن لمجازر متدرجة حلت بهم تباعا في الأعوام 1890-1896، فاتخذت طابع التهجير الجماعي كما حدث في ديار بكر وغيرها من المناطق العثمانية. وكانت الحصيلة النهائية مقتل عدد كبير من أرمن تركيا، وتهجير قسم آخر إلى القوقاس، فهزت تلك المذابح الرأي العام الدولي، وسارعت دول أوروبية كبرى معنية بالأزمة إلى إطلاق الوعود لحماية الأرمن من دون أن تسارع إلى نجدتهم في محنتهم.

حين تولت جماعة “الإتحاد والترقي” حكم السلطنة بعد إطاحة السلطان عبد الحميد الثاني كان في قيادتها عدد غير قليل من يهود الدونما، أي اليهود الذين اعتنقوا ظاهريا الإسلام. تبنت الجماعة شعار “الطورانية والتتريك” ضد العرب والأرمن وقوميات اخرى، وتلقت دعما مباشرا من المجلس الصهيوني العالمي. ما إن دخلت السلطنة العثمانية الحرب العالمية الأولى حتى سارعت إلى إتهام الأرمن بإثارة الفتن ضدها، وإعلان العصيان عليها بالتحالف مع دول خارجية. وفي آذار 1915، وضعت السلطنة المئة وخمسين ألف أرمني الذين كانوا يقيمون في إسطنبول تحت رقابة مشددة. ثم شكلت عمليات الطرد المنظمة مقدمةً للمذبحة التي ارتكبتها السلطات العثمانية ضد الأرمن. بعد أربعة ايام فقط على بداية العصيان الأرمني في منطقة فان، وعشية إنزال الحلفاء في الدردنيل، أعلنت السلطات العثمانية في ليل 24-25 نيسان 1915 خطة متكاملة جرى تنفيذها بالإستناد إلى لوائح إسمية أعدّت سلفا لتقطيع أوصال الجماعة الأرمنية ومنع التواصل بين أفرادها. وصدر قرار بإبعاد جميع الأرمن من السلطنة نحو سوريا، وتمت مصادرة بيوتهم بشكل إعتباطي بحجة البحث عن السلاح. وأعلن شنق عدد من كبار قادة الأرمن، فاعتبر تنفيذ قرار الإبعاد في ظروف جغرافية قاسية، وإعدامات بالجملة، ومجاعة، وأوبئة، بمثابة حرب إبادة حقيقية لإنهاء وجود الشعب الأرمني في السلطنة. أعطيت أوامر مشددة بالقتل الجماعي مع التنفيذ بطرق متنوعة. وكان الإبعاد مجرد غطاء شكلي لقرار الإبادة الجماعية. مات كثير من المبعدين عن ديارهم على الطرق، قتلاً أو جوعاً وعطشا، وتيقن الأحياء منهم أن الصحراء ستكون قبراً جماعياً لهم.

أشارت إحصاءات السلطنة العثمانية إلى وجود 1.295.000 ألف أرمني على أراضيها في العام 1914. لكن إحصاءات البطريركية الأرمنية أكدت وجود 2.100.000 أرمني في السلطنة. وتراوحت أرقام ضحايا المجزرة الأرمنية ما بين 800.000 وفق الإحصاء العثماني و1.500.000 وفق الإحصاء الأرمني، وهي تشير إلى أن عدد ضحايا المجزرة يقارب ثلثي السكان الأرمن تقريبا وفق الإحصاءين. فقضى 600.000 أرمني على طريق الإبعاد، ولاقى عدد مماثل حتفهم في أماكن أخرى، فبلغ العدد الإجمالي للضحايا قرابة المليون ومئتي ألف أرمني، بالإضافة إلى آلاف المفقودين. غادر قرابة 200.000 أرمني إلى دول القوقاز. وخطف عدد كبير من أطفال الأرمن، ومنهم من وضع في الملاجئ. نجا قرابة 150.000 من الذين احتضنتهم عائلات تركية وكردية وعربية، ومنهم من بقي حيا بعدما سجن في معسكرات للإعتقال ثم اطلق سراحهم. دلالة ذلك أن حرب الإبادة كانت من تخطيط وتنفيذ زمرة عسكرية عثمانية بعدما مهدت لها بالتحريض ضد الأرمن، وإتهامهم بالخيانة العظمى، وتحالفهم مع الخارج لإنهاء السلطنة. وهذا ما اتهمت به العرب أيضاً بعد إعلان ثورة الشريف حسين على السلطنة، وبدأت حملات الإعدام في سوريا ولبنان، بالإضافة إلى التجنيد الإجباري، وسفر برلك، والمجاعة، وغيرها من العقوبات الجماعية.

سياسة الخداع

بعد إعلان كمال أتاتورك الحرب ضد الحلفاء، تحولت الجمهورية التركية إلى دولة إقليمية قوية باتت الدول الأوروبية الكبرى المتصارعة ضمن محورين كبيرين بحاجة إليها إبان مرحلة ما بين الحربين العالميتين، فمارست تلك الدول سياسة الخداع مع الأرمن، فكانت تدين الإبادة الجماعية التي ارتكبت في حقهم، لكنها لم تتخذ مواقف جدية لمعاقبة مرتكبيها، أو إنصاف ذوي الضحايا والتعويض عليهم. نص إتفاق سيفر للسلام الصادر في 10 آب 1920 بين الحلفاء والسلطنة العثمانية، على إلتزام محاكمة المسؤولين الأتراك عن إرتكاب جرائم حرب ضد جماعات عثمانية محلية من أصول مختلفة، كالأرمن وقوميات أخرى، واعتبرت جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية. تمت الإشارة صراحة إلى مبدأ التعويض للضحايا في المادة 144 من معاهدة سيفر. لكن الدول الأوروبية بدأت تتخلى تباعاً عن دعم الأرمن لإقامة دولتهم القومية الجامعة ضمن حدود أرمينيا الكبرى، فخسروا أرمينيا الغربية التي ألحقت بالجمهورية التركية الحديثة النشأة. ومع دخول وحدات من الجيش الأحمر إلى أراضي الجمهورية الأرمنية، أعلنت الجمهورية الأرمينية، وكانت أصغر الجمهوريات السوفياتية. سرعان ما برز تعاون كبير بين الإتحاد السوفياتي والجمهورية التركية التي باتت دولة إقليمية مهمة. وتراجعت فرص المطالبة باستعادة وحدة أرمينيا التاريخية، وتحولت القضية الأرمنية إلى قضية إدانة لجريمة إبادة جماعية ذهبت ضحيتها أعداد كبيرة من الأرمن، تحول قسم كبير منهم إلى لاجئين ومهجرين قسرياً عن عن ديارهم، وكثرت الوعود اللفظية للتعويض عليهم، ومساعدتهم على إسترجاع أراضيهم، ورموزهم ومقدساتهم التاريخية.

اعتبرت مبادرة كمال أتاتورك في إلغاء السلطنة العثمانية وإعلان قيام الجمهورية التركية خطوة ذكية في ظروف تاريخية معقدة جداً، جعلت الدول الأوروبية المتصارعة على النفوذ داخل أوروبا وفي منطقة الشرق الأوسط تتسابق لتقديم التنازلات لها. وقّعت معها دول الحلفاء معاهدة لوزان في 24 تموز 1923، تخلى بموجبها الحلفاء عن إجراء محاكمة دولية عادلة لمعاقبة مجرمي حرب الإبادة الجماعية من الأتراك العثمانيين ضد الأرمن، كما تخلوا عن التزام منح التعويض للناجين من الإبادة بعد قيام دولة أرمينيا السوفياتية على مساحة ضيقة من أراضي أرمينيا التاريخية. ومع أن الجمهورية الجديدة ضمت نسبة قليلة من مجموع الأرمن إلا أنها أصبحت رمزاً لحق الشعب الأرمني في تقرير مصيره بحرية على أرضه التاريخية، ووطنا لجميع الأرمن في العالم.

 

مصطلح “الإبادة الجماعية

بعد الحرب العالمية الثانية، استخدم مصطلح “الإبادة الجماعية” رسمياً في محكمة نورمبرغ في 18 تشرين الأول 1945، وأدرج في المادة الثالثة من المحاكمة وفق النص الآتي: “أن يكون المدعى عليهم قد ارتكبوا جرائم قتل أو أساؤوا معاملة السكان المدنيين وعلى وجه الخصوص: إبادة متعمدة وموجهة، أي نفي مجموعات عرقية وقومية بحق السكان المدنيين في أراض محتلة محددة بهدف إهلاك عرق أو طبقة معينة من الشعب، أو مجموعات عرقية وقومية ودينية”.

وأكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قراراها رقم 96 الصادر في 11 كانون الأول 1946 أن “جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة في القانون الدولي يدينها العالم المتحضر ويعاقب على ارتكابها المجرمون الأساسيون والشركاء، سواء أكانوا أفراداً أم موظفين رسميين أم رجال دولة، وسواء أكانت الجريمة مرتكبة على أسس دينية أو عرقية أو سياسية أو غيرها”. غالبا ما كانت تلك الأعمال تبقى من دون عقاب لأنها بحاجة إلى قوانين ذات مفعول رجعي. لكن إتفاق الإبادة الجماعية طبِّق بمفعول رجعي على الهولوكوست فقط بذريعة أنها إبادة لعدد كبير من اليهود في ألمانيا النازية. لذا أصر المناضلون الأرمن على أن يُطبَّق إتفاق مماثل بمفعول رجعي أيضا على إبادة الأرمن. فهدف المحاكمة الدولية وفق إتفاق جريمة الإبادة الجماعية هو إتخاذ تدبير صارمة لمنع قيام أعمال تعتبر جريمة إبادة جماعية، ومعاقبة مرتكبيها بشدة، لردع كل من تسوّل له نفسه القيام بجريمة إبادة جماعية وتحذيره بأنه لن ينجو من العقاب الدولي العادل. ونصت مبادئ الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي على ما يأتي: “يمكن المطالبة بجبر الضرر بشكل إفرادي وجماعي عند اللزوم مباشرة من قبل ضحايا الإنتهاكات لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والعائلة المباشرة، والتابعين، أو أشخاص آخرين، أو مجموعة من الأشخاص لهم علاقة وطيدة مباشرة مع الضحايا”. وتضمنت المادة التاسعة من القانون الإنساني الدولي النص الآتي: “يجب ألاّ تطبّق قوانين تقادم الزمن في ما يتعلق بالقرارات التي لا يوجد فيها حلول فعالة لإنتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الإنساني الدولي”. تالياً، ليس من الإنصاف، أو العدالة الحقوقية أو الإنسانية، أن تستمر الجمهورية التركية الديموقراطية اليوم باستثمار الأراضي الأرمنية التي أفرغت من سكانها الأرمن قسرا بسبب الإبادة الجماعية. وليس من أخلاق الأفراد والجماعات التي تنتسب إلى نظام القيم وشرعة حقوق الإنسان، ومبادئ القانون الدولي الإنساني أن تستمر تركيا في الإفادة من تلك الأملاك والمقدسات التي كانت للأرمن وتحرم الشعب الأرمني من حقوقه التاريخية والإجتماعية، وأن يدمر تراثه الثقافي على أرضه. فاستمرار وضع اليد على تلك الممتلكات يشكل خرقاً فاضحا لنظام القيم الإنسانية، وللتراث الحضاري الأرمني الذي لا بد من إعادته إلى أصحابه الشرعيين لأنه جزء من التراث الإنساني. في حال عدم إعادة الممتلكات الأرمنية لأصحابها، والمؤسسات الدينية والإنسانية للمنظمات الأرمنية بصفتها الوارث الشرعي لها، فإن من واجب المنظمات الأرمنية إقامة شكاوى أمام محكمة العدل الدولية بإسم الناجين من الإبادة، أو بإسم ورثتهم، أو بإسم الكنيسة الأرمنية، لإسترجاع الممتلكات الأرمنية التي صودرت من غير وجه حق بعد حرب الإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات العثمانية وأفادت منها سلطات الجمهورية التركية من دون التعويض على أصحابها الشرعيين أو ورثتهم.

اعترفت حكومة ألمانيا بالتزاماتها الدولية لتعويض الممتلكات المسروقة من ضحايا الهولوكوست، ودفعت تعويضات للناجين من الضحايا. وكان لموقفها هذا أثر واضح في استقرار المجتمع الألماني ومنع تجدد الأفكار النازية فيه. حري بالدولة التركية أن تقوم بعمل مماثل لحل المسألة الأرمنية وفق نظام القيم الإنسانية والعقلانية من طريق إعادة الرموز الجغرافية والثقافية التي تعبّر عن هوية الشعب الأرمني التاريخية والتعويض على ضحايا الإبادة التي ارتُكبت في حق الشعب الأرمني عبر المؤسسات الأرمنية المعنية.

مسعود ضاهر

الجزء الأول من مقال بعنوان “المسألة الأرمنية في زمن العولمة”، “النهار”

Share This