المسألة الأرمنية في زمن العولمة (2)

دخل الشرق الأوسط في دائرة العولمة من خلال دول أوروبية استخدمت النزعة العسكرية من جهة، وحملت معها الأفكار التحررية للثورة الفرنسية من جهة أخرى. ثم أضافت الولايات المتحدة إلى تلك الأفكار التحررية مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، بالإضافة إلى دخول الأفكار الإشتراكية المطالبة بالعدالة الإجتماعية. هكذا بدأت عولمة الشرق الأوسط في مرحلة السيطرة الأوروبية وما قابلها من حركات التحرر الوطني المطالبة بالإستقلال، والسيادة الوطنية، وقيام دول عصرية وفق إتفاقات سايكس – بيكو الشهيرة. بالإضافة إلى الإبادة الأرمنية، شهدت تلك الفترة موت ثلث سكان جبل لبنان جوعاً، وبداية إطلاق المشروع الصهيوني إستناداً إلى وعد بلفور، وتقسيم الشرق الأوسط بين الإنكليز والفرنسيين، وصعود التيارات النازية والفاشية والديكتاتورية في عدد من الدول الأوروبية، وانفجار الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى مقتل عشرات الملايين من الناس، واستخدام الأميركيين القنابل النووية للمرة الأولى في التاريخ بهدف إبادة جماعية ضد اليابانيين.

شهدت هذه المنطقة إبان مرحلة ما بين الحربين العالميتين نزاعات أوروبية متعددة لعبت فيها بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وروسيا، دوراً بارزاً. شكل مؤتمر يالطا بداية تحول دولي نحو الحرب الباردة بين السوفيات والأميركيين. بنيت السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط على ركيزتين أساسيتن: السيطرة على منابع النفط والغاز، وحماية إسرائل ومشروعها الإستيطاني لإقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل. واستخدمت ركائز فرعية عدة لديمومة سيطرتها أبرزها: القواعد العسكرية في الشرق الأوسط، والأساطيل الأميركية المتنقلة في البحار المحيطة به، ودعم إسرائيل الثابت لتكون قاعدة عسكرية ضخمة تحمي المصالح الأميركية، ودعم كل من تركيا وإيران لمحاربة الشيوعية والقومية العربية، ثم إدخالهما في تنافس حاد على زعامة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وفي ظل عولمة أميركية وحيدة الجانب منذ نهاية الحرب الباردة، أعلنت الولايات المتحدة رغبتها في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد كحاضن للمشروع الصهيوني، واستخدمت إلى جانبه مقولات نظرية سلبية للغاية تتناقض جذرياً مع أفكار الثورة الفرنسية ومبادئ الرئيس ويلسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية. أبرز تلك المقولات: نهاية التاريخ، أي تأبيد الهيمنة الأميركية على العالم، وصدام الحضارات بعد تحويله إلى صراع ضد الدين الإسلامي، ونشر الفوضى الخلاقة التي أدت إلى تهجير جماعات مسيحية وإيزيدية من العراق وسوريا، وإعلان الحرب على الإرهاب الدولي مع الإستمرار في دعمه وعولمته، وتعزيز دور إسرائيل كنموذج لإرهاب الدولة العنصرية. فعصر العولمة الأميركية الوحيدة الجانب هو عصر الحروب المتلاحقة بامتياز. وقد نالت منطقة الشرق الأوسط الحصة الكبرى منها. وأبرز أدواته العنف العسكري، والشركات الإحتكارية، والصراع على النفط والغاز، وتنكر الغرب، بجناحيه الأوروبي والأميركي، للديموقراطية، وحقوق الإنسان، ومبادئ الثورة الفرنسية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم إيجاد حل عادل ودائم لحرب الإبادة التي تعرض لها الشعب الأرمني.

ساعدت إسرائيل على طرد أعداد كبيرة من الطوائف المسيحية والإسلامية عن أرض فلسطين، وإقامة مستوطنات لا حصر لها لإحلال جماعات يهودية وافدة من مختلف دول العالم. ليس من شك في أن العولمة المبنية على الإفراط في إستخدام القوة، وحرمان الشعوب من أبسط حقوقها هي عولمة همجية لا تبشر بحل عادل ودائم للمسألة الأرمنية.
دخلت العولمة الأميركية أخيراً في منعطف بالغ الخطورة لم تعد فيه الولايات المتحدة قادرة على لجم النزعة العسكرية في داخلها كأسلوب فاعل للسيطرة على العالم عسكريا، عبر احتكار سوق السلاح الدولي بنسبة تتجاوز 85 في المئة، وربط الإقتصاد العالمي بالدولار المأزوم في بلد مصاب بالتضخم الكبير وبالبطالة المتزايدة. في المقابل، هناك دلائل كثيرة تبشر بقرب ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب، وعولمة أكثر إنسانية بقيادة آسيوية، وتحديدا الصين والهند. وتزامن صعود الصين ومعها دول البريكس مع انتشار نظريتين متناقضتين حول مستقبل العولمة:

الأولى: تؤكد إستحالة إنفجار حرب عالمية ثالثة لأنها تدمر البشرية بأسرها. فاعتماد حروب فرعية أو حروب بالواسطة لن يحل مأزق الهيمنة الأميركية على العالم.
الثانية: تؤكد ان القوة الناعمة قادرة على مواجهة النزعات العسكرية وإلحاق هزيمة بعولمة القطب الأميركي. فعولمة القوة الناعمة ترفض النزعة العسكرية لحل المشكلات الدولية، وتتبنى شعارات الديموقراطية السليمة على المستوى السياسي، والليبيرالية المراقبة على المستوى الإقتصادي، وتعمل على بناء دولة علمانية يتساوى فيها جميع الناس في الحقوق والواجبات، وتطالب بإيجاد حلول سلمية وعقلانية للمشكلات المزمنة، وبخاصة المسألة الأرمنية والمسألة الفلسطينية، والتعاون الدولي لمحاربة الفقر، والجوع، والبطالة، والإختلال الإقتصادي على المستوى الكوني بعدما بات 1 في المئة من السكان يسيطرون على 50 في المئة من اقتصاد العالم.

                                                                                  

مسعود ضاهر

الجزء الثاني من مقال بعنوان “المسألة الأرمنية في زمن العولمة”، “النهار”

Share This