أين أصبحت المسألة الأرمنية في زمن التبدلات الإقليمية والدولية؟

طوال المئة عام المنصرمة، بقيت المسألة الأرمنية حية من خلال نشاطات ثقافية وإجتماعية وفنية متعددة قامت بها القوى الحية في صفوف الشعب الأرمني، فعقدت مؤتمرات دولية ذات أبعاد حقوقية وإنسانية هدفها المحافظة على هوية الشعب الأرمني التاريخية، ولا تزال مؤسسات الشعب الأرمني تتمسك بمواقف ثابتة ومبدئية لنيل حقوقها المشروعة كاملة. لا يتسع المجال هنا لذكر ما قامت به المنظمات الأرمنية من نشاطات مدعمة بالوثائق، وبالقرارات الدولية المنددة بالإبادة الأرمنية. فقد نشرت مئات الكتب والدراسات، بلغات عدة. لكن الإدانة وحدها ضد مرتكب تلك المجازر لم تعد تكفي بل المطلوب إيجاد حلول عقلانية لهذه المسألة التي تجاوزت المئة عام، وخصوصاً أن الدول الكبرى في النظام العالمي تبدو اليوم غير راغبة في اتخاذ موقف حازم لإلزام تركيا الإعتراف بالإبادة الأرمنية وإرجاع دور العبادة والكنائس والمؤسسات الأرمنية إلى أصحابها الشرعيين، والتعويض عن الخسائر البشرية والإقتصادية الهائلة التي لحقت بالأرمن.
توزع الأرمن بين مقيمين ضمن حدود دولة مستقلة ذات مساحة جغرافية ضيقة على جزء من أراضي أرمينيا التاريخية، مقابل أعداد كبيرة منتشرة في الشتات الأميركي، والروسي، والأوروبي والعربي. بالإضافة إلى جالية أرمنية مهمة لا تزال تقيم داخل تركيا.

في نيسان 1984، اجتمعت شخصيات عالمية مرموقة، منهم ثلاثة من حملة جائزة نوبل، في جامعة السوربون بباريس، وأعلنت قيام “محكمة الشعوب”. بعد تحقيقات مكثفة، أصدرت حكما أكدت فيه أن ما حصل في السلطنة العثمانية في العام 1915 في حق الأرمن جريمة ضد الإنسانية، ولا تخضع لتقادم الزمن التي تسمح بتبرئة المجرم. وفي آب 1985، أقرت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن الإبادة الأرمنية تشكل حقيقة تاريخية دامغة، وذلك بغالبية 14 صوتاً ضد صوت واحد وامتناع أربعة عن التصويت. وفي حزيران 1987 أعلن البرلمان الأوروبي أن المجازر التي ارتكبها أتراك عثمانيون في حق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى تشكل جريمة إبادة تماشياً مع إتفاق الأمم المتحدة حول مفهوم حرب الإبادة. وطالب الإتحاد الأوروبي الحكومة التركية بأن تعترف بتلك الإبادة لكي ينظر الاتحاد بإيجابية إلى طلبها الإنضمام إلى المجموعة الإقتصادية الأوروبية التي تعتبر أن عدم إعترافها بالإبادة يشكل عقبة كبيرة أمام انضمامها إلى المجموعة.

بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في العام 1991 سنحت الفرصة لأرمينيا السوفياتية لكي تتحرر من النفوذ الروسي، وتعلن قيام جمهورية أرمينيا المستقلة. لكن أجزاء منها لا تزال تحت سيطرة جورجيا، ولا يزال إقليم ناغورني كاراباغ موضع نزاع عسكري مع أذربيجان، ولا تزال أرمينيا الغربية بأكملها، التي تضم أهم الرموز الأرمنية وبخاصة جبل أرارات، تحت السيطرة التركية. في ظل عولمة القطب الأميركي الأوحد، المتحالف بقوة مع تركيا، ليس ما يشير إلى وجود موقف موحد للدول الكبرى يلزم تركيا الإعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، أو بإعادة أراضي أرمينيا التاريخية إلى الجمهورية الأرمينية التي تعاني من أوضاع جغرافية وإقتصادية ومالية صعبة للغاية، وسط تحالفات إقليمية شديدة التوتر بين تركيا وإيران.
شكل إعلان جمهورية أرمينيا المستقلة بداية مرحلة جديدة من مراحل نضال الشعب الأرمني لإسترجاع حقوقه المشروعة بالطرق السلمية. ومنذ بداية العام 1992، انضمت جمهورية أرمينيا إلى “مشروع منطقة البحر الأسود للتعاون الإقتصادي”، الذي دعت إليه تركيا، فاعتبر إنضمامها بمثابة إظهار للنيات الحسنة لتبادل العلاقات بين تركيا والجمهورية الأرمنية وفق سياسة براغماتية تستخدمها الدول التي تبحث عن حلول سلمية لمشكلاتها المزمنة مع دول الجوار. فليس في إمكان الجمهورية الأرمينية تجاهل البعد الجيوسياسي لوجودها ضمن دول عدة، وأن تركيا هي منفذها الإقتصادي الأساسي نحو الغرب. وقد عززت علاقاتها الثنائية مع إيران، وتحاول إيجاد حلول سلمية لمشكلاتها المزمنة مع جورحيا، وأذربيجان.

في 3 نيسان 1997، دعا البرلمان اللبناني شعب لبنان للوقوف إلى جانب القضية الأرمنية العادلة، وإعلان ذكرى 24 نيسان يوما لتضامن اللبنانيين مع الشعب الأرمني. وفي 11 أيار من العام 2000 صوّت البرلمان اللبناني على توصية اعترف فيها بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها السلطات العثمانية في حق الشعب الأرمني. تضمنت التوصية ما يأتي: “إن مجلس النواب اللبناني، لمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين للمجازر التي ارتكبتها السلطات العثمانية عام 1915 وذهب ضحيتها مليون ونصف مليون أرمني، يعترف ويدين الإبادة الجماعية بحق الشعب الأرمني، ويعرب عن تأييده المطلق لمطالب مواطنيه الأرمن، ويعتبر أن الإعتراف الدولي بهذه الإبادة شرط اساسي لمنع جرائم مماثلة قد تحصل مستقبلا”.

نخلص إلى القول، إن عدم الإعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن ومعاقبة المسؤولين عنها، شجع مجرمين آخرين في اليابان، وفلسطين، وفي العراق، وسوريا، وأفغانستان، وفيتنام، ونيجيريا وغيرها على ارتكاب جرائم إبادة جماعية مرعبة يهتز لها الضمير الإنساني. نخص بالذكر اليابان التي تعرض شعبها لقنبلتين نوويتين ألقتهما الطائرات الحربية الأميركية في نهاية الحرب العالمية على هيروشيما وناغازاكي، وأودتا بحياة مئات الألوف من الأبرياء اليابانيين. ما أثار دهشة العالم أن الطيارين الأميركيين اللذين ألقيا القتبلتين النوويتين على اليابان رفضا الإعتذار عن عملهما الإجرامي في الإبادة الجماعية وهما على فراش الموت.
مع تفجر الإنتفاضات العربية لعام 2011 سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها، من أوروبيين، وأتراك، وإسرائيليين، وعرب، إلى مساندة الإرهاب الدولي بالمال والسلاح، ففتحوا الأبواب لدخول عشرات الآلاف من الإرهابيين والتكفيريين إلى منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة إلى العراق وسوريا. برز تحالف واضح بين إسرائيل وتركيا والقوى الإرهابية التكفيرية، فبات الشرق الأوسط اسير إرهاب دول ومنظمات تكفيرية. ويشكل مشروع الشرق الأوسط الجديد مدخلا لتفكيك هذه المنطقة وإنهاء المسألة الأرمنية والمسألة الفلسطينية معاً.

الآفاق المستقبلية لحل الأزمة الأرمنية

بعد قرن كامل من نضال الأرمن المستمر، داخل جمهورية أرمينيا المستقلة ولدى أرمن الشتات، تأكدت الجماهير الأرمنية ونخبها السياسة والثقافية والإقتصادية أن ميزان القوى الراهن على المستوى الدولي لا يسمح بإعادة كامل أراضي أرمينيا التاريخية. كما أن الجمهورية الأرمينية الحالية لا تحقق بمفردها تطلعات الأرمن وأحلامهم، في وقت تؤكد الدول الفاعلة في النظام العالمي الجديد أنها ليست على إستعداد لإستعداء تركيا دفاعا عن عدالة القضية الأرمنية. لا تزال إستراتيجيا المنظمات الأرمنية لحل المسألة الأرمنية بالطرق السلمية صائبة وذات أبعاد مستقبلية واعدة. فاعتراف دول كبرى ومنظمات دولية كثيرة بالإبادة الأرمنية يتضمن إعترافاً صريحا بمسؤولية الجمهورية التركية في إيجاد حل عادل ودائم للقضية الأرمنية بصفتها قضية عادلة ومحقة. فالجمهورية التركية هي الوارث الشرعي للسلطنة العثمانية، وهي معنية بإيجاد حل عادل لهذه القضية بالتفاهم مع أصحابها الشرعيين. ذلك يتطلب من تركيا القيام ببادرة حسن نية تعيد إلى الأرمن الرموز التاريخية لإرث شعب حضاري عريق لا يمكن أن ينسى تاريخه أو يكف عن المطالبة بحقوق المشروعة.

ما ينطبق على المسألة الأرمنية ينطبق أيضاً على المسألة الفلسطينية. فلم تنجح إسرائيل، على رغم جبروتها العسكري وجيشها الذي لا يقهر، في طمس عدالة هذه القضية من طريق المزيد من التهجير والإستيطان. فعدد الفلسطينيين على أرض فلسطين وفي الشتات بات يقارب الثمانية ملايين نسمة. وعلى إسرائيل اليوم أن تعيد النظر في إستراتيجيتها بعدما أصبح وجودها مهددا.

وبعد مئة عام على الإبادة الأرمنية لا يزال الشعب الأرمني مستمرا في نضاله بوتيرة متصاعدة على رغم أن مواقف الدول الكبرى لم تكن فاعلة. كما أن موقف الرأي العام الدولي بات مستهجنا لأنه يؤكد تقاعس المجتمع الدولي في إدانة الإبادة الجماعية للأرمن التي تركت جرحا داميا لدى الشعب الأرمني وفي الضمير العالمي. الأسوأ أن بعض الدول تراجعت عن مواقف سابقة لها في هذا المجال. فاعتراف تركيا بالإبادة الجماعية للشعب الأرمني لم يعد اليوم كما أعلن عام 1987 شرطا لقبول عضويتها في الإتحاد الأوروبي. كما أن مجلس الشيوخ الفرنسي رفض إدراج مشروع قانون يعترف بالإبادة الأرمنية على جدول أعماله بتاريخ 24 شباط من العام 2000. ودعا سفير فرنسا بأرمينيا في تصريح له بتاريخ 11 آذار من العام 2000 الأرمن إلى الكف عن تحميل الجمهورية التركية الحالية مسؤولية إبادة جماعية ارتُكبت في زمن السلطنة العثمانية، “يجب عدم إلقاء جرائم الماضي على عاتق تركيا المعاصرة، وعلى أولئك الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد عند ارتكاب تلك الجرائم. ولا يجوز توجيه الإتهام إلى جميع الأجيال القادمة من الأتراك”.

لكن الدول الكبرى مستمرة في إطلاق تصريحات ومواقف تدغدغ عاطفة الأرمن من دون أن تقدم لهم دعم فعليا على أرض الواقع. اتخذت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي في العام 2005 قرارا تبنى فيه مصطلح “الإبادة الأرمنية”، ثم اعترفت 42 ولاية أميركية بالإبادة الأرمنية. وصدر قرار عن البرلمان الإلماني في صيف 2005 يشير فيه إلى “التطهير العرقي” ضد الأرمن، وأعاد الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العام 2006 تأكيد ضرورة اعتراف تركيا بالإبادة الأرمنية كشرط لدخولها إلى عضوية الإتحاد الأوربي. لكن تلك التصريحات والإدانات لم تساهم في إيجاد حل عادل للمسألة الأرمنية.
مع ذلك، هناك آفاق مستقبلية واعدة لحل المسألة الأرمنية سلميا. فالشعب الأرمني لا يخوض صراعا عسكريا ضد الدولة التركية، بل يبحث عن حل سلمي لقضيته العادلة. ومنذ العام 2006 تبلور نوع من الديبلوماسية البراغماتية بين تركيا وجمهورية أرمينيا للبدء بتطبيع سياسي بينهما على رغم استياء بعض أرمن الشتات. لكن هذا المسار البراغماتي ضروري لجمهورية محاصرة من أربع جهات، ولديها مشكلات سكانية، واقتصادية، ومائية كبيرة. كما أن غالبية الأرمن ترفض التنازل عن حقوقها المشروعة، أو تغليب السياسة البراغماتية في القضايا المبدئية.

ففي أيلول 2008 زار رئيس الجمهورية التركية، عبدالله غول، يريفان، في محاولة اختبار النيات لتطبيع العلاقات بين البلدين الجارين. وفي العام 2014 أقدم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على خطوة غير مسبوقة حين قدّم تعازيه عن المجازر الأرمنية. وفي 20 كانون الثاني 2015، نشرت صحيفة “النهار” اللبنانية تصريحا لرئيس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو دعا فيه الى “بداية جديدة” في العلاقات التركية – الأرمنية التي يشوبها خلاف تاريخي مرير بشأن عمليات الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الاولى. جاء ذلك لمناسبة الذكرى الثامنة للجريمة المروعة التي هزت تركيا وأرمينيا وأودت بحياة الصحافي التركي الأرمني هرانت دينك في كانون الأول 2007 في إسطنبول، والذي كان يدعو الى المصالحة بين الدولتين الجارتين. وتضمن بيان أوغلو ما يأتي: “ندعو جميع الأرمن، كما ندعو جميع من يؤمنون بالصداقة التركية – الارمنية الى المساهمة في بداية جديدة. ومن خلال كسر المحرمات فقط نأمل في البدء بمعالجة الالام العظيمة التي جمدها الزمن منذ العام 1915”.

الشعب الأرمني يريد إقامة علاقات طبيعية مع تركيا. لكن مواقف الحكومة التركية تشير إلى أنها تعتمد سياسة تطبيع الأمر الواقع للعلاقات على طريقة إسرائيل مع الفلسطينيين. وهي تطلب من الأرمن نسيان الماضي تحت ذريعة أن أتراك اليوم لا يتحملون وزر المجازر التي ارتكبها أتراك السلطنة العثمانية. نستذكر هنا أن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين استمرت عشرين عاما من دون الوصول إلى نتائج إيجابية. على العكس من ذلك، خسر الفلسطينيون المزيد من الأراضي، ولا تزال الأمم المتحدة عاجزة عن تحديد برنامج زمني لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين بسبب الفيتو الأميركي.

نستذكر هنا عبارة نيلسون منديلا الرائعة لإنهاء نظام الأبارتايد في دولة جنوب أفريقيا، حين قال: “نسامح لكن لا ننسى”. فلا يمكن الشعب الأرمني أن ينسى مأساته مهما طال الزمن. ويتطلب نجاح تطبيع العلاقات مع تركيا اعترافها بالإبادة الأرمنية، والتعويض المبرمج على ضحاياها، وإعادة الرموز الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية للمؤسسات الأرمنية. هنا بالضبط تكمن أهمية تغليب الصراع الحضاري على المستوى الكوني لوقف النزعة العسكرية ومحاولات السيطرة على العالم تحت ستار الحرب على الإرهاب. فإذا لم يعد في الإمكان محاكمة مجرمي حرب الإبادة الجماعية، فعلى الأقل تعترف الجمهورية التركية بالحقائق الدامغة التي تؤكد حصولها، وأن تتحمل جزءا من المسؤولية بصفتها الوارث الشرعي للسلطنة العثمانية. بهذه الصفة سيطرت على نسبة كبيرة من الأراضي الأرمنية وأدخلتها ضمن حدودها الجغرافية المعترف بها دوليا. ومن أول واجباتها التعويض على المتضررين من ضحايا المجزرة كمدخل لإقامة علاقات طبيعية بين الأرمن والأتراك.
الشعب الأرمني يطالب بحقوقه المشروعة وفق مبادئ الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي. وليس لديه نزوع لإستخدام القوة والأعمال الإرهابية ضد المؤسسات التركية. حمل معه قضيته العادلة إلى الدول التي انتشر فيها، في الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، وسوريا، ولبنان، ودول أوروبية، وغيرها. ولا تزال جالية أرمنية مهمة تعيش في الجمهورية التركية منتشرة بين بعض المدن والأرياف، ومنهم من أضطروا إلى تغيير أسمائهم وانتمائهم الديني. شكل الأرمن قاعدة إنتاجية وثقافية وإعلامية ومالية مهمة في الدول التي انتشروا فيها، وتعاطفت معهم غالبية الدول التي استضافتهم، وساعدتهم على الإحتفاظ بتراثهم الديني والثقافي واللغوي، وعلى تأسيس مدارس، وجامعات، ووسائل إعلامية خاصة بهم، إلى جانب انخراطهم الواسع في المجتمعات التي انتشروا فيها.
إذا كانت تركيا تريد اليوم أن تفتح صفحة جديدة لحل المسألة الأرمنية، فعليها الإعتراف بوقوع الإبادة الأرمنية. وليس من يحمل الجمهورية التركية مسألة تلك المجازر لكن تطبيع العلاقات بين شعبين يعيشان في دولتين مستقلتين يتطلب الإعتراف بوقوعها، وتجاوز ما امكن من تداعياتها السلبية. وبما أن الجمهورية التركية ورثت السيطرة على مساحات شاسعة من أراضي أرمينيا التاريخية، لا بد من مساعدتها لوصل حلقات تراث الشعب الأرمني على الجغرافيا التاريخية التي نشأ عليها، والتعويض على ضحايا الإبادة إنطلاقا من توقيع الجمهورية التركية شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة، وبخاصة قوانين حقوق الإنسان المعترف بها دوليا. ما يريده الأرمن من تركيا اليوم أن يحافظوا على ممتلكاتهم الثقافية، ومؤسساتهم الدينية الموجودة في الجمهورية التركية.

أخيرا، اعترفت دول كثيرة بالإبادة الأرمنية خلال المئة سنة المنصرمة، لكن المجتمع الدولي تقاعس عن القيام بخطوات عملية تساعد الأرمن على نيل بعض حقوقهم المشروعة. الأسوأ من ذلك أن المجتمع الدولي، وتحديدا غالبية الدول الكبرى الفاعلة اليوم في عصر العولمة، بدأت تنسى أو تتناسى الإبادة الأرمنية وتكتفي بتصريحات إدانة موسمية بعدما أفلت المجرمون من العقاب الدولي. لا بد من مواجهة أسلوب اللامبالاة الذي تعتمده الدول الكبرى تجاه هذه القضية. فالأمم المتحدة نفسها رفضت إدراج مرجعية الإبادة الأرمنية ضمن هيئاتها في مناسبات عدة، وبضغط من تركيا وحلفائها. هناك دول لا تزال تلتزم الصمت المطبق تجاه الإبادة الأرمنية بهدف كسب تركيا إلى جانب مخططاتها الدولية لإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس جديدة تتجاوز إتفاقات سايكس – بيكو القديمة وتفتح الطريق لتقسيمات جديدة لتحقيق الحلم الصهيوني بقيام إسرائيل الكبرى التي تجمع شتات يهود العالم.

لقد تراجعت مواقف بعض الدول الغربية عن مواقف سابقة لها بعدما ساهمت في دفع المسألة الأرمنية إلى الإنفجار الدموي الذي دفع ثمنه الشعب الأرمني غالياً من دماء أبنائه وأملاكهم، وهي ترفض استخدام علاقاتها الممتازة مع تركيا، وموقعها الفاعل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لإيجاد حل عقلاني وإنساني ودائم للمسألة الأرمنية. تناور وتراوغ لمنع إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية التي تعاني بالقدر نفسه من التجاهل طوال قرن بأكمله. بات واضحا أن السياسة التي تستخدمها كل من تركيا وإسرائيل في إحتلال أراضي الغير من دون مسوّغ قانوني، والقيام بعملية تهجير قسري بوسائل دموية تخالف أبسط حقوق الإنسان، والإستمرار في تهجير السكان عن أراضيهم من دون التعويض عليهم، تحرم كلتا الدولتين من سمات الدولة الديموقراطية التي تحترم حقوق الإنسان. وهما لم تستفيدا من دروس التاريخ وأبرزها أن النزعة العسكرية لم تحم الأنظمة النازية، والفاشية، والديكتاتورية، والتوتاليتاريةلكن ما يريده الأرمن اليوم هو التأكيد الثابت والواضح لعدالة قضيتهم بهدف التأسيس لعدالة دولية تعاقب جميع من ارتكبوا جرائم إبادة جماعية. ويطالب الشعب الأرمني بالمحافظة على هويته الإنسانية في موطنه الأصلي. فقد أجبر على الهجرة عنه قسراً ضمن مخطط مدروس لطمس هوية الأرض الأرمنية، وتشويه ما تبقى من التراث الثقافي والديني للشعب الأرمني بسبب غياب الصيانة والحماية، والتغييب المستمر للأرمن عن ديارهم الأصلية، وخصوصاً أن جميع الحكومات التركية المتعاقبة رفضت الإعتراف بالإبادة الأرمنية أو التعويض على ضحاياها وفتح صفحة جديدة مع الشعب الأرمني.

وعى المناضلون الأرمن منذ زمن بعيد أن الإعتماد على الدول الكبرى هو مجرد أوهام لأن تلك الدول لا تفتش إلا عن مصالحها، فالمصالح الإستراتيجة للدول الكبرى تفرض عليها اليوم التعاون مع دولة إقليمية كبيرة كتركيا، ولم تعد تبحث عن حل جذري للقضية الأرمنية على رغم الإعتراف بعدالتها. وأدرك المناضلون الأرمن هذه الحقيقة المرة منذ زمن طويل. هناك أغنية بالغة الدلالة تعود إلى العام 1890، لكنها لا تزال تنشد في المناسبات الوطنية الأرمنية لأنها تبرز وعي المجاهدين الأرمن. تقول كلمات الأغنية:

“لا يا أخي، لا يا أخي!
لا تأمل بالأجنبي
لا تصوبوا أنظاركم إلى البعيد عنكم
لماذا أنتم ضحايا الأوهام!
أعرف أن حملكم ثقيل، أيها الأرمن،
لكن، هل تظنون أن الأجنبي سيحمله عنكم؟”.

فهل يكون الحل الدائم والعادل للقضية الأرمنية وفق ما تصوره الشاعر سعيد عقل، على طريقته، حين قال: “لأن الشعب الأرمني أعطى الحضارة في كل حقول الإبداع فقد اصيب بكارثتين: أن تزال أرمينيا عن الخريطة كليا إلا في ثلثها، وأن يباد الملايين من شعبها وبخاصة من هم من الأنتلجنتسيا الأرمنية آنذاك. إنها لجريمة إبادة فوق كل تصور. أين هي هذه القضية اليوم؟ لا يجوز إنتظار قرار الدول الكبرى ليؤخذ حق الأمة الأرمنية. إستراتيجية فعالة ومتجددة إستمرارا من قبل القوى الأرمنية الفكرية والسياسية هي التي ستفرض أخذ القرار بعودة أرمينيا التاريخية. فالأمة الأرمنية في دولة تامة السيادة التاريخية مكسب للحضارة”. نعيد التأكيد أن المستقبل دوما لإرادة الشعوب التي تتمسك بحقها في تقرير مصيرها مهما طال الزمن. فهل تجد المسألة الأرمنية حلا عادلا ودائما إذا نجح العالم في حماية ما تبقى من الممارسة الديموقراطية، وفي إطلاق عولمة أكثر إنسانية؟

مسعود ضاهر

الجزء الثالثوالأخير من مقال بعنوان “المسألة الأرمنية في زمن العولمة”، “النهار”

Share This