مئة عام على الإبادة الأرمنية: الذاكرة بلسم الجرح المفتوح

لا تستطيع أرمينيا تجاوز الماضي. جزء كبير من البلد، الجميل، أشبه بمتحف يخلّد ذكرى «الإبادة الجماعية» التي حلّت بأبنائه عام 1915. في مئوية المجزرة نظمت يريفان مؤتمراً «عند سفوح أرارات» استعداداً للذكرى الأليمة. اليوم يرى الأرمن «أرارات» من تحت، فيما يحلمون ويخططون لدوس قممه.

تبدو الذاكرة في أرمينيا موجعة ومحفزة في آن واحد. الإبادة الجماعية التي يستذكرها الأرمن، في مئويتها الأولى، يرفضون أن تكون إقامة في الماضي بقدر ما هي تمسك بالحقوق، لذا كان شعارها «أنا أتذكر… وأطالب». أما رمزها، فهو وردة «الأنموروك» البنفسجية الجميلة. وردة تخالها شديدة الهشاشة، تعيش في كل أيام السنة، تزهر حتى على الثلج. والثلج هنا حافز إضافي لاستذكار المأساة. على كل تلة وجبل في يريفان نصب تذكاري للحدث. تسمية (جبل) «أرارات» تطغى على الدكاكين والمطاعم، وحتى التبغ المحلي.

لكل إنسان حكاية وذكرى. يجمع متحف الإبادة الأرمنية «دزيزيرناغابرت»، الذي يحتل إحدى تلال يريفان، بعضاً من تلك الحكايا على جدرانه. صور لمجازر تقطع الأنفاس. أطفال ونساء مسمّرون على الصلبان. أمهات يتفجعن على أبنائهن القتلى على الطرقات. قوافل المهجرين. آثار التعذيب والجوع. الصور تملأ المتحف. بعضها يحمل ملامح الأمل. أيتام أُنقذوا ووصلوا إلى مدينة جبيل اللبنانية. مساعدات غذائية وطبية، من ملبورن الأسترالية، للناجين. صور عرس لصبية أضاعت أخاها، وبقيت تحمل ذكراه وترويها وتروي معها قصة شعبها حتى الـ89 من عمرها. إلى جانبهم وضعت صور جلّاديهم. لوحة حقّي باشا «جزار النساء والأولاد الأرمن»، وصور جمال باشا السفاح، وغيرهم من المسؤولين العثمانيين. أما صور المثقفين، وكبار المؤلفين والموسيقيين، كالشاعر روبين سيفاك، والصحافي تيزان كيليكيان، والمجدد في الموسيقى الأرمنية، الراهب غومتياس، إلى الروائي ملبورن، فهم أيقونات أرمنية، وحماة التراث. لهم مكانتهم الخاصة بين ضحايا الإبادة.
فوق المتحف، على رأس التلّة، تضاء الشعلة الدهرية. صفوف من الزائرين، من مختلف الأعمار، الذين يحملون ورودهم ليضعوها أمام الشعلة، تخليداً لذكرى شهدائهم. دموع خفيفة يحاول البعض إخفاءها، أطفال لا يجدون حرجاً في إطلاق العنان لمقلهم. قد يكونون أكثر تأثراً بصور أترابهم في جوّ المتحف، وبالرهبة التي تضفيها الطريق نحو الشعلة.
من وحي «الجبل السليب»، وقبل أن يحل يوم الذكرى في 24 نيسان، انعقد في يريفان مؤتمر تحت عنوان «عند سفوح أرارات»، شارك فيه ممثلون عن الشتات الأرمني، استعداداً لإطلاق الاحتفالات المئوية. حوالى 160 وسيلة إعلامية دُعيت للمشاركة. روسيا كان لها الحصة الأكبر، بعد الإعلام الأرمني. هذه «الحصة» تُفهم أسبابها خلال اللقاء مع الرئيس سيرج سركيسيان. الرجل أكد أن بلاده تتمتع بعلاقات ممتازة مع موسكو «التي تعد عنصراً أساسياً للاستقرار والأمن والتنمية الاقتصادية، حيث إن موسكو أكبر شريك لنا بتبادل تجاري بلغ 1.4 مليار دولار عام 2014». ولفت إلى وجود «1300 مشروع روسي في البلاد برأس مال بلغ 3 مليارات دولار في قطاعات هامة مثل البنية التحتية والطاقة والصناعة، فضلاً عن وجود مليوني أرميني يعيشون في روسيا، يحولون أموالهم لبلادهم». كذلك، رأى، رئيس البلاد، أن تنظيم هذه الفعاليات يرمي إلى جذب الانتباه لجرائم الإبادة الجماعية، داعياً نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، ليشارك في الاحتفالات الرسمية في 24 نيسان، «ولكن أنقرة ما زالت تتبنى سياسة الإنكار». ورغم توقيع بروتوكولات للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين «ولكن البرلمان التركي لم يوافق عليها حتى الآن»، مؤكداً أن بلاده لم تغلق الباب أمام تركيا، برغم أن الأخيرة انطلقت من «سياسة صفر مشاكل إلى صفر جيران».

وأشار، أيضاً، إلى أنّ «أرمينيا طوّرت علاقات التعاون مع الولايات المتحدة في مجالات الأمن والاقتصاد، التي سوف تشهد المزيد من التقدم في المستقبل». وأضاف أن بلاده تتمتع بعلاقات ممتازة مع إيران وجورجيا، الدولتين المجاورتين، مشيراً إلى وجود اتصالات سياسية على أعلى مستوى مع طهران «التي تنفذ مشروعات اقتصادية وإنسانية مع أرمينيا».
في «اتشميازين»، مقرّ بطريركية الأرمن الأرثوذكس، لا يظهر الكاثوليكوس كاريكين الثاني أي حاجة لاستخدام اللغة الدبلوماسية التي يتقنها السياسيون في بلاده، إذ رداً على سؤال «أن المسيحية قائمة على المسامحة، فلماذا لا تسامحون تركيا؟»، أجاب البطريرك باقتضاب: «حتى المسيح لا يسامح من لم يطلب المغفرة». إنه يدرك أن درب «إعادة الحق» طويلة، بسبب المواجهة مع دولة «البطريرك الوحيد له صلاحية اللباس الكهنوتي الرسمي، الممنوع على جميع الكهنة والأساقفة»، وحيث كان «هناك 1000 كنيسة أرمنية قبل الإبادة، اليوم هناك 38 كنيسة فقط».

كاريكين الثاني لم ينسَ أن يشكر العرب على استضافتهم الجاليات الأرمنية، مطالباً «باستعادة الأراضي التي تملكها الكنيسة في اسطنبول والقدس”.

وبعيداً عن أعمال المؤتمر والخطابات الطويلة، يحتاج المرء في أرمينيا إلى دقائق للعودة إلى «الصورة». أحد جوانب هذه الصورة، بلدة خورفيراب. هناك تختلط المأساة بمشاعر الفخر. في دير البلدة، تحت سفوح جبل أرارات، حيث السياج الشائك و»أرضنا» التي يحرسها جنود أتراك، أُعلن أول وطن مسيحي في العالم. هنا في دير القديس كريكور المنوّر «انطلقت البشارة المسيحية». بين المواطنين رواية حاضرة: «سجن الملك كريكور سنوات طويلة في حفرة عميقة بين جدران القلعة، عقاباً له على التبشير بالمسيحية، لكن الرجل لم يمت، وصلواته أدّت إلى نجاة الملك من مرض خبيث، فكان أن اعتنق الأخير، وشعبه، المسيحية، حوالى عام 301 ميلادي».

إلى الدير يحجّ الأرمن من كل أصقاع الأرض. لديهم هنا ما يشعرهم بالفخر، كونهم أول شعب اعتنق المسيحية. في حفرة القديس الضيقة ينزل الزوّار عبر سلّم عمودي. صعوبة الحركة تضفي نوعاً من الرضى والبهجة على سيماههم. «من هنا انطلقنا» لسان حالهم يقول.
من أمام الدير يظهر جبل أرارات ليغطي الأفق بعظمته. بعد الانتهاء من إضاءة الشموع والصلاة يقف الزائرون متأملين الحدود والجبل. على بعد مئات الأمتار أرضهم. هي «صورة» يرونها مراراً، ويتناقلونها في يومياتهم وتفاصيل الحياة البسيطة. اليوم لا يملك الأرمن سوى صلواتهم و”تجديد” التاريخ في ذاكرتهم. مئة عام ولم تتغيّر الحكاية، من القاتل إلى المضطهَد والمسلوب.

مدينة بروح بلدة

تختصر يريفان عصب البلاد. يسكن العاصمة ثلث مواطني أرمينيا (3,2 ملايين نسمة). يساهم الامتداد الأفقي للمدينة المكتظة في إضفاء نكهة ريفية عليها. المباني الضخمة معدودة. يغلب الطابع السوفياتي والأثري على عمارتها. نظام السير الصارم يساعد على توشيح شوارعها الطويلة بروح السكينة. الأولوية دائماً للمشاة، وإشارات المرور مقدسّة في مدينة تسير فيها كيلومترات دون سماع بوق سيارة واحدة.

في المدينة المشهورة بأمانها وحاناتها، الموزعة في زوايا الأدراج السفلية على الطرقات العامة، يغلب على سياراتها الزجاج الداكن. حتى سيارات الأجرة تخفي ما في داخلها. أحد المواطنين يوضح ذلك: “الفوميه لا يحتاج إلى رخصة هنا، وعين الأمن ترى جيداً… والأهم أن السائقين يعرفون ذلك”.

إيلي حنا

الأخبار

Share This