الباحث سعد سلوم يتناول الإبادة التركية للأرمن.. هل يمكن للماضي أن يؤسس وطنية عراقية جديدة؟


لم تكن الإبادات المعاصرة في كوسوفو والبوسنة والهرسك وراوندا ودارفور من قبيل الصدفة او كانت اعمالا استثنائية، فالابادة تحدث، وستحدث مراراً وتكراراً، في ظل صمت دولي وشلل للمؤسسات الدولية وعدم فعاليتها ، كالأمم المتحدة، وتدخل انتقائي للدول الكبرى في ضوء مصالحها.

لم ينتهِ تاريخ الإبادات باختفاء النازية والفاشية، إذ أنّ لها شركاء معلنين وخفيين في كل مكان وزمان. مافيات وعصابات تزدهر في بيئات قلقة، وتختبئ جرائم عديدة في طيات كل جريمة إبادة وتطهير عرقي، وفي مثل هذا السياق الحتمي، فإن استهداف الرموز الثقافية جزء مكمل للجريمة وأحد عناصرها الجوهرية، بل أحيانا يعد الجزء الأهم، وسنختار مثالين للدلالة على ما نقول.

الأول في سياق الإبادة التركية للأرمن والثاني في سياق الإبادة الصربية للمسلمين في البوسنة.

فقد قطعت الحكومة التركية شوطا بعيدا في طمس جميع المعالم الأرمنية في الموطن التاريخي للأرمن، غيرت اسماء المدن وبدلت الخرائط لتمحو ذكرهم، ذوبت تركيا (ارمينيا الغربية) بشكل نهائي في الهوية التركية. استخدمت المدافع والديناميت لنسف النصب التذكارية واستخدمت الكنائس كأهداف لتدريب المدفعية. وحولت الكنائس الارمنية الى مساجد وسجون ومخازن وحظائر ومزارع.

كانت الابادة للجنس الأرمني التي تتالت بشكل فظيع من قبل الحكومات التركية المتعاقبة في القرن العشرين لا يمكن ان تكتمل من دون اقتلاع وتدمير الآثار الثقافية الارمنية كلها، التي ترمز الى 16 قرنا من الوجود الارمني التاريخي، لذا كانت النصب والرموز والآثار عوائق امام المشروع التركي للهوية البيوريتانية، ولا يمكن اعادة كتابة التاريخ من دون ممارسة اقتلاع شامل، او على الاقل، لا يمكن تسهيل تزويره او انكاره بدون التخريب المتعمد والتدمير الكامل للنصب التاريخية والرموز الدينية والثقافية الارمنية.

كان هدف التخريب المتعمد واحراق وتفجير الكنائس والمنشآت المدنية اثناء فترة الابادة 1915-1916 محو أية آثار ارمنية، وفي الفترة الممتدة من 1915-1920 دمرت الكنائس والاديرة الارمنية تدميرا كاملا، بينما دمرت جزئيا 691 منشأة دينية، بحيث ان مسحا ميدانيا أجري في العام 1964 في (سهل موش) بكامله لم يسفر عن أية آثار من بقايا الكنائس الارمنية على طول طريق (بينكول).

وبالنسبة للصرب القوميين كان تدمير الرموز الاسلامية من الفترة العثمانية اهم من ابادة وتشريد المسلمين، فقد كانت جريمة بناء تاريخي شيد في الفترة العثمانية لا يمكن ان تغتفر، وتوجب حكما صربيا عليه بالإعدام بالديناميت.

دمر الصرب القوميون الذين سيطروا على (بانجا لوكا) في البوسنة جميع ما طالته ايديهم من رموز الثقافة الاسلامية، واهمها مسجد (فرهاد باشا) الذي بني 1583 أثناء الحكم العثماني، وكان سعي الصرب لتدميره يتقدم على قتل المصلين فيه، و بعد نجاة هذا المسجد اربعة قرون من فتنة البلقان، كان قتله اخيرا بألغام مضادة للدبابات وضعها الصرب القوميون تحت اسسه القديمة ، فحولته الى ركام شبيه بركام النبي يونس في الموصل، وحتى هذه البقايا كانت تخيف الصرب لذا نقلوها لدفنها في مكان سري.

في سياق الطمس والتدمير الشامل هذا، اقرأ ما حدث في الموصل من تدمير منهجي ومتعمد للتراث الثقافي والحضاري العراقي كجزء من حرب الابادة ضد الهوية العراقية، وهي جريمة تستهدف الحلقة الاخيرة التي تجمع العراقيين الآن (الماضي) كما استهدفت حاضرهم خلال السنوات الماضية.

استهداف الماضي الغني في ضوء فقر الحاضر بالنسبة للعراقيين والانقسام الشديد في ظله، يستهدف آخر حلقة يمكن من خلالها تأسيس “وطنية عراقية” مستمدة من تراث ما بين النهرين. لذا سوف اتخلى في هذا المقال عن حذري الاكاديمي، يدفعني الى وضع نظارتي المنهجية جانبا، وضوح شديد ساطع لخطوات التدمير المنهجي والمتعمد للهوية العراقية منذ العام 2003.

واذا كنت لست ممن ينساقون لنظرية المؤامرة او يستسلمون لحقائق الجغرافيا السياسية العنيدة دون سؤال او تحد، فلا يفوتني تأمل تشكل ستراتيجية بعدة حلقات اراها ترتسم امام اعيننا، ونصبح ازاء روايتها مجرد دمى تحرك على المسرح بخيوط لامرئية، ونتحول الى كومبارس وادوات تنفيذ لعبة قدرية، من دون ان يستطيع الوعي تحريرنا. لعبة يقول لنا المفسرون ان وراءها : الولايات المتحدة، اسرائيل، تركيا، دول الخليج، ايران الخ. والقائمة تطول حسب نظريات المؤامرة، وكل جانب لديه نظريته الخاصة من المؤامرة ونسخته الخاصة من التاريخ.

في البداية كانت اطلاقة من دبابة اميركية على بوابة المتحف العراقي في العام 2003، إشارة رمزية الى ما سيحل بعدها من مفارقات. أعلنت ان الماضي لم يعد قائما، وهو لن يجمع العراقيين مجددا ما دام تخليق الحاضر منذ اليوم سيتم عبر سياسات كبرى، تعيد صياغة الجغرافيا العراقية بقوة التاريخ ما بعد الحداثية والمقبلة الينا بالدبابات والطائرات.

لم يكن العراق في نظر ستراتيجيا غرب ما بعد الحداثة سوى كتلة صماء من العراقيين، كان لا بد من تقسيمها الى هويات اصغر من (الفكرة الجامعة) وأكبر من (الافراد)، فأصبحت الهويات الجماعية هدف خطاب الانقسام السياسي، وسرعان ما سيكون تحويله الى انقسام اجتماعي مسألة وقت فحسب. فقدنا هويتنا الكبرى (العراقية) من جهة وهويتنا الفردية الصغرى في المقابل، اصبحنا شيعة وسنة وكرداً ومسيحيين وإيزيديين وشبكاً وتركماناً وكاكائيين الخ.

أطر الدستور 2005 ذلك وأضفى شرعية على هذا التباعد، مؤسسا لنموذج (دولة المكونات)، اختفت المواطنة كهدف وركيزة لبناء مشترك جديد، وتراجعت الفردية حاملة الحقوق، برزت وحوش المكونات وجهازها المفاهيمي وترسانتها الخطابية من المظلومية والاستحقاقات والمطالب، وأطل للواجهة ابطالها من نخب البزنس الطائفي.

صنف الآخر الداخلي عدوا، وارتسمت الحدود الثقافية بين الجماعات لكي يتم خلق تقسيم داخل العقول والقلوب قبل ان تستجيب الجغرافيا الاثنوطائفية من بعد وتتطابق مع الخرائط الذهنية. والهدف : تصفية التعددية كصمام امام ضد التقسيم، و القضاء على التنوع كمصدر غنى وثراء، ومن ثم خلق جزر صافية دينيا وعرقيا وطائفيا.

كانت هذه هندسة فوقية للانقسام من أعلى، استجابتها المباشرة تفكيك النسيج الاجتماعي عبر حدث صادم ثان اعقب الحدث الصادم الاول (الاحتلال)، جاءت تفجيرات سامراء 2006 مطلقة جنون الصدام الشيعي – السني، دقت اسفينا داخل الهوية الاسلامية العربية الواحدة، منذ الآن لم تعد هناك هوية عربية اسلامية، بل مجرد شيعة وسنة يتقاتلون منذ قرون ويستدعون من التاريخ اشباحا وقصصا واساطير، وبدأ ذلك يشكل هوية الصراع الرئيس خلال السنوات التالية، فقد الشيعة والسنة ثقتهم بعضهم، وفتح المجال امام الكرد للعب دور بيضة القبان، فالهوية القومية الوحيدة التي برزت في عالم ما بعد 2003 كانت هي الهوية الكردية.

انطلقت بموازاة ذلك ستراتيجيات ذوبان الهويات الصغرى للجماعات الاثنية والدينية في هوية كبرى لإحدى القبائل الاثنية الكبرى (الكرد، السنة، الشيعة) في نوع من الابادة الثقافية غير المعلنة : الشبك والكاكائيون والايزيديون والتركمان الشيعة والكرد الفيليون والشبك الشيعة يذوبون في هوية جامعة، فهم مجرد اقليات. أما من لا يدخل في لعبة التقسيم بين القبائل الاثنية الكبرى، فسيكون مشروعا لمهاجر او مهجر او نازح. وبدأت اعادة ترسيم جغرافيا بغداد والوسط والجنوب وفق المحدد الطائفي تظهر صورة جديدة لمخلوق التقسيم البشع، أو فرانكشتاين من اجزاء متكارهة، وتحول المنتصر على الارض في جميع الاحوال خاسرا للتنوع الذي هو مصدر وحدة وتوحيد.

الخطوة الثالثة كانت جريمة كنيسة سيدة النجاة 2010، التي اعادت سيناريو تفجيرات المعابد اليهودية في بداية خمسينيات القرن الماضي، وهدفها دفع من تبقى وتمسك من مسيحيي الوسط والجنوب للتفكير بالهجرة كخيار حتمي، فشهدنا خلال الاسابيع التي تلت الجريمة اكبر هجرة لمسيحيي بغداد في تاريخها المعاصر. مسيحيو الموصل الذين تدفقوا الى بغداد في نهاية الخمسينيات بعد هجرة يهود العراق وبعد ثورة الشواف بشكل خاص 1959، واحدثوا تحولا نوعيا في جو بغداد الثقافي وبيئته الاجتماعية والاقتصادية، عادوا في هجرة عكسية الى الموصل وسهل نينوى بشكل خاص، وملاذاتهم المؤقتة في عينكاوة ودهوك. منذ الآن اصبح الوجود المسيحي استثناء في الجزء العربي المسلم من البلاد، وهو خطاب تبناه بشكل علني او مضمر اليمين المتشدد في اوروبا ممن يعملون على ايجاد توازن ديموغرافي مع الاقلية المسلمة المتنامية في الغرب، في استمرار لمشروع الحروب الصلبيبة التي هدفت الى كثلكة المسيحية الشرقية، استقطب الخطاب وترسانته الرمزية من الدلالات ابناء كنيسة المشرق الحية التي قاومت لقرون كثلكتها، رافضة مرجعية غربية لما تعده نسخة المسيحية الحقيقة والاصيلة. كما تبنى خطاب (الاستثناء) احزاب الاسلام السياسي في العراق التي تريد فرض هوية مثلية طائفية لازمة لحكمها مستقبل البلاد. المسيحيون هنا (اقلية نحافظ عليها) كما المسلمون هناك (اقلية تحافظون عليها) كما ذهب الى ذلك جوهر خطاب المالكي في افتتاح كنيسة سيدة النجاة.

الخطوة الرابعة، كانت احتلال داعش للموصل 2014، واطلاق ماكنتها التدميرية لآخر معقل للتعددية في العراق، ومن ثم وضع اوراق تقسيم البلاد كأمر واقع على الطاولة، تهجير المسيحيين وبقية الاقليات من سهل نينوى، وسبي نساء واطفال الايزيديين في سنجار.

اصبح المثقفون والنخب السياسية ورجال الدين والناس العاديون جزءاً من ماكنة الجنون العملاقة، يتداولون مصطلحات دولة شيعية وسنية من دون استحياء، واصبحت الدولة الكردية على مرمى حجر ولا ينقصها سوى الاعلان.

الخطوة الخامسة كانت تهدف الى غلق الطريق تماما امام أي عودة لخطاب وطني او تشجيع على هوية مشتركة او جامعة، من خلال تصفية التراث المشترك للعراقيين. تفجير الاضرحة والمزارات الدينية وتدمير متحف الموصل، ونهب المواقع الاثرية.

إذا كان العراقيون قد فقدوا خلال سنوات العنف الدامي ومتوالية 2003، 2005، 2006، 2010، 2014 أسبابا للوحدة وبناء المشترك الانساني وتوحيد الخطاب والمصير، واصبحوا مجموعة كائنات خرافية تدعى (مكونات) نفخ فيها الحياة سماسرة الهويات المتخيلة من احزاب الاسلام السياسي السني والشيعي والاحزاب القومية الكردية، وتقسيمهم حسب اديانهم وقومياتهم ومذاهبهم، فقد حان الوقت أخيرا للقضاء على آخر شيء يجمعهم : ماضيهم وذاكرتهم.

لا يمكن لأي مشروع لوطنية عراقية جديدة في ضوء انقسام العراقيين في الحاضر، إلا ان ينطلق على اساس ميثولوجي عظيم، هو الاشتراك في التراث الغني لميزوبوتاميا او اوروك، وهو تراث قائم على الفخر اللازم لصناعة اي هوية، تراث لا يستثني من حيث المبدأ اي جماعة دينية او قومية أو عرقية.

كانت الجغرافيا تعمل دوما بالضد من اي محاولة لوحدة العراق ودوره الاقليمي. فهذا الاقليم الحدودي الذي وصفته الرحالة البريطانية “فريا ستارك” القائم الزاوية والبغيض بالنسبة للمسارات المقدرة سلفا للبشرية، والواقع حسب “كامنيل” عبر واحد من أكثر مسارات الهجرة دموية في التاريخ حسب ما ينقل عنه الجغرافي “روبرت د. كابلان”

هذا العراق الذي هو في جوهره دولة شبه داخلية وحبيسة بكل معنى الكلمة على حد وصف الجغرافي المصري “جمال حمدان” والتي تكشف عن مشاكل ستراتيجية عويصة. هذا الاقليم المختنق الذي مع فقدان فردوسه (عربستان) فقد التتمة الطبيعة والاستمرار المباشر لسهل الرافدين العظيم.

هذا الاقليم غير المحمي بالجغرافيا، كان محط الغزاة منذ القدم. وها هو الآن يتعرض لأغرب غزو في تاريخ البشرية، غزو من جميع الجهات، من حثالات الحضارات السائدة وسلات قمامتها، غزو يكشف عن ازمة بنيوية شاملة، ازمة فشل الدولة الوطنية في العالم العربي، وفشل الاندماج الاجتماعي في الغرب.

تحول هذا الفشل الى ما يشبه شعبا هامشيا همجيا، مخلوق فرانكشتاين هجين من الاخفاق البشري، (امة رقمية) ينسرب جنودها مثل الحشرات من جميع ارجاء العالم، تناديها وسائل التواصل الاجتماعي للتمركز حول مكة افتراضية، دولة مستدعاة من تاريخ الرماد.

داعش في جوهرها هزيمة للجغرافيا، اذ يفتح الغرب ابوابه وحدوده، وتتجمع مخلوقات الغزو الانتقامي لتدمير اقدم رمز مدني للعالم القديم، رمز يراد له ان لا ينهض من جديد وان لا يوفر اسباب نهضة جديدة او وحدة لشعب معذب منذ عقود.

إذا كنت قد تخليت عن حذري الاكاديمي، فإنني لن اتخلى عن الامل، فهو ليس خيارا لدي، بل طريقة حياة. وبما أنني لا اتمتع بالحكمة، لا اريد التفكير خارج خياراتنا البشرية الفردية، لذا لن استسلم لحقائق الجغرافيا الصعبة التي تقول بنهاية العراق.

اؤمن بأن العراق واحد، وسيتوحد دوما مهما تقسم وانقسم، لأن منطق الجغرافيا يقول ذلك ايضا وإن يكن بطريقة ملتوية، ولأن الماضي ما يزال حيا، ويعلن عن ذلك بالرغم من السيناريوهات الكابوسية.

إذا كانت الوحدة نتاجا للدكتاتورية او الجغرافيا، فإن الحكمة نادرا ما صنعت وحدة لبلاد ما بين النهرين. لكن مع ذلك، بل بسبب من ذلك، علينا ان نستثمر الفرصة، فرصة ان نجتمع معا ضد الغزاة، ومن خلال ذلك نجد وحيا جديدا يجمعنا، ففي هذه اللحظة بالذات نكتشف أن الماضي الذي طالما كان مصدر مأساتنا، خليق بأن يكون السبب الوحيد المتبقي لوحدتنا.

سعد سلوم  

المدى

Share This